الانحدار المادي في عولمة الغرب

رؤى من أفكار الامام الشيرازي

 

شبكة النبأ: ثمة سؤال يُطرح دائما حول الغاية التي يسعى الى الفكر، والمبادئ، ومنظومات القيم، والاخلاق، والضوابط التي تتعلق بالحريات، وحقوق الانسان، والعدالة العالمية، لا شك أن الغاية تهدف الى سعادة الانسان، أما اذا لم يكن الانسان محور الافكار والقيم والمبادئ، فإن النتائج ستأتي بالضد من سعادة الانسان واستقراره وتطوره، وتوافر الظروف التي تسمح له بحياة كريمة، وهو أمر ينبغي أن تسعى له الافكار والقيم كافة.

هكذا يحاول النموذج الغربي أن يصور الامور وكأنها مسعى لتغيير العالم نحو الافضل عبر العولمة ذات الابعاد المادية، وهو يحث الخطى بقوة في هذا الاتجاه، لكن الخسائر الجانبية لا يتم النظر او التنبّه لها، ولا احد يدخلها ضمن حساباته، تحت ضغط المبدأ الذرائعي أو التبريري (الغاية تبرر الوسيلة)، فما يتعرض له فقراء العالم والضعفاء، كاد يضاهي ما حققته العولمة الغربية من نتائج مادية، حصرت الثروات لدى الاقلية.

لذلك في العولمة الجديدة او الحديثة، حاول الغرب أن يطرح النموذج الغربي الامثل لدعم التطور الانساني، إلا أن الخطأ الإستراتيجي الذي واجهته العولمة او هذا النموذج الحضاري، يتمثل بتهميشه لقيمة الانسان نفسه، وتركيزه على الجانب المادي، الاقتصادي، الربحي، لذلك تأطّرَ النموذج الغربي بالمادية وأقصى الانسان وكرامته، علما ان العولمة الغربية ليست أمرا جديدا على العالم.

فقد ورد في مقدمة كتاب الفقه: العولمة، للامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله): (أن العولمة من حيث اللفظ هي من الألفاظ الجديدة في قاموس اللغة العربية، كما إنها من المصطلحات الحديثة في عالم اليوم، وكذلك هي من الموضوعات المستحدثة الكثيرة الزبرج والبهرج، والكبيرة الصدى والسمعة، في عصر الذرة والفضاء، وفي عصر الانترنيت والارتباطات. لكنها مع ما يبدو من حداثتها وتجددها ـ وبكل جوانبها الفكرية والاقتصادية، والسياسية والمدنية ـ ليست شيئاً جديداً). ونقرأ ايضا في هذا الصدد: (ينظر الغرب إلى الأشياء كلها من الجانب المادي فقط، كما إنه لا يهتم بالإنسان كمحور في هذا الكون، ولذلك جاءت عولمته التي طرح فكرتها وحاول تطبيق نظريتها في العالم خالية من المعنويات، ومن الاهتمام بالإنسان، وإنما تتمحور عولمته حول الاقتصاد والماديات، وترى التنمية والنمو الاقتصادي للبعض فقط هو كل شيء حتى وإن كان ذلك على حساب سعادة الإنسان بل وحياته أيضاً).

نموذج العولمة الناقص

الانسان غاية ولا يصح أن يكون وسيلة فقط، لان استخدام الانسان كوسيلة يجعله عبدا، يفتقر للحرية في الفكر والسلوك، او ما نطلق عليه عادة استلاب الارادة والحرية الفردية، في النموذج الغربي نلاحظ سعيا حثيثا لتكبيل الاهداف العملية والفكرية بالمبدأ المادي، من هنا لا نجد ما يحمي قيمة الانسان وكرامته، كما أن النتيجة ستكون مرعبة في واقع الحال، على المستوى العالمي حيث المجاعات تضرب شعوبا بأكملها، كما في افريقيا مثالا، فضلا عن انتشار الفقر بنسب عالية في عموم العالم، لهذا لا يمكن أن يكون هذا النموذج مكتملا، إنه بالتأكيد نموذج ينطوي على نواقص جوهرية.

