مثقفون.. أم عاملون في المجال الثقافي؟

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: ماذا تعشّيت الليلة الماضية؟، رواية الجحيم لهنري بارباروس، ماذا قرأت في اليوم الماضي؟، باجة الحاتي.

في خلفيات مشهد قتل الاكاديمي والصحفي محمد الشمري على يد ضابط في الحمايات الرئاسية المتواجدة في المنطقة الخضراء، أحاول ايجاد مقاربة تحاول أن تفسر، ليس مقتل المغدور فقط، بل مقتل الثقافة، كقيم ومعتقدات وسلوك في المجتمع، وفي جانب مقابل، قتالها المستميت لكي تكون فاعلة ومؤثرة، أو على اقل تقدير البقاء على قيد الاستمرار والتفاعل والانجاز.

انطلق في هذه المقاربة، من اللغة، كسلطة تمتلك كل حيز التواصل الاجتماعي بين الافراد، كذوات عاقلة متفردة، هذه الذوات هي هويات غير مكتملة أو متجانسة أو متسامحة، نتيجة لشروخ أو جروح عانت منها.

في العام 2003، سقط تمثال الطاغية صدام حسين، قبل سقوط صاحبه ماديا، سقط عبر الصورة، وتمثلاتها الرمزية، وسقط معه (الجيش – الدوائر الحكومية – أجهزة الامن) وغيرها من تمظهرات تحت مسمى (الدولة).

اقتصرت عملية السقوط تلك، على ما هو مادي وواقعي ومجرد، لم تسقط معه انساق أو أنظمة الخطاب، أو الثقافة وقيمها السلطوية، بل اعادت تلك الأنظمة والانساق تنظيم نفسها بعد الصدمة الأولى، لتعيد انتاج هوية جديدة للافراد والجماعات تعمّق شرخها وجرحها اكثر من السابق.

في اغلب المواقع القيادية التي احتلها رموز النظام السابق، لم تكن الكفاءة او الإنجاز العلمي لصاحب الموقع هي شرط تسنمه المطلوب والمتحقق، بل كان رضى الحاكم ودرجة تملقه وكيفية التسلق على اكتاف الاخرين، هي الشرط الناجز للحصول على الموقع والاستمرار فيه.

السلطة إذ تفرض مثل هذا النسق في فعلها السياسي، فان نسقا اخر ثقافيا يتسرب الى المجتمع، يجعله متقبلا له، خاضعا لاشتراطاته.

بعد السقوط، استمر النسق هذا عبر فعل السياسة، وعبر ترسيخه اكثر في النسق الثقافي للمجتمع، فكان الولاء المطلق للحزب، أو العشيرة، او الطائفة، هو الشرط الناجز لاحتلال الموقع، بغياب تام لأي منجز او كفاءة.

اذا كانت (الهوية) كمفهوم وجودي في ابسط تعريف لها هو إجابة عن سؤال (من انا)، فانه في الواقع الاجتماعي يكون عن جواب اخر هو (من أكون). وهذا الجواب يحدده الدور الاجتماعي للفاعل في المجتمع.

من أكون، هي الهوية الفردية التي يتوهم الحاملون لها انها تعبر عن ذواتهم، وهذا الحامل لها، اقتصر على (بطاقات شخصية) تجيب عن سؤال الدور الاجتماعي.

أصبحت (البطاقات الشخصية) موازية (للهوية) الفردية، وبمقدار تعدد تلك البطاقات تتعدد الأدوار للفاعلين الاجتماعيين، وتضمحل (الهوية) الفردية، ك (أنا) متميزة ومتفردة.

اعرف كثيرين يحملون هويات (بطاقات) انتساب لجمعيات او منظمات او نقابات ثقافية، يستعرضونها امام الاخرين، وهم في الحقيقة لا يحملون من توصيف المجالات التي أدرجت في خاناتها أي علاقة من قريب او بعيد بها، واقصد هنا المجال الثقافي تحديدا. رغم انتشار ذلك أيضا في مجالات أخرى، كالطب او الصيدلة او الهندسة وبقية الحقول والنشاطات في المجتمع. هوية نقابة الصحفيين، على سبيل المثال، تعمّدك كصحفي، لا يعرف من ابجدياتها كمهنة أو سلطة رابعة، الا بمقدار ظهور اسمك في قوائم توزيع الاعطيات والمنح وقطع الاراضي، لكنك وانت تحمل مثل هذه الهوية (البطاقة) تصدق الوهم اللذيذ الذي يجعلك وبحكم ما تمنحه لك من سلطة في ابرازها والتباهي بها، صحفيا، ثم مثقفا، وبتراكم تلك الهويات (البطاقات) فانك بطريقة وباخرى تحاول ان تجمع كل ما تشظى من هويتك الحقيقية. وبحسب المثل العراقي الدارج، وهو تعبير دقيق عن حالة التجميع (من كل زيج رقعة). لهذا لا تمتلك الصحافة العراقية ان تكون سلطة رابعة حتى الان رغم ما توفر لها من إمكانيات وعلى راسها الحرية في التعبير. ولهذا السبب أيضا لا تمتلك الثقافة ان تكون فاعلا رئيسيا في التغيير اذا كانت هي نفسها تستكين لهذا الخضوع للعاملين في مجالها ولا تعطي نفسها للمثقفين منهم الا بمقدار ما تسمح به بعض المنابر الرصينة.

