اللاعنف الكلامي..

من قاموس الامام الشيرازي

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: العنف يوجب فوضى الحياة لا استقامتها.

كل نقيض لبديهيات الانسان التي تربى عليها في الاسرة وعاشها في مجتمعه، شذوذ لا يمكن قبوله..

نتفق على بديهيات إنسانية عامة، لا تقبل الجدل حولها، وهي يمكن عدها من بديهيات الفطرة الإنسانية رغم اختلاف توجهاتها ومعتقداتها..

فالقتل والزنا والسرقة والكذب وزنا المحارم، وغيرها من بديهيات أخرى في السلوك، حولها اجماع انساني على رفضها في جميع الشرائع والقوانين..

بديهيات أخرى هي في الواقع نتيجة ثقافة اجتماعية تشكلت من خلالها وبلورتها حركة الناس وتفاعلهم مع بعضهم..

من تلك البديهيات العنف ومصاديقه في حياتنا، والذي تساهم في انتشاره طرق التربية والسياسة، وانساقنا الاجتماعية، والتي تعلّي من شأن الانسان العنيف في تعاطيه مع الاخرين في حل مشاكله او الحصول على حقوقه، وتحترم تلك الطرق وتراه قويا تقف معه، ضد الاخر الذي لا يستجيب لتلك الطرق وتدعو الى اللين والمسامحة والمسالمة في التعاطي مع تلك المشاكل، والذي ترى لينه ومسالمته ضعفا لا يريد الاخرون الوقوف بصفه..

في طرحه لموضوعة (العنف) ومصاديقه، وما يقترحه من مفهوم اخر هو (اللاعنف) ومصاديقه، يؤكد المرجع الديني الراحل الامام السيد محمد الشيرازي (قدس سره) ان (العنف يوجب فوضى الحياة لا استقامتها). والفوضى هي الناشبة في الفضاء الاجتماعي العام ومثله السياسي، واذا اردنا التوسع اكثر قلنا الفضاء الإنساني العام..

والعنف في ما يتبدى الان، يقود الى نتيجة حتمية واحدة هي دائما وابدا لا يمكن تثنيتها او الاشتقاق منها لاخرى مغايرة، والنتيجة هي الهزيمة، كما يعبر عنها الامام الراحل (قدس سره) بقوله: (السياسة المملوءة بالعنف والغلظة لا تؤدي الا الى الهزيمة). واستعماله لكلمة (السياسة) هو استعمال مجازي اكثر من حقيقي كما درج الفهم (البديهي) للسياسة كتعاط لشأن يتعلق بأمور الحكم وحده فقط، انه يتعدى ذلك الى سياسة النفس والاسرة وطبيعة العلاقة بين الانسان والاخرين.

في طرحه لمفهوم أو مبدأ (اللاعنف) يقترح الامام الراحل (قدس سره) ثلاث مقاربات له، تنطلق من تقسيمه لأنواعه، وهي:

اللاعنف اليدوي، او المادي او العضلي، الذي يلجأ اليه الانسان مستخدما قواه المعنوية في حل خلافاته او نزاعه مع الاخرين، وهو الحوار والتحاور بعيدا عن استخدام اليد.

اللاعنف الكلامي، واداته اللسان، الذي يتوجه بالكلام المباشر للاخرين في التخاطب معهم، وهو عدم استعمال الألفاظ النابية والجارحة والشتيمة والسباب واللعن والطعن.

اللاعنف القلبي وهو الأخطر والاقوى تأثيرا، لان كل سلوك او كلام هو انعكاس لما يختزنه الانسان في قلبه، وهو يعني في هذه المقاربة، سعة الصدر، وطرد الكره والحسد والنفاق من قلب الانسان، ليتحرر من كل ما من شأنه ان يقود الى العنف.

