اللامركزية... خشبة الخلاص من الأزمات

قراءة في فكر الامام الشيرازي

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: بالرغم مما وفره العلماء والخبراء في "القانون" من أنماط للحكم والإدارة بما يوفر قدراً كبيراً من الاستقرار للشعوب، نجد أن البعض ما يزال يكابر لفرض نمط معين مستوحى من منهج ايديولوجي او لتحقيق اكبر قدر ممكن من المصالح الشخصية او الفئوية.

وهذا ما نعاني منه في العراق، الذي يفخر أن له قصب السبق بين الشعوب الاخرى التي شهدت مؤخراً ربيع التغيير. وربما يمكن القول: أن العراق، يُعد حالة خاصة بين سائر الدول المتحولة والمنقلبة على أنظمة حكمها، بأنه منفتح على كل الاحتمالات وفي المجالات كافة، السياسية منها والاقتصادية وحتى الاجتماعية. ومنها مسألة اللامركزية في الإدارة والحكم، ومساعي البعض لترسيخ مبادئ نمط ونهج في الواقع السياسي والاجتماعي، ومساعي البعض الآخر، لتحجيم او تطويع هذه المبادئ لتكون في سياق معين، وهذا البعض – طبعاً- يتخذ من العاصمة بغداد مقراً له.

فإضافة الى ما أدلى به علماء القانون من تبيين ضوابط وأطر اللامركزية في الحكم، فان هذا الجانب المهم في حياة الشعوب، لم يغب عن اهتمامات المرجع الراحل الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- وهو الذي طالما كتب وبحث في مجال الحكم والإدارة، وقد تميزت افكاره ورؤاه في هذا المجال، بالأصالة لانها مستوحاة من النصوص الدينية ومن تجارب عملية مضيئة في سيرة المعصومين عليهم السلام. وقبل أن نقتبس من هذه الرؤى والافكار، ما يفيدنا في العراق – على وجه التحديد- في جدلية النظام المركزي واللامركزي، من خلال كتابه "الفقه الإدارة"، نجدنا ملزمين بتوضيح مسألة، هي بالحقيقة سؤال يبحث عن إجابة في العراق.. ما الحاجة الى النظام اللامركزي؟. وماذا وراء الإصرار على تكريس المركزية؟.

لنلاحظ بدايةً؛ البلاد التي شهدت الربيع العربي، مثل مصر وتونس وليبيا واليمن، تشهد مطالبات عديدة مثل حرية الرأي والمعتقد، وتحديد الهوية، والأمن وتوفير فرص العمل.. لكن لا نسمع كثيراً عن مطالبات بلامركزية ادارية، بينما يكتسب الأمر بالأولوية في العراق. والسبب في وجود الثروات والقدرات والإمكانيات المحفزة على العمل والانتاج والتطور. وإلا ما فائدة صلاحيات واسعة – مثلاً- لمحافظ او مجلس محافظة، اذا لم تكن هنالك عشرات الملايين من الدولارات ترصد لهذه المحافظة او تلك بفضل الثروة النفطية الهائلة لدينا. ونفس السبب الذي يسيل لعاب الكثير – وليس البعض- لأن  يحاول تحديد مفهوم اللامركزية الادارية، في أطر معينة ومحاصرتها  لصالح النظام المركزي والإبقاء على صلاحيات العاصمة.

هذه المقدمة البسيطة تجعلنا أقرب الى فكر الامام الشيرازي الذي وضع نظريته في الادارة الناجحة في ضوء علم "الفقه"، ليس لبقعة جغرافية معينة، إنما للدولة الاسلامية الكبرى التي طالما حلم بها، وقدم لها أجمل الافكار والمشاريع، لكنها بقيت بعيدة المنال. مع ذلك فان رؤيته الايجابية إزاء اللامركزية في الحكم، وتأكيده  على جدوائيتها ومحاسنها، تجد مكانها في الواقع العراقي الذي ينتظر بفارغ الصبر الشكل الصحيح والمنطقي للإدارة والحكم يمكنه من النهوض والعمل والبناء من جديد.

