تركيا وصدام المصالح بين اردوغان وغولن

 

شبكة النبأ: قضية الفساد التي هزت تركيا مؤخراً والتي اختار فيها اردوغان المواجهة المعلنة مع الصديق والعدو "غولن"، اضرت كثيراً بسمعة تركيا قبل ان تضر بسمعة الخصوم، سيما وان الملاحقة والصراع فيما بينهما شمل جميع مؤسسات الدولة وبالأخص الحساسة منها، بعد ان تمكن اتباع الأخير من الوصول الى مراكز حساسة في الدولة بدعم من اردوغان وحزبه.

يرى المحللون ان خوف رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان وحزبه من تغلغل اتباعه وحصولهم على مراكز مهمة وخوفه من انقلابهم ضده في أي لحظة، كان العامل الرئيسي وراء الحملة الواسعة التي جرت في تركيا وأدت الى اقصاء وفصل ومحاكمة العديد من الشخصيات المهمة، إضافة الى العناصر الأمنية.

ويبدو ان تضارب المصالح بين الرجلين بلغت مرحلة خطيرة حتى بات الامر مسألة وجود بالنسبة لأروغان الذي سعى بكل قوة للإطاحة بإمبراطورية غولن الواسعة داخل تركيا، بعد ان وجه اليه العديد من التهم.

اما غولن المبعد عن تركيا والحاضر في المشهد السياسي بقوة والذي كان له الدور الرئيسي في نجاح حزب العدالة والتنمية ووصول اردوغان الى السلطة، فما زالت لدية الكثير من الخيوط التي من الممكن ان يحركها بوجه اردوغان في أي لحظة، الامر الذي قد يزيد من مشاكل تركيا الداخلية، والتي شهدت وما زالت تشهد، العديد من المظاهرات والاحتجاجات على العديد من المظاهر السلبية وتقييد الحريات وانتشار الفساد في أجهزة الدولة.

الرجل الغامض

في سياق متصل وفي بلدة سيلرزبورغ الصغيرة التي لا يزيد عدد سكانها عن ألف نسمة والواقعة في عمق ولاية بنسيلفانيا يعيش منذ 15 عاما الداعية التركي الغامض فتح الله غولن الذي يرأس جمعية "هزمت" (اي خدمة بالتركية) القوية النفوذ التي تخوض اليوم حربا معلنة مع نظام انقرة، الزعيم الديني المسلم البالغ الرابعة والسبعين من العمر والذي يدعو الى الحوار بين الثقافات والاديان يقيم في منزل كبير وسط احراج كثيفة تخضع مداخله المزودة بكاميرات مراقبة لحراسة مشددة ليلا نهارا.

لا توجد اي لافتة تدل على سكان المنزل ولا حتى اي رقم للشارع، والابواب لا تفتح الا لخروج او دخول المقربين او "الطلبة" باستثناء قلة من الزوار الاجانب الذين يجرى انتقاؤهم بدقة، ويوضح الب اصلان دوغان رئيس "اليانس فور شيرد فاليو" (تحالف القيم المشتركة) وهي منظمة تابعة لجمعية خدمة ان "غولدن ورشيب اند ريتريت سنتر (المركز الذهبي للعبادة والخلوة) ليس تابعا لغولن لكن لرجال اعمال اميركيين اتراك".

واكد ان غولن نفسه "لا يستخدم سوى غرفة واحدة ومكتب ولا يخرج الا لإجراء كشوفه الطبية"، غولن المؤسس لشبكة مدارس منتشرة في 150 بلدا والرئيس لمجموعة كبيرة من الجمعيات لا يتحدث الا نادرا لوسائل اعلام غير تلك التابعة له في تركيا لا سيما صحيفة زمان، هذا الغموض يثير الشائعات والمخاوف بين سكان البلدة، وتروي نادلة في حانة طلبت عدم ذكر اسمها "حدثت مؤخرا ثلاثة تظاهرات احتجاج على وجود المركز".

وذكرت الصحف المحلية ان هذه التظاهرات جرت خلال الصيف وفي كانون الاول/ديسمبر الماضي ونظمتها منظمات تركية اميركية ترى ان غولن اسلامي خطير يشكل تهديدا على تركيا وعلى الولايات المتحدة، والشائعات تنتشر ايضا في تركيا حول هذا الرجل ذي الشعر الابيض والشارب الكثيف الذي هرب من بلده عام 1999 للإقامة في الولايات المتحدة، رسميا فان سبب سفر غولن هو للعلاج، اما المعلومات شبه الرسمية فتفيد بان السبب خلافات مع الحكومة القائمة آنذاك. بحسب فرانس برس.

