الصورة

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: ما نعيشه حاليا هو عصر الصورة بامتياز ناجز.. لم تكن الصورة في بداياتها التي رسمها الانسان البدائي الاول فوق جدران الكهوف التي أختبأ وعاش فيها، الا تعبيرا عن مشاعره وماكان يدور في وعيه تجاه الطبيعة وحيواناتها وناسها..

لم يكتف الانسان البدائي برسم الصور بل حاول فهمها وتوسيع دلالاتها التي تختفي خلفها، واستغرقه زمنا طويلا، قبل ان تتبلور مفاهيم ودلالات جديدة للصورة حتى زمننا الراهن.

في لسان العرب لابن منظور، تعني الصورة: (الوجه، الزخرفة، الكتابة الخطية، الوشم، الخيال، الوهم، التماثيل المجسمة، العلامات الرمزية وغبر الرمزية).

وهي في (المنجد في اللغة) صور الشيء: قطعه وفصله، وصُور لي: خُيل لي، وتصور الشيء: توهم صورته وتخيله، وصورة الأمر: صفته، ويقال صورة العقل كذا: أي هيئته.

وصوّر الشيء أي توهمه، والصورة، ما قابل المادة، وقد عنى (ارسطو) بهذا التقابل وبنى عليه فلسفته كلها وطبقه في الطبيعة، علم النفس والمنطق. فصورة التمثال عنده هي الشكل الذي اعطاه المثّال اياه، ومادته هي ما صنع منه من مرمر او برونز، والاله عنده صورة بحتة ولا جسد له والنفس صورة الجسم.

والصورة اصطلاحاً كما يعرفها غيور غي غاتشف، في كتابه (الوعي والفن، دراسات في تاريخ الصورة الفنية)، هي الكل المكتمل المركب الذي يشمل الجانب الحسي والعقلي والمعرفي والإبداعي.

والصورة عند الفيلسوفة الامريكية سوزان لانجر؛هي جوهركل الفنون وهي شيء ما يوجد فقط لأدراكنا، مجرد من نظامها الفيزيائي والسببي. والصورة عند جون ديوي؛ هي العنصر العقلي القابل للفهم في موضوعات العالم وأحداثه. والصورة عند جان بول سارتر؛ هي المحتوى النفسي الذي يسند التفكير والذي له قوانينه الخاصة، كذلك عدّها نمطاً معّيناً من الوعي بشيء ما وهي فعل وليست شيئاً.

وفي مفهومها الكلي، كما يذهب مؤيد عبد الجبار ألحديثي، في بحثه (العولمة الإعلامية والأمن القومي العربي) فان الصورة، ليست إلا تعبيراً بصرياً وإبداعياً يسلك سبيل التخيل وترجمة الأفكار بمعان مستمدة من البيئة الثقافية التي يتحرك فيها خطاب الصورة، وذلك من خلال مستويين، الأول مستوى إخباري : وهو مستوى الاتصال بين المرسل والمتلقي، الثاني مستوى رمزي : وهو مستوى الدلالة والمعنى الواضح أو المعنى الإيحائي في الصورة

في الادب العربي القديم، لم يكن مفهوم الصورة غائبا عن اذهان نقاده القدامى، لكنه كان متواريا خلف واحد من المصطلحات الرئيسة التي ظهرت ودارت في مقولات النقاد والبلاغيين العرب يوم احتدم الصراع في قضية (اللفظ والمعنى).

يعتبر الجاحظ من أوئل الذين تنبهوا إلى المعنى الفني للصورة عندما رأى: (أنّ المعاني مطروحة في الطريق..., وإنما الشأن في اقامة الوزن وتخير اللفظ .. فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير). وبهذا ميّز الجاحظ بين المعنى العام (المعجمي) الذي كنـّى عنه بـ(المعنى المطروح في الطريق)،وجوهر الشعر حصرا بـ(إنما) الذي يأتي من تأليف المواد الخام كخيوط النسيج عندما تتألف محكمة بألوان مختلفة، فينتج عن ذلك شيء جديد هو (الصورة)، أما النقاد العرب المحدثون فقد تباينت آراؤهم وتعددت دراساتهم وأبحاثهم في الصورة، حتى عدّوها مصطلحا فنيا قائما بنفسه، فمنهم من عرّفها على اساس ماهيتها فرأى ((إن امتزاج المعنى والالفاظ والخيال كلها، هو الذي يسمى بالصورة الأدبية)). ومنهم من عرّف الصورة على أساس وظيفتها، فرأى أن ((الصورة كلام مشحون شحنا قويا، أي انها توحي بأكثر من المعنى الظاهر، وأكثر من انعكاس الواقع الخارجي)). فهي وسيلة رئيسة في نقل الأفكار والعواطف عند الشاعر، اما القسم الآخر فقد عرّف الصورة على أساس دلالتها، فيرى الدكتور جابر عصفور انها: (طريقة من طرق التعبير، أو وجه من أوجه الدلالة وتنحصر أهميتها فيما تحدثه في معنى من المعاني من خصوصية وتأثير).

ويعرفها الدكتور مصطفى ناصف فيرى أن الصورة تستعمل (للدلالة على كل ماله صلة بالتعبير الحسي، وتطلق أحيانا مرادفة للاستعمال الاستعاري).