خطوة نحو الاستشارية

ربما يتصور الكثير – وليس البعض- أن اللامركزية تستجيب لمطالب ومصالح سياسية بالدرجة الاولى، ولعل هذا ما حوّل القضية الى وقود لمعارك سياسية صامتة بين الساسة العراقيين، في حين ينبغي ان يكون أفق التفكير أكثر سعة وشمولية، صحيح؛ ان السمة السياسية هي الغالبة لهذا المفهوم، ومن جملة تعريفات عديدة لها أنها "نظام لتوزيع السلطات الإدارية بين الحكومة المركزية والهيئات الإدارية المحلية المنتخبة في المحافظات التي تتولى إدارة شؤونها المحلية بالتنسيق مع السلطة المركزية وتحت رقابتها، وتمارس هذه الهيئات المحلية سلطاتها بموجب القانون وتحل محل السلطة المركزية استناداً إلى مبدأ الحلول في السلطة..". ومعظم الباحثين والمختصين يبحثون في حدود الصلاحيات الممنوحة، ومسألة التشريع والقضاء وغيرها، إلا ان المواطن يجب ألا يغيب عن هذه المعادلة السياسية، وهذا ما يشير اليه سماحة الإمام الراحل في تبيينه مزايا هذه السياسة بانها تمثل "ممارسة فعلية لمبدأ الاستشارية السياسية التي تقوم على اساس مشاركة المواطنين في إدارة شؤونهم وفي صنع القرار بانفسهم، وهذا ما يعبر عنه حديثاً بـ "الديمقراطية".

كيف يكون ذلك، والمعروف في نظام الحكم الاسلامي أن مصدر التشريع الأول هو الله تعالى؟. يوضح سماحته الآلية، وألا تكون القضية مجرد شعارات ترفع أو كلام يُقال لغرض الدعاية الانتخابية. فالاستشارية في رؤيته تتحقق عندما يكون هنالك "مجلس تأطير التشريع في ظل نظام استشاري (ديمقراطي)، يوفر مبدأ السيادة الشعبية، ممثلة في حرية الاختيار والمعارضة والتعبير عن الرأي والأخذ بالأغلبية ووجود رقابة شعبية على صانعي القرار، فان نقل السلطات الى المحليات ومنح المحافظين كافة السلطات والمسؤوليات دون الرجوع الى السلطة المركزية، هو تطبيق عملي للاستشارية".

وللعلم؛ فان قانون مجالس المحافظات موجود في العراق، ليس اليوم، إنما منذ عام 1969، أي بعد عام من الانقلاب العسكري الذي جاء بحزب البعث الى السلطة، فقد أعلن ما كان يسمى بـ "مجلس قيادة الثورة" القانون رقم (159) الخاص بمجالس المحافظات، بيد أن القبضة الحديدية للسلطة آنذاك، جعلت من هذا القانون ليس فقط قناعاً ديمقراطياً، بل وسيفاً مسلطاً على رقاب المسؤولين المحليين من مغبة العدول عن تطبيق السياسات الصادرة من بغداد (السلطة المركزية)، لذا كان المحافظ، الذي يفترض ان يكون ممثلاً عن سلطة تنفيذية – محلية، هو بالحقيقة نفسه منفذاً لسياسة السلطة المركزية في بغداد، وفي الوقت نفسه مراقباً لأعمال الإدارة المحلية في تنفيذ هذه السياسة كما جاء في المادتين (17) و (28) من القانون المذكور.

وبعد تاريخ (9-4-2003) بدأت التطلعات والطموحات بالتشكّل، لأن أول شعار رفع بعد الاطاحة بنظام صدام، هو: المطالبة بحقوق الشعب العراقي ورفع الظلم والاضطهاد عنه، مع وجود عدد لا بأس من الاحزاب والتنظيمات وايضاً الشخصيات الاجتماعية والسياسية المطالبة بهذه الحقوق، والتي تحولت من خندق المعارضة الى الحكم. وقد حمل الناس آمالاً عريضة وكبيرة وهم يتوجهون الى أول تجربة انتخابية في تاريخ (31/2/2005)، حيث شارك في أول انتخابات برلمانية الى جانب انتخابات مجالس المحافظات، بأن يكون ذو شأن في النظام السياسي الجديد من خلال نوابه في المجالس المحلية والمجلس النيابي في العاصمة، وفي فترة لاحقة تم تدعيم مبدأ الفدرالية واللامركزية الإدارية والذي جاء من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية لسنة 2004 في ظل سلطة الائتلاف المؤقتة، بسند دستوري حيث حددت المادة (115) من الدستور العراقي، السياقات التي يفترض اتباعها لتطبيق مبدأ اللامركزية، او استحداث أية وحدات ادارية جديدة،  حيث تنص تلك المادة، على انه "يحق لكل محافظةٍ او اكثر، تكوين اقليم بناءً على طلب بالاستفتاء عليه، يقدم بأحدى طريقتين: اولاً : طلب من ثلث الاعضاء في كل مجلسٍ من مجالس المحافظات التي تروم تكوين الاقليم. وثانياً: طلبٍ من عُشر الناخبين في كل محافظة من المحافظات التي تروم تكوين الاقليم".