رغم غيابه الطويل لم يكن ثقل غولن في الساحة السياسية التركية اقوى مما هو عليه اليوم، ويقول سام برانن الباحث في مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية "شأنه شان الكثير من الزعماء المنفيين اكتسب غولن نفوذا اكبر بسبب ابعاده"، عدد مريديه الذين يؤكدون انه يدعو الى اسلام سمح ومعتدل يقدر بعدة ملايين، ومنتقدوه يتهمونه بترأس دولة داخل الدولة من خلال اتباعه الذين تمكنوا من الهيمنة خصوصا على الشرطة والقضاء.

هذه التهم ينفيها اصلان دوغان الذي يؤكد ان غولن "يركز اهتمامه دائما على التعليم والحوار وليس على السياسة"، ويشير برانن الى انه بفضل المدارس التي فتحها في كل مكان توجد لغولن "قاعدة واسعة من الانصار المتعلمين الذين دفعتهم تعاليمه الى الانخراط في المرافق العامة" وخاصة في جهازي الشرطة والقضاء، ورغم ان غولن لم يدعم رسميا اي مرشح سياسي فان رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان يدين له الى حد كبير في فوزه الاول في انتخابات 2002 وذلك بفضل العمل الميداني لجمعية هزمت.

لكن العلاقات توترت في الاشهر الاخيرة بين الرجلين منذ ان حاول اردوغان اغلاق المدارس الاعدادية للجمعية في تركيا ومنذ ان خضعت حكومته لتحقيق بتهم فساد تقول ان جمعية غولن هي التي حرضت عليها لإسقاطها، ويقول اصلان دوغان ان هذه المزاعم هدفها "اسكات النقاش في تركيا" وتحويل الانظار عن "الادلة الدامغة" على الفساد.

ويتهم غولن ايضا بانتظام بالرغبة في اسلمة المجتمع، لكن اصلان دوغان يؤكد ان مدارس خدمة "علمانية وتتبع المنهج الساري في كل البلدان الموجودة فيها" معترفا مع ذلك بان ما بين 60 الى 65% من انصار غولن مسلمون متدينون، ويرى برانن ان جمعية هزمت او خدمة تتبع الى حد ما منهج طائفة المورمون الاميركية "فهم يساعدون بعضهم البعض في الاعمال ولديهم عقلية تبشيرية وحس كبير بالمشاركة"، ونقطة التلاقي الاخرى مع المورمون والتي تمثل القوة المالية للجمعية هي انه يتعين على جميع الاتباع منحها بعض الوقت او المال، من طلبة الى ربات اسر وصولا الى كبار رجال الاعمال.

خطر على اردوغان

الى ذلك وفي مدرسة الإعداد التابعة لجامعة إف.إي.إم بضاحية أوسكودار في الشطر الاسيوي من اسطنبول يتلقى شبان في هدوء تدريبا متخصصا على مهارات اجتياز الاختبارات التي تفتح الباب أمامهم لتولي أهم الوظائف في تركيا، ولصاحب النظرة العابرة يبدو كل شيء عاديا، فكما هو الحال في كل المعاهد والمدارس التركية تطل من الحائط في كل الفصول صورة مصطفى كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة، كما أن خطاب أتاتورك للشباب معلق على الحائط في مدخل الكلية.

وما من إشارة بادية للعيان للحركة الدينية التي تدير الكلية والمعروفة باسم "خدمة" أو إلى مؤسسها فتح الله كولن المقيم في الولايات المتحدة منذ 14 عاما، لكن جميع أعضاء طاقم التدريس من مريدي كولن، شأنهم شأن الكثيرين من الطلبة وأولياء أمورهم.

وتريد الحكومة اغلاق مثل هذه المعاهد وموقفها الرسمي في ذلك أن هذه المؤسسات تقدم للدارسين ميزة غير عادلة على غيرهم وتشكل عبئا ماليا على الأسر التي تشعر بأن عليها سداد مصروفات التعليم فيها وإلا كان أداء أبنائها سيئا.