يذيّل الكثيرون من الكتاب والصحفيين ، بعد العام 2003 مقالاتهم وكتاباتهم، في الصحف العراقية والتي هي نتاج نهائي لهذا التجميع الغريب من الهويات، بتوصيفات مثل (كاتب – صحفي – اعلامي – اكاديمي – باحث) وكثير من هؤلاء لا يرقي حتى ان يحمل ربما حرفا واحدا من تلك الكلمات، لكنه هذا الاغتصاب المستمر لكل الهويات المزورة ومحاولة إعطائها صفة شرعية لفعل الاغتصاب.

في خلفيات المشهد السابق، الذي بدأت به هذه السطور، ما أدى الى مقتل المغدور هو مشادة كلامية مع القاتل، والكلام لغة منطوقة بواسطة اللسان، واتحدث عن الكلام كأصوات لغوية، ولا اعني به هنا، ما قد يكون صامتا لكنه معبر أيضا.

في خلفية ذلك المشهد، اللغة هي (خطر الاخطار جميعا لأنها هي التي تبدأ بخلق إمكانية الخطر) كما يقر هيدغر. وبما ان اللغة متورطة عميقا مع السلطة، كما يذهب الى ذلك نورمان فيركلو في بحثه (الخطاب بوصفه ممارسة اجتماعية) فان لعبة السلطة داخل اللغة تبدأ بما تحمله اللغة من قواعد وعلامات، أي ان شروط تحقق اللغة كوسيلة للتواصل، يجعل اللغة تحمل في ذاتها هيمنة على الذات. كما يرى إبراهيم قمودي في بحثه (في قدرة وحدود اللغة كنظام رمزي على تحقيق تواصل انساني).

سلطة اللغة تتمظهر في الفعل التواصلي من جهة كون اللغة هي أيضا سلطة اقناع واستقطاب، لا بما تفرضه هذه المرة، على المتكلم من قواعد وعلامات، بل بما تمنحه للمتكلم من صيغ القول فتجعله في مرتبة الحاذق للعبة الكلمة، فتنصبه الكلمات التي ينطق بها سيدا للكلام، وبالتالي سيدا على المتقبل فتسقط الذات في لعبة العبودية التي للغة.

من هنا، يمكن معرفة حجم الارتباك والقلق والاحساس بالهامشية والدونية التي استشعرها القاتل، الذي يحمل هويات (بطاقات) عديدة تشير الى الدور والمكانة التي يحتلها، بمقدار ضياع هويته الحقيقية تحت استلابات متعددة، وهو يرى القتيل (في مرتبة الحاذق للعبة الكلمة) التي يصبح من خلالها (سيدا للكلام) و (سيدا على المتقبل).

سلطة الكلمة، مارست هنا عنفا رمزيا، من خلال (تكوين المعنى بمجرد التصريح به، سلطة الفعل في العالم عبر الفعل في تمثل العالم وتتحقق في علاقة تنتج الاعتقاد في شرعية كلمات او شرعية الاشخاص الذين ينطقونها). كما يذهب الى ذلك إبراهيم القمودي في بحثه السابق.

الشرعية الحقيقية يمثلها القتيل، بموازاة شرعية مشكوك في امرها يمثلها القاتل، ويحاول ان يرسخ وجودا لها خارج (لعبة العبودية التي للغة) والتي لا يستطيع امتلاكها، أو التعاطي معها، ليستعيض عن ذلك بقوة الهوية (البطاقة) المجتزأة والتي ترخص له حمل السلاح والتنقل به.

نظام الخطاب القمعي، والثقافة الاجتماعية تسمح بذلك، وتكرس المواقع التي يشغلها الافراد بصورة سلبية دون مقاومة تذكر. اللغة هنا، تقوم بدور التوطيد للعلاقات الاجتماعية التي تحدد تلك المواقع، من خلال حجم الإذعان الذي يبديه افراد المجتمع في شغلهم لتلك المواقع.

لغة القتيل في المشادة الكلامية، قاومت اعرافا ثقافية سائدة، وطعنت فيها، من خلال الاعتراض على القاتل.

في واقع مزور، أو يتم تزوير كل شيء فيه، يصبح مايذيّل به الكتّاب ما يكتبون للدلالة على المواقع أو الادوار (كاتب – صحفي – اعلامي – اكاديمي – باحث) هو الواقع المجسّد لكل عاهاتنا وامراضنا وهوياتنا المبعثرة والمشوهة والمجروحة والمشروخة، والتي يتم تجميع اجزاءها (من كل زيج رقعة).

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 25/آذار/2014 - 22/جمادي الأولى/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م