اقتصاد سياسي تقدمي جديد

ديفيد سينسبري

 

في مقال نشرته صحيفة فورين أفيرز بعنوان "مستقبل التاريخ"، أشار فرانسيس فوكوياما إلى أنه برغم الغضب الواسع النطاق من عمليات إنقاذ وال ستريت، فلم يحدث ارتفاع كبير في تأييد الأحزاب السياسية اليسارية. وقد أرجع فوكوياما هذا ــ وهو محق في اعتقادي ــ إلى فشل الأفكار.

لقد كشف السقوط المالي في عام 2008 عن عيوب كبرى في نظرة الليبراليين الجدد إلى الرأسمالية، وتُظهِر النظرة الموضوعية إلى السنوات الخمس والثلاثين الأخيرة أن أداء النموذج الليبرالي الجديد لم يكن طيباً مقارنة بالسنوات الثلاثين السابقة لتلك الفترة من حيث النمو الاقتصادي، والاستقرار المالي، والعدالة الاجتماعية. ولكن البديل التقدمي الذي يتمتع بالمصداقية لم يتشكل بعد.

ولكن ما هي الخطوط العريضة الرئيسية التي ينبغي لنا أن نبحث عنها في هذا البديل؟ أولا، لابد أن يرتكز الاقتصاد السياسي التقدمي على اعتقاد راسخ في الرأسمالية ــ أي على نظام اقتصادي حيث يمتلك القطاع الخاص أغلب الأصول، وحيث تتولى الأسواق إلى حد كبير توجيه الإنتاج وتوزيع الدخل.

ولكن هذا الاقتصاد لابد أن يشمل أيضاً ثلاثة معتقدات تقدمية محدِّدة: الدور الحاسم الذي تلعبه المؤسسات؛ وضرورة تدخل الدولة في تصميم هذه المؤسسات من أجل حل المصالح المتضاربة وتوفير السلع العامة؛ والعدالة الاجتماعية باعتبارها مقياساً مهماً للأداء الاقتصادي في أي بلد.

لقد وقع خبراء الاقتصاد الكلاسيكيون الجدد في الخطأ عندما لم يدركوا أن الرأسمالية نظام اقتصادي اجتماعي، وأن المؤسسات تشكل جزءاً أساسياً منه. والواقع أن الأزمة المالية الأخيرة أصبحت أشد وطأة بسبب الإخفاقات المؤسسية العميقة، مثل السماح للبنوك بمستويات مرتفعة من الروافع المالية.

وقد أظهرت البحوث التجريبية أن أربع مجموعات من المؤسسات تؤثر بشكل كبير على أداء الشركات، وبالتالي على النمو الاقتصادي لأي بلد. وتضم هذه المجموعات المؤسسات التي تقوم عليها الأسواق المالية وأسواق العمالة، وترتيبات إدارة الشركات، وأنظمة التعليم والتدريب، ونظم الإبداع الوطنية (الشبكة التي تتألف من المؤسسات العامة والخاصة التي تبدأ التكنولوجيات الجديدة وتنشرها).

ويتلخص الاعتقاد المحدد الثاني في الفكر التقدمي في حقيقة مفادها أن المؤسسات لا تتطور تلقائياً كما يتصور الليبراليون الجدد. إذ يتعين على الدولة أن تشارك في تصميمها وإصلاحها. وفي حالة المؤسسات التي تقوم عليها الأسواق المالية وأسواق العمل، وكذلك إدارة الشركات، ينبغي للدولة أن تتوسط في التوفيق بين المصالح المتضاربة. وعلى نحو مماثل، تُعَد أنظمة التعليم والتدريب والإبداع الوطني إلى حد كبير من السلع العامة، وبالتالي فلابد أن تتولى الدولة تقديمها.

ولابد أن يكون من الواضح أن دور الدولة الذي أصفه هنا دور تمكينياً أو داعماً للسوق. وهو ليس دور القيادة والتحكم الذي يروج له الاشتراكيون التقليديون أو دور الحد الأدنى الذي يهيم في عشقه الليبراليون الجدد.

ويرفض الاعتقاد المحدد الثالث في الفكر التقدمي وجهة نظر الليبراليين الجدد القائلة بأن تقييم الأداء الاقتصادي لأي بلد لابد أن يتم فقط من حيث نمو الناتج المحلي الإجمالي والحرية. فإذا كان المرء مهتماً برفاهة المجتمع، فمن المستحيل أن يزعم أن الدولة الغنية التي يملك فيها أعلى 1% دخلاً أغلب الثروة تقدم أداءً أفضل من الدولة الأقل ثراءً بعض الشيء ولكن رخاءها أوسع توزيعاً ومشاركة.

وعلاوة على ذلك فإن الإنصاف مقياس أفضل من المساواة للعدالة الاجتماعية. وهذا لأنه من الصعب أن نبتكر سياسات عملية وفعّالة لتحقيق المساواة في اقتصاد السوق. وهناك فضلاً عن ذلك علاقة تبادلية حقيقية بين المساواة والنمو الاقتصادي، والمساواة ليست سياسة شعبية حتى بالنسبة للعديد من الأشخاص من ذوي الدخل المنخفض. ومن واقع تجربتي فإن النقابات العمالية تبدي اهتماماً أكبر بالفوارق في الأجور مقارنة باهتمامها بالسياسة البسيطة المتمثلة في حصول الجميع على أجور متساوية.

هذه هي المبادئ الأساسية التي أعتقد أن الاقتصاد السياسي التقدمي الجديد لابد أن يتبناها. وأنا أعتقد أيضاً أن البلدان الغربية التي لا تتبنى هذا الإطار، وتتشبث بدلاً منه بالاقتصاد السياسي الليبرالي الجديد ، سوف تجد صعوبة متزايدة في تعزيز الإبداع والنمو.

ولن تتمكن الاقتصادات الغربية في الاقتصاد العالمي الجديد الذي يعج بالعمالة الرخيصة من المنافسة في "السباق إلى القاع"، مع الشركات الساعية دوماً إلى الحصول على أرخص العمالة والأراضي ورؤوس الأموال، ومع الحكومات الساعية إلى اجتذاب كل هذا بإلغاء القواعد التنظيمية وتقليص الفوائد الاجتماعية.

إن الطريقة الوحيدة التي قد تتمكن بها الاقتصادات الغربية من المنافسة وتحسين مستويات المعيشة لديها تتلخص في حرصها على اعتبار نفسها مشاركة في سباق إلى القمة. وهذا يعني أن الشركات لابد أن تحسن من قيمتها المضافة من خلال الإبداع في الصناعات القائمة وتنمية القدرة على المنافسة في صناعات جديدة وأكثر تطورا، حيث القيمة المضافة أعلى في العموم.

ولن تتمكن الشركات من تحقيق هذه الغايات إلا إذا تخفت الحكومات عن الاعتقاد بأنها لا ينبغي لها أن تلعب أي دور في الاقتصاد. والواقع أن الدولة تستطيع أن تلعب دوراً أساسياً في توفير الظروف الكفيلة بتمكين الشركات الديناميكية النشطة من الإبداع والنمو.

* عضو في مجلس اللوردات البريطاني، وزير العلوم والابتكار في حكومة توني بلير (1998-2006)، ومؤلف كتاب الرأسمالية التقدمي - كيفية تحقيق النمو الاقتصادي والحرية والعدالة الاجتماعية.

http://www.project-syndicate.org

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 12/آذار/2014 - 9/جمادي الأولى/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م