العراقيون.. والصراع.. واللاوعي الجمعي

تحليل سيكوبولتك

أ.د. قاسم حسين صالح

 

يتداول المحللون السياسيون مفهوم (الصراع) وكأن له معنى واضحا للجميع منطلقين من منظورهم السياسي الذي يفسّر الصراع بانه موقف تنافسي يكون طرفاه او اطرافه على دراية بعدم التوافق في المواقف السياسية المحتملة التي تضطر كل طرف الى اتخاذ موقف لا يتوافق مع المصالح المحتملة للطرف الثاني او الاطراف الاخرى.

ومع ان الصراع بعنوانه السياسي هو الشائع الا ان للصراع انواعا اخرى تشكل عاملا حاسما في خفض حدته او تأجيجه. فهو في بعده الاجتماعي يمثل كفاحا حول قيم او مطالب او اوضاع معينة او اعتبار اجتماعي يكون هدفه كسب قوة اجتماعية مرغوبة تعلي من مكانة جماعة معينة فوق مكانة جماعة او جماعات اخرى.

وهو في بعده الاقتصادي تنافس بين جماعتين او اكثر على حيازة نصيب اكبر من ثروات كبيرة او الاستحواذ على موارد محدودة. وهو في بعده الثقافي تنافس بين جماعتين او اكثر بهدف اعلاء وتغليب معتقدات جماعة معينة والحط من معتقدات جماعة اخرى.

ومع ان الوجه الظاهر للصراع يكون سياسيا، الا ان جوهره هو المصالح الاقتصادية بالدرجة الاولى ، وانه اذا نشب سياسيا فان اطرافه يعمدون الى اذكاء اسبابه الاقتصادية والاجتماعية والنفسية باثارة النزعات العدوانية والحقد والانتقام.

ومن طبيعة الصراع انه لا يبقى ثابتا بل يتطور على وفق مستويات تبدأ بـ(مشكلة) تنشأ من عدم اتفاق اطراف الصراع ، تتطور الى (نزاع) يتجسد بتصورات حول اختلاف المصالح تضع اطرافه امام موقفين احدهما قابل للتفاوض والثاني لا يحتمل التوفيق، يتطور الى مستوى (أزمة) تشكل تهديدا مباشرا للمصالح الجوهرية لأحد اطراف الصراع.. ان لم تحل فانها تتطور الى مستوى (العنف) الذي يهدف الى احداث الضرر او الحاق الأذى بالآخر.. ماديا ونفسيا، يؤدي ان لم يتوقف، الى آخر مستوياته..(الحرب) التي تلحق الأذى بكل أطرافه، ويتحمله اتباع الجماعة أكثر من قادتها.

والسياسة لا تشكل المصدر الوحيد للصراع ، فعلى الصعيد الاجتماعي ينشأ الصراع من ثلاثة مصادر فيه ، اولها التهديدات التي تتعرض لها المكانة الاجتماعية لجماعة او طائفة من قبل جماعة او طائفة منافسة، وثانيها اختلافات الناس في قيمهم الاخلاقية ومعتقداتهم الفكرية حين تكون متعارضة، وثالثها ازدياد التغيير الاجتماعي والتكنولوجي حين يضع الافراد امام وجهات نظر متضادة واتجاهات جديدة واساليب متنوعة لتحقيق النجاح تفضي الى الصراع، فضلا عن المنافسة حول المصالح والحاجات والموارد ذات القيمة التي تعد من اقوى مصادر الصراع.

بعد الحرب العالمية الثانية اقتنعت الدول بأن ما حصل للبشرية من كوارث اودت بحياة الملايين وخراب مدمّر وخسائر مادية لا تقدر بثمن، سببه ان عقول القادة كانت مسكونة بدافع السيطرة ونفوسها مشحونة بدافع العدوان، وان الناس ايضا كانت تفتقد الى السلام ، وان الضمانة الأكيدة لتجنب وصول الصراع الى مستواه الأخير (الحرب) هو في اشاعة ثقافة السلام. وبعد محاولات كثيرة تم التوصل الى صياغة مفهوم لثقافة السلام في المؤتمر الدولي الذي عقد في ساحل العاج عام 1989 بعنوان (السلام في اذهان البشر)، وعهد الى منظمة اليونسكو صياغة رؤية جديدة لثقافة السلام تقوم على مبدأ احترام: الحياة، الحرية، العدالة، التسامح.. والمساواة بين الرجل والمرأة.. واقرت الجمعية للامم المتحدة في دورتها الثانية والخمسين اجندة خاصة بعنوان (نحو ثقافة السلام) واعلنت ان عام 2000 سيكون عاما دوليا لثقافة السلام وان الحقبة من 2001 الى 2010 تعد مخصصة لاشاعة ثقافة السلام..وصار مفهوم ثقافة السلام معيارا للمفاضلة بين الدول والمجتمعات ايضا.

