مقتدى الصدر... اعتزال بشّر بزلزال

عريب الرنتاوي

 

بإعلانه اعتزال السياسة والعمل السياسي، يكون السيد مقتدى الصدر قد خلط الأوراق جميعها، لا بل قد قلب الطاولة على رؤوس كثير من اللاعبين في العراق... وسوف نحتاج لبضعة أيام وربما أسابيع، للتعرف على الأثر الذي سيحدثه هذا القرار المفاجأة، على مجريات العملية السياسية في العراق، ومستقبل العلاقة بين مختلف المكونات، ونتائج الانتخابات النيابية المقبلة في العراق، ومصير الولاية الثالثة التي يتطلع إليها بشوق، رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي، لكن المؤكد أن قرار الاعتزال قد بشّر بزلزال.

هي ليست المرة الأولى التي يصدر فيها قرار من هذا النوع عن الزعيم ذي التأثير الشعبي الوازن في الوسط الشيعي العراقي، بيد أن توقيت القرار وانعكاساته، قد جعل منه، نقطة تحول في مجريات السياسة الداخلية في العراق... فالرجل نجح في الأعوام الأخيرة في مدّ جسور من الثقة والتعاون مع بقية المكونات العراقية من سنية ومسيحية وكردية، وهو نجح في تقديم نفسه وتياره، كمحاور معتدل ومقبول، في مواجهة المالكي الذي اعتمد خطاً متشدداً، مصبوغاً بطابع مذهبي لم يخف على أحد، والرجل من قبل ومن بعد، كان خصماً عنيداً للمالكي من داخل بيته وبيئته، وربما كان التهديد الأكبر الذي يعترض طريق المالكي للولاية الثالثة.

بهذا المعنى، شكل قرار الصدر بالاعتزال، صدمة كبرى، لا لحلفائه من أبناء الشيعة العرب العراقيين، بل ولأبناء العراق من شتى الطوائف، التي بدأت تأنس لأطروحاته، وتتقرب منه، وتراهن على دوره في "تدوير الزوايا" الحادة للحكومة ورئيسها وبعض أطراف التحالف الشيعي... وربما لهذا السبب بالذات، وجدنا عراقيين ليبراليين وعلمانيين، يسارعون إلى مناشدة الصدر العدول عن قراره، ومن يقرأ كلمات الدكتور إياد علاوي، يدرك حجم "الفجيعة" التي أصيب بها طيف واسع من العراقيين، جراء قرار الاعتزال.

في ظني، وليس كل الظن إثم، أن المالكي وأنصاره، تلقوا بفرح بالغ، خبر اعتزال السيد الصدر... معنى ذلك أن كتلة وازنة في البرلمان، ولائحة قوية في الانتخابات المقبلة، قد انزاحت عن الطريق، طواعية وبقرار ذاتي ومن دون ضغط أو إكراه.... معنى ذلك أن طريق المالكي إلى الولاية الثالثة، باتت سالكة وآمنة أكثر من أي وقت مضى... معنى ذلك رجل العراق الأقوى منذ رحيل صدام حسين، مرشح للقاء واستمرار، سيداً للعبة من دون منازع.

في الحديث عن أسباب ومسوغات القرار، ثمة جملة من المواقف المبدئية والأخلاقية والروحانية، التي أدرجها الرجل وأنصاره ومريدوه، مما لا صلة له على الأطلاق، بعوالم السياسة السفلى، وألاعيبها القذرة وحساباتها الانتهازية، التي لا تنسجم مع "طهرانية النص" الذي يجري تداوله على ألسنة الصدريين... فحين تكون السياسة قذرة وباعثة على اليأس والإحباط، فإن "الحل السياسي" لهذه الظاهرة، يكون بمزيد من التورط في السياسة، أقله للعمل على تغيير صورتها وقواعدها وأخلاقياتها، وليس من حق "السياسي" أن ينسحب من الميدان تحت هذا المبرر أو بسبب تلك الذريعة، أما "المثقف" أو "رجل الدين"، فمن حقه دائماً أن يلجأ إلى "عوالمه العليا"، أو إلى "عليائه" و"صومعته" حتى لا يصاب بالدنس أو تُمسُّ طهارته.

مثل هذا الأمر، يطرح سؤالاً حول العلاقة بين "رجل الدين" و"رجل السياسة" في العراق والعالم العربي... فمن جهة يبدو قرار الاعتزال طهرانياً وروحانياً بالنسبة لرجل الدين مقتدى الصدر، وأتباعه من العراقيين المتدينين... أما الصدر، كرجل دولة وسياسة، فلا شك أنه بقراره، قد ألحق ضرراً بالغاً بمصالح وتطلعات ملايين العراقيين الذين يتبعونه ويصوتون لقوائمه الائتلافية ويبنون عليه كثير من رهاناتهم.

إن أكثر من أصابه الارتباك والحيرة بقرار الاعتزال، هم الصدريون أنفسهم... فهم ليس في معظمهم رجال دين، بل ممثلين لجماعات ومصالح وحسابات سياسية بالغة الدقة والتعقيد، فإن هم اعتزلوا سيراً على خطى قائدهم، عرضوا كل هذه المصالح والحسابات لأشد الضرر، وخذلوا قطاعات واسعة من ناخبيهم، وإن هم استمروا في اللعبة السياسية، بدوا كمن تخلى عن قائدهم ومرجعهم مؤثرين عليه "نعيم" السلطة ووثير الكراسي.

ولأن السياسي والديني يتماهيان في شخص الصدر، فإن من الصعب أن تجد من يتعرض لقرار الاعتزال بالنقد والاعتراض... وفي أحسن الحالات، فإننا سنستمع ونشاهد خلال الأيام القادمة، لعشرات النداءات والمناشدات والتظاهرات، التي تطالب الرجل بالعودة عن قراره، فالعودة مطلوبة حفظاً للمصالح وحسابات السياسية، أما الاعتزال، فهو ليس أكثر من قرار فردي، يبغي صاحبة الحفاظ على نقاء ثوبه وطهارة سريرته، وهذا مفردات لا وجود لها في مختلف قواميس السياسة ونواميسها.

* مركز القدس للدراسات السياسية

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 19/شباط/2014 - 18/ربيع الثاني/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م