تتعدد دلالات الصورة، وتتنوع استخداماتها اللغوية بتنوع أشكالها، فبقدر ما اختلف البشر حول تعريف الصورة بمقدار ما اتفقوا على أن أنواع الصور بلا حدود وهي تزداد كل يوم مع زيادة المعرفة والتقدم البـشري  ومن أبرز أنواع الصور (الصورة البصرية المعتادة، والصورة الذهنية المتخيلة في حالة اليقظة نتيجة لثقافة اجتماعية معينة، والصورة في الأحلام في حالة النوم بوصفها تعبيراً عن التمثيل العقلي للخبرة الحسية أو إعادة إنتاج لها والصورة ألقوليه بدلالاتها المجازية، والصورة في العلامة الأيقونية التي تمثل رموز لمظاهر الموضوع الـذي تمثله  والصورة المرئية الثابتة والمتحركة والمشهدية في كل وسائل الإعلام، والصورة في الواقع الافتراضي، والصورة في الفنون الجميلة والتشكيلية والتطبيقية ، والصورة الفوتوغرافية وهي ناتج آلي لواقع منظور إليه عبر عدسة مرئية كما يذهب الى ذلك (ديب علي حسن) قي مقاله  (من متحرك إلى صنم).

في دراسة لسعاد عالمي حول فلسفة ريجيه دوبري حول مفهوم الصورة تذهب الى القول، ان ريجيس دوبريه لم يكن مشغولاً بكيفية (تكوين الصورة) بل بمحاولة الكشف عن (القانون غير المرئي للمرئي) أي (بحث التمثلات الذهنية والرموز والأساليب التي استخدمت في قراءة الصورة). لقد اعتبرت الصورة ـ في رأي دوبري. أقدم وجوداً من الكتابة وأكثر تجذراً في اللاوعي الإنساني، مما جعل منها معطى انفعالياً قوياً، فيكفي الشخص أن يرسم عيناً أو يداً لمحاربة العين الشريرة. ومنذ القدم أسس الإنسان عاداته وتقاليده لمحاربة هاجس الموت عبر الصور، فالموت (كان أولاً صورة وسيبقى صورة). وقد نجح الملك ـ في الحضارة المصرية القديمة ـ عن طريق وعيه بالموت في أن يرسم لنفسه صورة خالدة، تستوعب قيمة السلطة الرمزية، ليصبح (الميت من يعطي للحي قيمته). ويشير دوبري إلى تعالق الصورة الذهنية بالصورة المجسدة في الحضارة الصينية، فرسم شلال فوق حائط قصر الإمبراطور كان مزعجاً لأن خرير مياه الشلال، يؤرقه! والعكس كان يكفي التوسكاني أن يشاهد رسم الشلالات والبحيرات كي تذهب عنه الحُمى.

في بحثها المقدم إلى مؤتمر فيلادلفيا الدولي الثاني عشر والذي حمل عنوان (دور الصورة كمنظومة تربوية واعية في تصنيع الواقع) تذهب الدكتورة أميرة عبد الرحمن  منير الدين الى إن هناك علاقة نفسية بين الصورة وموضوعها، وهذا يعود إلى الآليات النفسية التي تؤدي إلى وظيفة الأعين، فهناك حالة من السلبية لدى المتلقي سببها ذهول العقل بالصور، وقبوله بما تحمله من مضامين وإملاءات تتدخل بقوة في تكوين وإنتاج وعي المتلقي من خلال ثقافة الصورة، خاصة بنسختها الرقمية دون أن يطلب أو يدري أن الصورة تعتدي عليه وعلى مجتمعه ، فهي تقتحم الإحساس الوجداني، وتتدخل في التكوين العقلي، والتوجهات الفكرية والثقافية.

وهي ايضا تؤشر لأبرز إيجابيات وسلبيات الصورة من خلال مايلي :

خطاب الصورة خطاباً موازياً للخطاب اللغوي التقليدي، فالصورة الواحدة بألف كلمة، وهي تسعى لتحقيق أهداف محددة.

ثقافة الصورة لعبت دوراً مهماً في التأثير على المتلقي وانعكاسها على بناء المعرفة لديه، خاصة إذا كانت الصورة مقرونة بثقافة موجهة تهدف إلى صياغة مفاهيم محددة.

صناعة الصورة تشكل جزءاً هاماً من الاقتصاديات العالمية، فثقافة الصورة تجتاح العالم بقوة هائلة ، وهي تقدم شهادات حية على صناعة التحولات في المجتمعات وإثارة حاسة التغير فيها.

سحر الصورة منتج ثقافي يمتلك مقومات البقاء وضمان المستقبل فيجب التعامل معه بحذر شديد.

فكر الصورة المرسلة هو نتاج مخططات دولية تشرف عليه مؤسسات ضخمة تؤمن بإمكانيات الصورة.     

ثقافة الصورة واستهلاكها بعفوية وإطلاقية غير واعية ، تؤدي إلى استلاب وضياع الهوية.

مدلول الصورة قد يسهم في فن صناعة التشويه وتزيف الوعي ، وخفي الحقائق ، وقد يعمل على إعلاء قيمة السطحي والمؤقت من الأمور على حساب الحقيقي والجوهري والثابت ، فهو يغلف الواقع الموضوعي بالواقع البديل.

إمكانيات الصورة قد تستخدم في الاستهزاء والسخرية من الآخر.

قد تستهدف الصورة في موضوعاتها وأبعادها وأنماطها إرباك التفكير وتشويشه، في الوقت الذي لا تبدو فيه وكأنها تحل محل الواقع . 

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 22/شباط/2014 - 21/ربيع الثاني/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م