يقول الامام الشيرازي، في كتابه القيّم الموسوم بـ (الفقه: العولمة) في هذا المجال: إن (عولمة الغرب ناقصة، فيها النمو والازدهار الاقتصادي على حساب الآخرين، وليس فيها العدل والأخلاق في الجانب الإنساني، وعلى أثر ذلك نتج الفقر والحرمان، والجهل والمرض، والحرب والدمار، فملايين الجائعين، وملايين المرضى، وملايين الأميين، وملايين المعوّقين، وملايين المشرّدين والمهجّرين، وما إلى ذلك من المآسي والويلات المترتبة على مادية الغرب ومادية عولمته).

وعلى العكس من النموذج العولمي الغربي، ترى عولمة الاسلام أن الانسان هو المحور، وأن كرامته وسعادته تتقدم على كل شيء، لذلك تعطي للجانب المعنوي قيمة كبيرة واهتماما اساسيا لا يجوز اهماله، فكرامة الانسان اولا، والاهتمام به يتقدم على المادة والربحية بكل اشكالها، فما فائدة أن نصنع الاموال ونضاعف الثروات، فيما الفقر يضرب مساحات ونسبا متصاعدة من سكان العالم، لذلك يحتاج عالمنا الى اهتمام اكبر بالانسان.

يقول الامام الشيرازي في كتابه نفسه حول هذا الموضوع: (بينما عولمة الإسلام الناظرة إلى الجانب الروحي والمادي معاً، والمراعية للمعنويات أيضاً، والمهتمة بالإنسان كمحور أساسي، جاءت كاملة شاملة تجمع بين النمو والازدهار الاقتصادي، وبين العدل والأخلاق في الجانب الإنساني).

أسباب التفوق المادي

ومع النواقص التي يعاني منها النموذج الغربي، نجد انه فرض حضوره عالميا، وحقق نسبا عالية من النجاح، ترى ما هي العوامل التي ساعدت على ذلك، رغم اننا نؤشر مكامن خلل كثيرة، في هذا النموذج، تقف بالضد من مصلحة الانسانية، وكرامتها، وسبل التعايش وما شابه من حيثيات واجراءات كلها تقف بالضد من تطلعات الانسان، خاصة ما يتعلق بالعدالة في توزيع الثروات، وعدم حصرها في النسبة السكانية الاقل عالميا، وهم الاغنياء الذين يمتلكون الشركات الكبرى ويتحكمون بمسارات الاقتصاد العالمي.

لذا نقرأ في الاجابة عن هذا التساؤل في كتاب الامام الشيرازي نفسه: (يتبادر إلى الأذهان السؤال التالي، ما هي العوامل التي أدت إلى إبراز العولمة الغربية في الوقت الحالي؟. إن العولمة الغربية ظهرت بعد انهيار الشيوعية، وانفجار الاشتراكية في الداخل وتفكك اليمين التقليدي، فخرجت الليبرالية الجديدة باسم العولمة لتغزو الدول، وتدعو إلى حرية انتقال رأس المال، وإلغاء الحواجز الجمركية، وتطيح بالأنظمة لتعزيز حرية المبادلات التجارية، وذلك تحصيلا للربح الأكثر ولو كان على حساب الآخرين).

ونقرأ في هذا الصدد أيضا: (إن جوهر العولمة الغربية، لا يكمن في مظهرها، بقدر ما هو كامن في مضمونها، فإنها تمثل المشروع الغربي الحامل للمشروع الأيديولوجي للّيبرالية الجديدة التي ترتكز على قوانين حرية السوق والحرية المطلقة لانتقال البضائع والأموال والأشخاص والمعلومات والثقافة عبر الحدود، دون أيّة قيود لتحصيل الربح الأكثر).

إذاً ليس مستغربا أن يلاحظ المراقبون المعنيون، موطئ الخلل في هذا النموذج الذي ابتكره الغرب، وانه لم يعد يتماشى مع الوعي البشري المتصاعد، ومع تزايد الحاجة للتعايش ونشر العدالة العالمية، ونبذ تفضيل المادة على الجوهر او المضمون او المعنى او كرامة الانسان، من هنا يطرح الامام الشيرازي رؤيته بصورة حازمة في هذا الشأن فيقول بكتابه القيّم نفسه:

(إن نموذج الحضارة الذي ابتكره الغرب لم يعد صالحاً لبناء المستقبل، أي لبناء مجتمعات قادرة على النمو والانسجام مع الفطرة والبيئة وتحقيق توزيع عادل للثروة والدخل).

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 31/آذار/2014 - 28/جمادي الأولى/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م