أكثر من بجعة سوداء في حياتي

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: في المأثور من امثالنا (رب صدفة خير من الف ميعاد) وهي في الدارج الشعبي لا تختلف كثيرا عن ذلك، تتردد على السنتنا في لقاءات ومواقف لا نتوقع قبلها بما يحدث او بمن نلتقي، وهي بضم الصاد، ما يحدث عرضًا دون اتِّفاق أو موعد أو قصد، وبلا توقُّع أو انتظار، وحدث (وليد الصُّدْفة) يعني انه ارتجاليّ، فجائيّ، دون إعداد مُسبق. وهي قد تكون (صُدْفة سعيدة)، أو صدفة (مِنْ غرائب الصُّدَف) اضافة الى كونها حسنة الحدوث.

وهي بفتح الصاد، وتكون في بعض الحيوانات المائية كالقواقع، فهي مَحَارَتُها.. ولاحظ التقارب بين اللفظين، وقد تكون تلك الصدفة المختبئة، صدفة حسنة عند العثور عليها، تجعلك غنيا وتنقلك من حال الى حال.

اللاتوقع، وانتقل مع نسيم طالب الى تسمية جديدة، هي (البجعة السوداء) وهو عنوان كتاب يحمل عنوانا اخر فرعيا، هو (تداعيات الاحداث غير المتوقعة).

البجعة السوداء لدى المؤلف، تكشف دلالتها على حد تعبيره، محدودية معارفنا المستقاة من الملاحظة والتجربة، كما تشير الى  مبلغ هشاشة مداركنا عن الاشياء والامور.

ويستشهد بحادثة اكتشاف لواحدة من تلك البجعات، اطاحت بمصداقية مفهوم شائع تحدر من الوف من مشاهدات السنين لملايين من البجع البيض. وكل ما يحتاج اليه نقض هذه المقولة هو مجرد وقوع نظر احدهم على بجعة سوداء واحدة.

البجعة السوداء، هي الاكثر قدرة على رسم وتلوين حياتنا، لما تتركه من تبعات ثلاث عليها، كما يرى المؤلف، وهي:

ما نطلق عليه هنا مقولة (البجعة السوداء) هو عبارة عن حدث كان له تبعاته الثلاثة التالية: الاولى منها هي انها عرضية تقع خارج نطاق التوقعات المألوفة، حيث ان لا شيء في الماضي يشير الى مثل هذا الاحتمال بشكل مقنع.

والثانية منها، هي انها تتضمن تاثيرات بالغة الشدة.

اما الثالثة، فهي انه بالرغم من كونها واقعة (عرضية) فان طبيعتنا البشرية تجعلنا ننسج تفسيرات لها (بعد حدوثها على ارض الواقع) بما يجعلها قابلة للادراك والتوقع.

ويقترح نسيم طالب علينا ان نطبق تمرينه على حياتنا الشخصية، لنرى كم من بجعة سوداء فيها.

بدءا من اختيار المهنة، الى اختيار شريك او شريكة الحياة، مرورا بالرحيل عن البلد الاصلي، والخيانات والتعرض المفاجيء للفقر او للغنى. وهو يعلمك على طرح هذا التساؤل: ما هو نسق خضوع هذه الاحداث الى خطتك في الحياة؟.

النتيجة التي يصل اليها المؤلف هي، ان المنطق الذي يقود مصطلح البجعات السوداء يجعل من الامور الخافية عليك اشياء اكثر صلة بواقعك من الامور المعروفة لديك.

احاول تطبيق التمرين على نفسي.. ولدت في احد الاقضية في احدى محافظات الفرات الاوسط، كان فيه دار للسينما، وتلك صدفة، تضاف اليها كلمة سعيدة، لان والدي كان ياخذني اليها، في وقت لا يفعل ذلك اصدقاؤه مع ابنائهم.. كبرت على حب السينما، وحين التقي باقرباء او اصدقاء من تلك الطفولة البعيدة، لا احد منهم يتحدث عن فيلم شاهده، أو حسرة على المبنى الذي تحول الى محلات تجارية.