لكن مؤيدي كولن يرون في هذا الاقتراح أحدث محاولة من جانب رئيس الوزراء طيب إردوغان لتقييد حركة تتحدى هيمنته على البلاد، ومن المعتقد أن أنصار كولن يسيطرون على ربع المعاهد التي تؤهل الدارسين للامتحانات في تركيا بما يمنح حركة دينية تبدو محمودة في ظاهرها دورا أكبر من حجمها في تشكيل آراء النخبة التي ستدير شؤون البلاد مستقبلا.

وقال طه رمضان سيسمان (18 عاما) "وجهتني عائلتي للدراسة هنا، لم تشأ ذهابي إلى مدرسة إعداد أخرى ولم أشأ أنا ذلك"، وأضاف أنه ينوي الالتحاق بكلية الطب عندما يدخل الجامعة هذا العام ثم يخدم الحركة بعد تخرجه.

ويتوقف تعريف "خدمة" على من يتلقى السؤال عنها، فأنصارها يقولون أن الأعضاء أحرار في الانضمام إليها أو تركها ولا يتلقون أوامر من قيادة أعلى، وهم يصفون أنفسهم بأنهم مسلمون محافظون يؤمنون بأهمية التعليم والعمل الخيري.

أما بالنسبة لاردوغان صاحب الاتجاه الاسلامي الذي اعتمد في يوم من الأيام على دعم الحركة فقد أصبحت أكبر خطر يتهدد إمساكه بزمام الأمور في البلاد منذ 11 عاما وتحولت إلى "دولة داخل الدولة" لا مناص من التخلص منها.

وإذا كان كولن يشكل الان أكبر خطر على اردوغان فهذا تحد شارك رئيس الوزراء نفسه في صنعه، فحزب العدالة والتنمية الاسلامي الذي ينتمي إليه اردوغان كان يشجع أتباع كولن منذ فترة طويلة على السعي لتولي مناصب في جهاز الدولة بهدف إزاحة "الدولة العميقة" التي حكمت المؤسسة العلمانية المدعومة من الجيش تركيا من خلالها منذ سقوط الامبراطورية العثمانية.

وقال مسؤول على صلة وثيقة بمكتب رئيس الوزراء "عندما تولى اردوغان السلطة عام 2002 لم يكن لديه الأفراد الذين يمكنهم شغل المراكز الرئيسية، فالتيار الاسلامي الذي ينتمي إليه لم يستثمر حقا في المؤسسات الديمقراطية في الماضي لكن (خدمة) قضت عشرات السنين في تدريب مهنيين في مدارسها ولذلك اعتمد عليهم".

وساعدت "خدمة" في تدعيم صعود نجم حزب العدالة والتنمية، ورأى كثيرون أن نفوذ الحركة في القضاء التركي الذي سجن ضباطا كبارا بتهمة التآمر لقلب نظام الحكم كان عاملا حاسما في احتواء الجيش الذي أطاح بثلاث حكومات في أواخر القرن العشرين بل وأبعد حكومة كان رؤوسها من الاسلاميين عن السلطة عام 1997.

إلا أن أواصر زواج المنفعة هذا تقطعت فيما يبدو في العام الماضي وخرج الخلاف إلى العلن بتحقيقات الفساد، ويقول أنصار اردوغان إن نهم "خدمة" إلى النفوذ أصبح شديدا إلى الدرجة التي دفعت أعضاء في الحركة للمطالبة بالسيطرة على إدارات بأكملها في الدولة، وقال مسؤول حكومي طلب عدم ذكر اسمه "الحركة لها بالفعل الاف الأفراد في (هيئات) الدولة لكنها تطلب المزيد على الدوام".

وأضاف "أنت تعين شخصا من الحركة في إدارة من الإدارات، ثم اثنين آخرين ثم خمسة غيرهم، وفي اليوم التالي يشكون لماذا لا تكون الادارة كلها من خدمة، وقال مسؤولون كبار إن تحقيقا جنائيا سيبدأ قريبا في تشكيل "منظمة غير قانونية داخل الدولة" وهي تهمة يقول أتباع خدمة إنهم سيدافعون عن أنفسهم في مواجهتها.

وقالت مؤسسة الصحفيين والكتاب التي يشغل كولن منصب رئيسها الشرفي والتي دافعت من قبل عن الحركة "إذا توافرت أدلة ملموسة وقاطعة، فيجب إحالة هذه الأدلة إلى السلطات القضائية للتحقيق فيها"، وأضافت "إن تكرار هذا السب مرة بعد أخرى دون إبراز أي أدلة أو اتخاذ اجراء قانوني يعد جريمة كراهية."

