نشر الوعي وهدية المثقف للجماهير

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: من البديهي ان يفكر المثقف بتعميق الوعي ونشر الثقافة الصحيحة بين الجماهير، لعلمه بأن الجهل والتسطيح وانتشار الظواهر السلبية والسلوكيات المنحرفة، لا تؤدي الى تحقيق السعادة، ولذا نراه يسعى لتبيين الحقائق الثابتة في الحياة والمعادلات المتغيرة، وربما يقدم تجاربه الثرية في مسيرة البحث عن الحقيقة لأبناء جيله والأجيال القادمة، ليكون شمعة على طريق تقدم وتطور مجتمعه وأمته.

مهما حمل  المثقف من افكار ومفاهيم كبيرة وأصيلة ومعها تطبيقاتها العملية على ارض الواقع، من قبيل الحرية والعدل والمساواة وقيم إنسانية نبيلة، فانه بحاجة الى عملية استقصاء للواقع الاجتماعي الموجود، فربما هنالك تشكلات للوعي والثقافة في الاذهان او ميول وانتماءات راسخة في النفوس مستمدة جذورها من تلكم الافكار الأصيلة، نظراً على أن الحرية – مثلاً- هو مطلب إنساني قديم قبل ان يكون مشروعاً ثقافياً، كذلك مسألة "القيادة" او الولاء للفكرة او لشخص ما، فهذه كانت ملازمة للتفكير الإنساني منذ الايام الاولى لوجود "أبو البشر"، نبي الله آدم، عليه السلام.

ومن المفيد ملاحظة التجربة الباهرة والرائدة للرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، في نشر رسالته السماوية، وما تحمل من قيم ومبادئ سامية، بين اوساط مجتمع جاهلي مطبق على القسوة والفضاضة، فكان تسليطه الضوء على النقاط الايجابية في عاداته وسلوكه وخصاله، وعموم منظومته الثقافية، فهو لم يهدم كل شيء، ليقدم ما عنده من بديل. إنما أجرى حالة تقويم وتسديد وإغناء بعض العادات الحسنة بالبعد الانساني والاخلاقي، لذا جاء هتافه: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الاخلاق". فقد كانت خصال مثل الشجاعة والكرم والنخوة وغيرها، لم يحاربها النبي لانها تسود في مجتمع جاهلي غير مؤهل لحمل هذه المفاهيم والقيم، بل تبناها وأضفى عليها الهدفية بما يساعد الشعوب والاجيال في المستقبل على تحقيق طموحاتها في السعادة والتطور، وهذا ما حصل فعلاً في العهود الاولى من تاريخ الاسلام. 

وفي الاوضاع الراهنة التي تعيشها شعوبنا، فانها تتوقع الكثير من الشريحة المثقفة لأن تساعدها في الوصول الى مراقي التطور والتقدم من خلال عملية إصلاح ما أفسده الآخرون في الاصعدة كافة. وإن اقتضى الأمر التغيير والبناء من جديد. فقد شهدت الحقبة الماضية، الديكتاتورية والكبت والظلم في الجانب السياسي، كما شهدت حالة سلب او تشويه الهوية والتاريخ ومصادرة الحريات، وتطبيق المبدأ الفرعوني "لا أريكم إلا ما أرى"، ولعل هذا يعد من ابرز اسباب انفجار الغضب الجماهيري في البلاد العربية خلال السنوات الماضية، ونضع العراق، ضمن خارطة التغيير، على أنه السبّاق في مشروع التغيير، وحتى لا نكون ضمن المحدد الزمني الخاص باحداث ما يسمى بـ "الربيع العربي".

إذن؛ فالحديث عن حرية التعبير والرأي والعقيدة، والعدالة والانصاف والكرامة الانسانية، ليست بالمفاهيم الجديدة التي يسمعها الناس، فهم يعيشون ضنك حرمانها وآثار استلابها، إنما هم بحاجة الى تأصيل وتكريس، والاهم؛ إشراكهم في ايجاد التطبيقات العملية للحرية والعدالة والمساواة وغيرها، لانهم هم المعنيون بالدرجة الاولى بالطريقة والآلية التي تطبق فيها تلكم المفاهيم. فالحرية اذا كان لها تطبيقاتها في الغرب المسيحي، فان لها تطبيقات أخرى في الشرق المسلم، وهذا أمر لا اعتقد يماري فيه أحد.

ولنا خير عبرة في "تجربة الإصلاح" في ايران في عهد الرئيس الايراني محمد خاتمي، عندما حاولت شريحة مثقفة تسليط الضوء على مطلب "الحرية"، والتبشير به في الاوساط الاجتماعية وركزت بالذات على شريحة الشباب، وكان الآلية، البداية من الصفر، كما لو ان الشعب الايراني لم يشهد في حياته الحرية ولم يفهما من قبل. لذا كان الخطاب الثقافي المنشور آنذاك يدعو الى "الحرية" في معناها المطلق، فالحرية عندهم كل شيء، والنظر الى الأطر والضوابط على أنها عراقيل وقيود في طريق نيل الشباب حقوقهم..!.

وكانت النتيجة، اصطدام هذه القيمة المقدسة والسامية، مع هوية وانتماء المجتمع، وظهرت حقيقة جديدة على السطح، وهي ان الصراع هذه المرة ليس بين الجهة الحاكمة التي تحاول دائماً تقييد الحريات وتحجيم المطالب الجماهيرية بشكل عام، إنما بين النخبة المثقفة وبين الموروث الاجتماعي والهوية الثقافية للمجتمع الايراني، الامر الذي أبعد المشروع الثقافي عن طريقه الصحيح. بل وجعل من مصطلح "الإصلاح" مدعاة للفتنة وتهديد النسيج الاجتماعي.

وبالنسبة للوضع في العراق، يبدو تعميق الوعي ونشر الثقافة الأصيلة في المجتمع، يُعد ضرورة حياتية وحضارية، بسبب حالة اليأس والاحباط السائدة، مما يحملنا مسؤولية مساعدة المجتمع على تجاوز هذه الحالة غير الصحيّة، من خلال خلق أجواء سليمة يستنشق الناس فيها الثقافة والوعي بعيداً عن أي نوع من انواع الإلغاء والإقصاء.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 12/آذار/2014 - 9/جمادي الأولى/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م