المفارقة الأفريقية

دومينيك مويسي

 

في وقت سابق من هذا الشهر بدأت في باريس محاكمة باسكال سيمبيكانجوا، المتهم بالاشتراك في جريمة الإبادة الجماعية في رواندا، والتي حصدت أرواح نحو 800 ألف شخص في الفترة من إبريل/نيسان إلى يوليو/تموز 1994. ومن المؤسف أن عمليات القتل الجماعي في أفريقيا لا تزال مستمرة. ففي جنوب السودان، الدولة الأحدث في أفريقيا، لا تزال مذابح المدنيين جارية، وخاصة حول مدينة بور. ولم ينجح التدخل العسكري الفرنسي في جمهورية أفريقيا الوسطى في إنهاء العنف الشديد بين الطوائف هناك.

ولكن من عجيب المفارقات أنه برغم استمرار مثل هذه الأحداث في أفريقيا، وربما على نطاق أوسع من أي مكان آخر في العالم، فإن القارة أصبحت أيضاً منارة للأمل. والواقع أن إدامة العنف الشديد على هذا النحو يتناقض بشكل صارخ مع المشهد الديموغرافي المواتي في أفريقيا، والتقدم الاقتصادي ــ بل وحتى السياسي والاجتماعي ــ الذي أحرزته في الأعوام الأخيرة.

وقد يكون بوسعنا أن ننظر إلى هذه المفارقة من زاوية إغلاق قوس انفتح قبل أربعة قرون من الزمان. فمنذ القرن السابع عشر، كانت أفريقيا في الأساس مادة للتاريخ. فأولاً كان تجار العبيد يتعاملون مع شعوبها باعتبارها مجرد سلع لازمة لتحقيق النمو الاقتصادي في أماكن أخرى من العالم. ثم قامت القوى الاستعمارية بتقطيع القارة بشكل مصطنع واعتباطي، وأخفت جشعها تحت ستار من أهداف تبدو نبيلة: فادعت أن مهمتها هناك كانت مهمة "حضارية".

ثم في وقت لاحق، خلال النصف الأول من القرن العشرين، قَدَّمَت أفريقيا دماء أبنائها والملاذ على أراضيها للقارة الأوروبية في خضم حربين عالميتين. وفي النصف الثاني من القرن العشرين، بعد صراع وحشي ضد الاستعمار، تحولت بلدان أفريقيا المستقلة حديثاً ساحات معارك بالوكالة في الحرب الباردة.

اليوم، وعلى النقيض من ذلك، تمر أفريقيا بعملية العودة إلى كونها مادة للتاريخ. فأفريقيا التي يتجاوز عدد سكانها مليار نسمة، والتي تمثل 18% من سكان العالم، تستعيد الآن المكانة التي احتلتها في بداية القرن السادس عشر. فبمجموع سكانها الذي بلغ 100 مليون نسمة آنذاك، كانت أفريقيا تمثل 20% من سكان العالم. وبحلول منتصف القرن التاسع عشر، بعد أكثر من مائتي عام من الاستعمار والعبودية، انخفض عدد سكان أفريقيا إلى 95 مليون نسمة ــ 9% فقط من إجمالي عدد سكان العالم ــ في حين شهدت قارات أخرى زيادة سكانية كبيرة خلال نفس الفترة.

على المستوى الاقتصادي، شهدت بلدان أفريقيا الواقعة إلى الجنوب من الصحراء الكبرى عقداً من نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي بنسبة 5% إلى 6%. وفي تنزانيا هذا العام، من المنتظر أن يبلغ النمو هذا العام نحو 7%. وفي وقت حيث تواجه الاقتصادات الناشئة الكبرى ــ باستثناء الصين ــ تباطؤاً حادا، فإن أفريقيا بما تمتلكه من موارد الطاقة غير المستغلة والمواد الخام الثمينة، بما في ذلك المعادن الأرضية النادرة، كان من الطبيعي أن تتحول إلى محط اهتمام المستثمرين.

ولكن برغم أن أفريقيا يمكن وصفها بأنها قارة الأمل، فمن غير المرجح أن تصبح "آسيا الجديدة" ــ الدينامو المحرك للنمو العالمي لفترة طويلة ــ ويرجع هذا إلى مجموعة من الأسباب الثقافية والسياسية والجيوسياسية، وربما النفسية.

فقد شهدت آسيا استمرارية تاريخية لإمبراطوريات كبرى. والصين أفضل مثال لهذه الظاهرة. فهي قوة عادت إلى الظهور وليست قوة ناشئة جديدة، وهو ما يشكل عاملاً حاسماً في تفسير الثقة الصينية.

وكان تاريخ آسيا الطويل من الخصومة والمنافسة بين قواها المختلفة أيضاً من بين العوامل المهمة التي أسهمت في نجاحها الاقتصادي مؤخرا. ذلك أن ديناميكية المنافسة والمحاكاة بين الصين واليابان وكوريا الجنوبية لم تكن موجودة في أوروبا المتصالحة سلمياً بعد الحرب العالمية الثانية؛ ولا يوجد ما يماثلها في أفريقيا أيضا.

فنيجيريا ليست المعادل في أفريقيا لما كانت عليه الصين بالنسبة لآسيا. ولم تلب جنوب أفريقيا بعد زوال نظام الفصل العنصري، رغم كل ما أحرزته من تقدم، التوقعات المنتظرة منها، ومن غير المرجح أن تصبح شرطي القارة.

كان الاستعمار وتجارة الرقيق بمثابة انقطاع تاريخي بالنسبة لأفريقيا. فبعيداً عن الخسائر البشرية ــ بما في ذلك الضحايا المباشرين الذين تتراوح أعدادهم بين 10 إلى 15 مليون شخص ــ كان القهر المطلق سبباً في توليد خسارة فريدة من نوعها للثقة. فمن اليوم يستطيع أن يتذكر أسماء إمبراطوريات وممالك أفريقيا العظيمة؟ ومن يعرف من أين جاء الذهب المنتشر في العالم قبل اكتشافه في أميركا اللاتينية في القرن السادس عشر؟

من الأهمية بمكان أن تجد أفريقيا الثقة التي تحتاج إليها بشدة في الطريقة التي ينظر بها إليها الآخرون. والمشكلة هي أن الآخرين يجهلون تمام الجهل تاريخ القارة قبل الاستعمار. وقد ينتقد المرء السخرية من الصينيين، ولكن الصين هي التي أسهمت أكثر من أي بلد آخر في التحول الذي طرأ على الصورة الذاتية لأفريقيا.

واليوم، يحمل الأفارقة أنفسهم مستقبل قارتهم بين أيديهم. ومع عودة أفريقيا إلى أصلها كفاعل وليس مجرد مفعوله به في تاريخ العالم، يبدو من الواضح أنها تجسد كل مخاوف وآمال البشرية. فكل شيء هناك يأتي في هيئة متطرفة: التصحر والتحرك الجماعي للتجمعات السكانية وعنف الإبادة الجماعية ــ ولكن هناك أيضاً الأمل في أشكال جديدة من النمو الاقتصادي، إن لم يكن أساليب حكم جديدة.

* كبير المستشارين في IFRI (المعهد الفرنسي للشؤون الدولية) والأستاذ في معهد الدراسات السياسية في باريس ومؤلف كتاب الجغرافيا السياسية

http://www.project-syndicate.org

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 5/آذار/2014 - 2/جمادي الأولى/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م