دعم التقدم المفاجئ في أوكرانيا

جورج سوروس

 

في أعقاب تصعيد أعمال العنف المروعة، انتهت الانتفاضة الأوكرانية إلى نتيجة إيجابية بشكل مدهش. فخلافاً لكل التوقعات، تمكنت مجموعة من المواطنين غير المسلحين بأكثر من العصي والدروع المصنوعة من صناديق الورق المقوى وأغطية صناديق القمامة المعدنية من التغلب على قوات الشرطة التي كانت تطلق عليهم ذخيرة حية. صحيح أن المواجهات أسفرت عن وقوع العديد من الضحايا والخسائر، ولكن الغَلَبة كانت للمواطنين. كانت واحدة من تلك اللحظات التاريخية التي تخلف بصمة دائمة على الذاكرة الجمعية للمجتمع.

ولكن كيف قد يحدث أمر كهذا؟ يقدم لنا مبدأ فيرنر هايزنبرج في عدم اليقين في الميكانيكا الكمية استعارة ملائمة. فوفقاً لهايزنبرج، يمكن للظواهر دون الذرية أن تعبر عن نفسها في هيئة جزيئات أو موجات؛ وعلى نحو مماثل، قد تتبدل أحوال البشر بين التصرف كجزيئات فردية أو كعناصر في موجة أكبر. بعبارة أخرى، يرجع عدم القدرة على التنبؤ بأحداث تاريخية كتلك التي شهدتها أوكرانيا إلى عنصر من عدم اليقين في الهوية البشرية.

إن هوية الناس تتألف من عناصر فردية وعناصر أخرى من وحدات أكبر ينتمون إليها، ويعتمد تأثير الناس على الواقع على أي من العناصر يهيمن على سلوكهم. فعندما شن مدنيون هجوماً انتحارياً على قوات مسلحة في كييف في العشرين من فبراير/شباط، كان إحساسهم بتمثيل "الأمة" يفوق بأشواط انشغالهم بحياتهم الفانية كأفراد. وكانت النتيجة انتقال مجتمع عميق الانقسام من حافة الحرب الأهلية إلى شعور غير مسبوق بالوحدة.

ويتوقف دوام هذه الوحدة على كيفية استجابة أوروبا. لقد أثبت أهل أوكرانيا ولاءهم للاتحاد الأوروبي الذي يعني ذاته من انقسام يبعث على اليأس، حيث تعمل أزمة اليورو على تأليب البلدان الدائنة والمدينة على بعضها البعض. ولهذا السبب، تفوقت روسيا على الاتحاد الأوروبي براعة ودهاء في المفاوضات مع أوكرانيا بشأن إبرام اتفاقية شراكة.

وكما هو متوقع ومعتاد، قَدَّم الاتحاد الأوروبي في ظل القيادة الألمانية أقل القليل لأوكرانيا وطالبها بأكثر مما ينبغي. والآن، بعد أن ساعد التزام الشعب الأوكراني بعلاقات أوثق مع أوروبا في تأجيج تمرد شعبي ناجح، يعكف الاتحاد الأوروبي، جنباً إلى جنب مع صندوق النقد الدولي، على تجميع حزمة إنقاذ بمليارات الدولارات لإنقاذ البلاد من الانهيار المالي. ولكن هذا لن يكون كافياً لدعم الوحدة الوطنية التي سوف تحتاج إليها أوكرانيا في الأعوام المقبلة.

في عام 1990 قمت بتأسيس مؤسسة النهضة في أوكرانيا ــ قبل استقلالها. ولم تشارك المؤسسة في الانتفاضة الأخيرة، ولكنها خدمت كمدافع عن الأشخاص الذين استهدفهم القمع الرسمي. والآن تستعد المؤسسة لدعم رغبة الأوكرانيين القوية لإنشاء مؤسسات ديمقراطية (وفي المقام الأول من الأهمية، مؤسسة قضائية مستقلة ومهنية). ولكن أوكرانيا سوف تحتاج إلى مساعدة خارجية لا يستطيع غير الاتحاد الأوروبي تقديمها لها: الخبرات الإدارية والوصول إلى الأسواق.