وإذن؛ نعرف مصداقية اللامركزية، كمفهوم ومبدأ سياسي، من خلال نسبة التواجد الجماهيري في الساحة السياسية، ليس خلال فترة الاقتراع المحدودة يوم الانتخابات، إنما في المراقبة والمحاسبة، وإطلاق حرية الرأي والتعبير وانتقاد المسؤول على طول الخط، ولتكن السبل الى ذلك متعددة، بشرط أن تكون قانونية ومقبولة، فالنتيجة واحدة. وهنا تحديداً يكمن دور مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الثقافية والدينية في توجيه الشارع للنزول الى الساحة والتأثير على القرار من خلال المشاركة في الانتخابات أو تنظيم مسيرات ووقفات  احتجاجية او تظاهرات مطلبية، او غير ذلك.

الفوائد اكثر من المساوئ

لمن يلاحظ الشد والجذب بين الكتل السياسية على مجرد التعديل على قانون مجالس المحافظات، يخيل اليه أن المعنيين، بالحقيقة غير معنيين بالايجابيات التي تكمن في هذا النمط من الحكم والإدارة، فالتركيز وتسليط الاضواء على ما تخفيه الصلاحيات الممنوحة لمجالس المحافظات والمحافظين، من امتيازات وقدرات ترفع من شأن هذا وتحطّ من شأن ذاك.. لاسيما وأن الحديث اليوم على صفيح ساخن، حول حصول المحافظات النفطية والمنتجة لها، حصة من النفط العراقي المصدر بمقدار خمسة دولار لكل برميل نفط، وبعد إقرار البرلمان على هذا القانون، ستحصل كل محافظة مشمولة بالقانون على حوالي (15) مليون دولار، حسب آخر رقم للتصدير العراقي الذي بلغ حوالي ثلاثة ملايين برميل يومياً.

فهل هذه هي الفوائد التي يبحث عنها المعنيون من وراء قانون مجالس المحافظات؟.

سماحة الإمام الشيرازي – قدس سره- في معرض اشارته الى الفوائد والمساوئ، فانه يؤكد على فوائد النظام اللامركزي لما فيه خدمة الصالح العام، وأهمها – كما جاء في كتابه- ايجاد العلاقة المباشرة بين الجماهير والمسؤول المحلي في المحافظة، بحيث تتم تلبية حاجات الجماهير أسرع مما لو كانت العلاقة بين الجماهير والمسؤول في الحكومة المركزية. ويضيئ سماحته بأن هذا الواقع من شأنه أن يحد من "الاضطرابات والانقلابات"، كما يشير سماحته الى فرصة النضوج الإداري لدى المسؤولين المحليين، عندما يكونوا مقابل المسؤولين في الحكومة المركزية، بحيث يكون همهم التطبيق الأصح والأكمل للقوانين العامة، كما يكونوا حريصين على الأداء الجيد في داخل المحافظة، ثم تكون هنالك حالة تنسيق وتواصل بين المحافظة الواحدة وسائر المحافظات، بما يفتح الطريق أمام التنافس والتسابق نحو الأفضل.

ولا أجد الحاجة الى الاشارة الى مساوئ اللامركزية التي وردت في كتاب "الفقه الإدارة"، أبرزها زيادة النفقات الحكومية على الدوائر المستحدثة من الوزارات والمديريات، وايضاً زيادة أعداد الموظفين في عموم البلاد، وكذلك احتمال حصول التعارض في بعض القوانين القضائية بين المحافظة والمركز، لأن التقاء الجماهير والقيادة السياسية على هذا النظام يجعلها محط الانظار ومكمن الآمال والطموحات، لكن "بشرطها وشروطها"، وفي مقدمتها الأمانة التي يجب أن يتحلّى بها المسؤولون والسياسيون، ففي هذا السياق يشير سماحته الى أن اللامركزية من شأنها أن تسهم في دفع عجلة الاقتصاد والتسريع في النمو والتطور بفضل الصلاحيات الممنوحة للمحافظات، وإلا فان اللامركزية تتحول الى محنة جديدة للبلد والشعب تضاف الى محنه وأزماته.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 5/شباط/2014 - 4/ربيع الثاني/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م