وحدي اشير اليه، واتحسر عليه، كانت هنا فيما مضى دار سينما.

صدفة اخرى، وايضا سعيدة في تبعاتها، مريرة في مقدماتها..

في الثانية عشرة من عمري، ننتقل الى بغداد العاصمة، وفيها تعرضت لمرض اجبرني على الاقامة في المستشفى، آلام مضنية، وادوية كرهت مذاقها حتى اليوم، لكنها الصدفة السعيدة تدخل من طريق اخر، وهذه المرة عبر اصدقاء المدرسة يحملون هديتهم بمناسبة خروجي من المستشفى، مجموعة من الكتب.

تلك النافذة بقيت مشرعة، وتتسع يوما بعد اخر، ليدخل المزيد من الضوء والهواء منها.

سنوات قليلة، وننتقل ابعد الى الشمال هذه المرة، وكركوك تحديدا، موطن الجماعة الادبية التي حملت تسمية (جماعة كركوك)، صدفة اخرى كي اعيش في وسط شديد التنوع قوميا ولغويا ودينيا ومذهبيا، اكراد، وتركمان، مسيحيون، سنة وشيعة، صدفة سعيدة، كلما عشت في مجتمع متعدد يقل تعصبك.

مثل الاخرين، كانت لدي احلام عديدة، احدها اني ساصبح سفيرا في يوم ما.. لكني لم استطع، وها انا اكتب لكم.

لم اختر مهنة الكتابة، قد تكون حلما هي الاخرى، لكني لا اذكره على وجه التحديد. كنت اقرأ لنفسي، واكتب لها، ولبعض الاصدقاء. بدأت شعرا وانتهيت نثرا.. ولم احاول او افكر بالنشر في صحف او مجلات السبعينات وما بعدها. مرة واحدة، ربما هي الجذوة التي اوقدت الحلم في ان اصبح كاتبا، قبل ان تنطفيء سريعا، تلك المرة اليتيمة، وهي صدفة ايضا، تنشر لي مجلة المزمار نصا عن الشاعر المتنبي.

لم اختر شريكة حياتي، صدفة شخصية اخرى شديدة الخصوصية، هي اقرب الى التقليدية منها الى الاقتران بفتاة الاحلام.

لم افكر بالهجرة خارج العراق، رغم سوء الاوضاع، وسنوات الحصار في التسعينات.

مكالمة هاتفية من اخي الذي يصغرني بعام واحد، بعد غياب عنا وعن العراق اكثر من ست سنوات، صدفة سعيدة، اسافر الى الاردن ثم يتصل بي من حيث يوجد.

شهران في الاردن، وحلم مغادرتها يتضاءل، مكالمة هاتفية اخرى، حصلت الموافقة على دخولي الى سوريا.

ستة ايام في دمشق، وخرجت الى العمل في احد المصانع.. موعد مع احد الاشخاص رتبه لي اخي، صدفة اخرى، مؤسسة ثقافية، الان استطيع ان اعود لاحتضان الكتب، وان اعيد فتح النافذة التي اغلقتها عند عبوري خارج الحدود العراقية.

بعد كل هذه الصدف، وهي في عرفنا الديني، ترتيب مسبق، أو اقدار، او تدبير الهي، او هي القسمة والنصيب، او انها الارزاق، أو غيرها من تسميات، تتحقق فيها جميع التبعات الثلاث التي يذكرها نسيم طالب في كتابه، فهي عرضية لا يوجد ما يشير اليها في ماضيّ الشخصي، وهي تركت تاثيراتها الشديدة على مسار حياتي، وهي ايضا تخضعني الى شرطها او تبعتها الثالثة، من خلال نسج الكثير من التفسيرات لها، في محاولة لجعلها قابلة للادراك والتوقع.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 20/آذار/2014 - 17/جمادي الأولى/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م