ومن المفارقات ان هذه السنوات العشر التي خصصت لإشاعة ثقافة السلام كانت هي الأفظع في الصراعات والنزاعات والأزمات والحروب في تاريخ العراق المعاصر.. وهنالك سببان رئيسان لما حدث:

الأول: ان الذين استلموا السلطة في العراق كانوا معبئين بروح الانتقام والثأر الناجمة عن الشعور بالاضطهاد والمظلومية والحيف،

والثاني: ان العقل الجمعي للجماهير العراقية هو الذي تحكم بسلوكها في السنوات العشر الأخيرة ، وأنه يمارس آليات تحكمية (قاتلة)أهمها:

1. تغليب العقل الانفعالي على العقل المنطقي في سلوك الفرد والجماعة، وتعطّيل العقل المنطقي في اوقات الأزمات.

2. استقطاب الناس في مجموعتين متضادتين، جماعة الـ(نحن)التي ينتمي لها وجماعة الـ(هم)الاخرى.، واضفاء الايجابيات على الـ(نحن) والسلبيات على الـ(هم)

3. وفهم الصراع على انه (أكون أو لا أكون)، وأنه اما غالب أو مغلوب.

ولقد جرّ العقل الجمعي للعراقيين الويلات على الشعب العراقي لأنه كان مخدّر وخالق اوهام ومثير فتنة.. وكان ان استغله السياسيون بخباثة ، اذ عزفوا عليه في انتخابات 2005 و2010 وفازوا.. مع ان بينهم مستويات ثقافية متدنية فيما لم يفز اصحاب شهادات عليا يتمتعون بالكفاءة والنزاهة.

واقبح ما في العقل الجمعي للجماهير العراقية هو انه مصاب بعقدة (أخذ الثأر او الحيف) من الآخر ، التي كانت احد أهم أسباب بطش الآخر بالآخر، لأن هذه العقدة تحديدا تعمل على تعطّيل التفكير العقلاني بأسباب الصراع على السلطة او المعتقد.. وبأهداف وغايات من يخلقها.

ولقد تجسدت عقدة اخذ الثأر هذه في (قانون الأجتثاث).. وتعني مفردة الاجتثات القلع من الجذور بأسلوب لا يخضع الى قانون. ونتيجة الى تعالي الأصوات بأن تطبيقه كان ظالما ، جرى تعديل الاسم الى (قانون المساءلة والعدالة). ويلاحظ ان نزعة الثأر الجاهلي هذه كانت عنيفة في الشخصية العربية العراقية مقارنة بالشخصية الكردية التي كانت متسامحة مع الذين اساءوا الى قضيتها من الكورد.

وعلّة اخرى في اللاوعي الجمعي العراقي انه يميل الى اشاعة ثقافة تقديس الشخصيات وصناعة البطل الاستثنائي والقائد الأوحد. وتفضي هذه الثقافة بالضرورة الى صنع الدكتاتور.. اي أن الدكتاتور هو من صناعة اللاوعي الجمعي وليس من صناعة الوعي الفردي. وأنه يعمل من خلال (طقوس التظاهرات)على بث شعارات تثير انفعالات التوحد بالبطل وتأليه القائد. ونرى ان العراقيين هم أكثر شعوب العالم استخداما للشعارات التي تمجد رئيس الدولة. ففي العصر الجمهوري فقط (1958وما بعده) رفعت الجماهير مئات الشعارات لقادة كانوا متناقضين في صفاتهم وادارتهم لشؤون الناس والوطن، بدءا من عبد الكريم قاسم وانتهاءا بصدام حسين (القائد الضرورة) الذي منحوه مئة صفة فاضلة لم يحظ في حقيقته بواحدة منها. ومن المفارقات انهم استقبلوا احمد الجلبي حين دخل العراق مع القوات الامريكية بالتصفيق مرددين شعار:(بالروح مو باللبلبي نفديك أحمد جلبي!).

ان السياسيين العراقيين فهموا اللعبة..بأن وجدوا سرّ بقائهم في السلطة يكون باذكاء الصراع في اللاوعي الجمعي للجماهير العراقية.. وسيمارسونها في انتخابات 2014 ما لم يكن وعي العراقيين قد وصل الى ان يقول لمن لعب عليهم عشر سنوات :وداعا لكم.. اللعبة انتهت!

* رئيس الجمعية النفسية العراقية

...........................................

المصدر:

https://www.facebook.com/profile.php?id=522199780

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 10/شباط/2014 - 9/ربيع الثاني/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م