واللاعنف في نظر الامام الراحل، هو: (مبدأ إسلامي نابع من نظرة الإسلام إلى البشرية، ونابع من الرسالة المحمَّدية التي هي رسالة رحمة للبشر، فلا تحمل أي جانب من العنف والإرهاب، وفيها خطاب معقول للإنسان إذا لم يكن قادراً على الظالم باستخدام السلاح بوجهه، فالمفترض أن يقابلَه بسياسة اللين والصبر، إذ كانت سياسة اللين هي السلاح الذي استخدمه الأنبياء والمصلحون لمقابلة العتاة والطغاة).

و(اللاعنف سمة الأنبياء والائمة (عليهم السلام) والعقلاء الذين يقدمون الأهم على المهم في شتى حيثيات حياتهم)، كما يضيف الامام الراحل..

والانسان في ممارسته للين والصبر، وجعل ذلك طبعا في نفسه، او تدريبا متواصلا على التطبّع، يقود الى انعكاسات مثمرة، يجد صداها في (سائر جوارحه وجوانحه).

في مقاربته الثانية وهي اللاعنف الكلامي،، والتي يرى الامام الراحل (قدس سره) ان لها ابلغ الأثر في تحديد وجهة الانسان الى طريقين لا ثالث لهما، وهما الهلاك او النجاة في الدنيا والأخرى، تبعا لطرق استخدام اللسان في الخير او الشر، في احترام الاخرين في الكلام معهم او عنهم، او الحاق الإساءة بهم والنيل منهم، ومن (الأمور المهمّة التي طالما أكّد الإسلام على تطبيعها باللاعنف هو اللسان، ذلك العضو الذي كثيراً ما يأخذ بيد الإنسان إمّا إلى الهلاك والضياع المحتوم أو إلى السعادة والفلاح في الدارين).

من هذا المنطلق يؤكد الامام الراحل (قدس سره) : (إنّ العديد من الروايات أخذت تؤكّد على مسألة اللين في القول، وعدم التهجّم على الآخرين عبر اللسان سواء أكان من خلال السباب والفحش أم بغيرهما من أساليب العنف باللسان).

في اطروحته اللاعنفية، يقرن المقاربة الأولى مع الثانية، من خلال استبعاد القوة العضلية ممثلة باليد المشهرة للسلاح، وعضو اخر هو اللسان، الذي يعدّ أيضا سلاحا آخر يشهر قوته العنيفة عبر الخطاب، ويكون اشد فتكا في الكثير من الأوقات من السلاح نفسه، يعبر (قدس سره) عن ذلك بهذه الكلمات: (ليس اللاعنف في بعد السلاح فقط، بل يشمل حتى الكلمة، والنظرة، والاهانة، وغيرها، كما يشمل وسائل الاعلام كالصحف والمجلات وما اشبه).

في اطروحته لا يقتصر الامام الراحل على المناداة بها او تطبيقها في المجتمعات المسلمة من خلال علاقات الافراد في ما بينهم في تلك المجتمعات، بل هو يمد نظره الى ابعد من ذلك، موسعا منها الى مجتمعات أخرى، تدين بمعتقدات تخالف ما أعتقده المسلمون، حتى لو كانت تلك العقائد فاسدة لا تمتلك القداسة في نظر المسلمين، لان (المبدأ الشيرازي) العام في اللاعنف، لا يقتصر على جماعة دون أخرى، او دين دون اخر، انه مبدأ انساني عام عابر لعقائد الناس واديانهم، يقول في اطروحته اللاعنفية: (بالإضافة الى الايات الشريفة المنادية الى العفو، والصفح الجميل، والجنوح الى السلم والسلام، هناك ايات أخر تدعو الى احترام عقائد الاخرين حتى ولو كانت فاسدة وغير صحيحة، وهذا انما يدل على حرص الإسلام على السماحة واللاعنف في سلوك المسلمين حتى مقابل أصحاب العقائد الضالة التي لا قداسة لها في نظر الإسلام).

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 8/شباط/2014 - 7/ربيع الثاني/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م