في التحول غير العادي الذي شهدته اقتصادات أوروبا الوسطى في تسعينيات القرن العشرين، كانت الخبرات الإدارية والقدرة على الوصول إلى الأسواق ناجمة عن استثمارات ضخمة لشركات ألمانية وشركات أخرى عاملة في الاتحاد الأوروبي، والتي عملت على دمج المنتجين المحليين في سلاسل القيمة العالمية. وتُعَد أوكرانيا، بما تتميز به من رأسمال بشري عالي الجودة واقتصاد متنوع، مقصداً جاذباً محتملاً للاستثمارات. ولكن تحقيق هذه الإمكانية يتطلب تحسين مناخ الأعمال في مختلف قطاعات الاقتصاد وداخل القطاعات الفردية ــ وخاصة من خلال معالجة الفساد المستشري وضعف سيادة القانون الذي يتسبب في ردع المستثمرين الأجانب والمحليين على حد سواء.

وبالإضافة إلى تشجيع الاستثمار المباشر الأجنبي، فإن الاتحاد الأوروبي قادر على تقديم الدعم لتدريب مديري الشركات المحلية ومساعدتهم في تطوير استراتيجياتهم في العمل، مع مكافأة شركات تقديم الخدمات بإشراكهم في الملكية أو الأرباح. وتتلخص إحدى الوسائل الفعّالة في طرح هذا الدعم لعدد كبير من الشركات في دمجه مع خطوط الائتمان التي تقدمها بنوك تجارية. وبوسع البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير أن يعمل على تشجيع المشاركة من خلال الاستثمار في الشركات جنباً إلى جنب مع المستثمرين الأجانب والمحليين، كما فعل في أوروبا الوسطى.

وبالتالي فإن أوكرانيا تفتح سوقها المحلية للسلع المصنعة أو المجمعة من قِبَل شركات تابعة مملوكة بالكامل أو جزئياً لشركات أوروبية، في حين يعمل الاتحاد الأوروبي على زيادة فرص الشركات الأوكرانية في الوصول إلى الأسواق ومساعدتها على الاندماج في الأسواق العالمية.

وإنني لآمل وأثق في أن أوروبا تحت القيادة الألمانية سوف ترتفع إلى مستوى المسؤولية. والواقع أنني ظللت لسنوات عديدة أؤكد أن ألمانيا لابد أن تتقبل المسؤوليات والالتزامات المترتبة على مركزها المهيمن في أوروبا. واليوم تحتاج أوكرانيا إلى ما يعادل خطة مارشال للعصر الحديث، والتي ساعدت بموجبها الولايات المتحدة في إعادة بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. ويتعين على ألمانيا أن تلعب نفس الدور اليوم كما فعلت الولايات المتحدة آنذاك.

ولكن لابد لي أن أختم هذا بكلمة تحذير. إن خطة مارشال لم تشمل الكتلة السوفييتية، الأمر الذي عزز بالتالي من انقسامات الحرب الباردة في أوروبا. وتكرار الحرب الباردة من شأنه أن يلحق أضراراً هائلة بكل من روسيا وأوروبا، وفي المقام الأول أوكرانيا، التي تقع بين الكيانين. وأوكرانيا تعتمد على الغاز الروسي، وهي تحتاج القدرة على الوصول إلى الأسواق الأوروبية لتسويق منتجاتها؛ وعلى هذا فلابد أن تكون على علاقة طيبة بالجانبين.

وهنا أيضا، ينبغي لألمانيا أن تأخذ زمام المبادرة. ويتعين على المستشارة أنجيلا ميركل أن تمد يدها إلى الرئيس فلاديمير بوتن لضمان روسيا كشريك، وليس خصما، في النهضة الأوكرانية.

* رئيس مجلس إدارة صندوق سوروس ورئيس مؤسسة المجتمع المفتوح. وهي الرائدة في صناعة صناديق التحوط، ومؤلف العديد من الكتب، منها الخيمياء المالية، النموذج الجديد للأسواق المالية: أزمة الائتمان عام 2008 وماذا يعني ومأساة الاتحاد الأوروبي

http://www.project-syndicate.org

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 1/آذار/2014 - 28/ربيع الثاني/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م