ويصف قائد الشرطة السابق حنفي آوجي الحركة بأنها شبكة منظمة تنظيما منهجيا، وآوجي مسلم محافظ تخرج أبناؤه من معاهد خدمة لكنه أودع السجن بعد أن كتب كتابا تحدث فيه عن أنشطة الجماعة داخل قوة الشرطة، وكتب آوجي "في وحدات جمع المعلومات ومكافحة التهريب والجريمة المنظمة داخل قيادة الشرطة أغلب الفرق الفنية والإدارية أعضاء (في خدمة) أو ينفذون توجيهات من الجماعة".

وأضاف "هذا التنظيم لا يقتصر على قيادة الشرطة، فللجماعة هيكل في كل مؤسسة تقريبا مثل المخابرات والجيش والقضاء بل والبرلمان"، واحتجز آوجي بعد أسابيع من نشر الكتاب عام 2010 وما زال مسجونا بتهمة الاتصال بمنظمة إرهابية يسارية، وقال مسؤول قريب من الحكومة إن الاتصالات بين أعضاء الجماعة تحاط بالتكتم وتعتمد في الأساس على التلقين الشفهي، وأضاف "تسمع نفس المطالب أو وجهات النظر قادمة من جنبات مختلفة وغالبا بنفس الألفاظ فتدرك مصدرها".

ووصف مسؤول تركي كبير آخر هذا الأسلوب بأنه تدعيم للنفوذ "دون ترك بصمات"، ويرى بعض مراقبي الأوضاع في تركيا أن هذا الهيكل غير الملموس ربما يجعل الحد من نفوذ "خدمة" أصعب على إدارة إردوغان حتى من تطويع الجيش، وقال جيمس جيفري السفير الأمريكي السابق لدى تركيا والزميل الحالي بمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى "إنهم أشد حذرا من الجيش فيما يتعلق بالكشف عمن هو منهم، وقد عملوا بجد على زرع أناس في الحكومة، هم باقون".

من جهة أخرى أظهر استطلاع نشر مؤخراً أن الخلاف الذي دب بين رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان ورجل الدين المقيم في الولايات المتحدة فتح الله كولن أضر بسمعة الاثنين وان كان اردوغان سيفوز مجددا لو أجريت انتخابات في تركيا مطلع هذا الأسبوع، وقال اوزير سانجار رئيس شركة متروبول لاستطلاعات الرأي "هذا يخصم من هيبة الجانبين بسرعة، شعبية الرئيس (عبد الله) جول وكذلك رئيس الوزراء اردوغان في أقل مستوياتها منذ سنوات".

وأظهر الاستطلاع تراجع شعبية اردوغان إلى 39.4 في المئة في يناير كانون الثاني بعدما كانت 48.1 في المئة في ديسمبر كانون الاول و59.1 في المئة قبل عام، لكنه أضاف أن حزب العدالة والتنمية بقيادة اردوغان سيحصد أكبر عدد من الاصوات لو أجريت انتخابات برلمانية وإن كانت ستقل بكثير عن نسبة 50 في المئة التي حصل عليها في انتخابات عام 2011.

وسيحصل حزب العدالة والتنمية على 43.2 في المئة من الاصوات لو جرت الانتخابات يوم  بينما سيحصل حزب الشعب الجمهوري المعارض على 28.1 في المئة بارتفاع عن 26 في المئة حصل عليها في الانتخابات الماضية.

وقال اغلبية من شملهم الاستطلاع انه تساورهم مشاعر سلبية تجاه كولن وحركته التي يقول أنصاره إن أعدادها بالملايين في أنحاء العالم، وقالت نسبة 42 في المئة من المشاركين في الاستطلاع إنهم يرون في التحقيق الذي كشف عنه يوم 17 ديسمبر كانون الاول تحقيقيا حقيقيا في عمليات احتيال بينما رأت نسبة 24 في المئة انه محاولة انقلاب على الحكومة، وقال نحو 60 في المئة من المشاركين إن الحكومة حاولت التغطية على مزاعم فساد وضغطت على الشرطة والقضاء.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 24/شباط/2014 - 23/ربيع الثاني/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م