جامعاتنا: العباءة الأكاديمية أم بزّة الكاكي؟

د. علي محمد ياسين

 

للجامعات أهميّة قصوى في نهضة الأمم، وقد ترسخ الاهتمام بها في العالم المتحضّر، وتضاعف الإنفاق المالي على بحوثها ومؤتمراتها العلميّة في شتى ضروب المعرفة لما لذلك من مردود إيجابي في بناء مجتمعات حيّة مزدهرة

وبالرغم من كلّ ما عانت منه الأكاديميّات والجامعات العراقيّة، فإنّ الأمل يظل معقودا عليها، لاسيما بعد انهيار النظام السياسي البعثي الذي كبّل حرية التفكير لعقود طويلة وحاول تفريغ الجامعات من طاقاتها الخلاقة، ثم تجويقها للتطبيل الفكري والخواء الأيديولوجي، ولكي تستطيع الجامعة استعادة عافيتها للمساهمة في التراكم الضروري لقيام نهضة فكرية جديدة تسمو بالفعلين الفكري والعلمي ينبغي أن يأخذ القائمون عليها من مسؤولين وعمداء وباحثين أكاديميين بالحسبان الشروط التي تأسست على وفقها الجامعة بوصفها مؤسسة بحثية تُسهم بعملية النهوض الفكري والعلمي بعيدا عن القناعات الأيديولوجيّة وعن مجاذبات السياسة ومهاتراتها.

ويحكي لنا تاريخ الجامعات العالميّة العريقة عن خروقات فجّة اجتاحت الأعراف الأكاديميّة زمن وصول السياسات الخرقاء إلى سدّة الحكم ومحاولاتها لصرف الجامعة عن غاياتها ومقاصدها الإنسانيّة النبيلة، وتجييرها لخدمة أهداف ذات طابع سياسي لا يمت للجامعة بأية صلة.

في زمن صعود (هتلر) القائد الألماني النازي ثلاثينيّات القرن الماضي- مثلا - داهمت الجامعيين والأساتذة الأكاديميين الألمان - وهم من أكثر الأكاديميين في العالم إخلاصا للحقيقة وحبّا لها - مراسيم جديدة لم تكن مألوفة من ذي قبل، وهي المراسيم المتعلّقة بتحيّة (هتلر) وأساليب تأديتها داخل الحرم الجامعي تحت مراقبة (الجستابو= زبانية النازية) وحرصهم على متابعة من لا يلتزم بها، أو من لا يُحسن تأديتها من الاساتذة بغية طردهم من الجامعة وتعريضهم للإذلال والعوز والتشريد، وهو الأمر الذي جعل جامعة ذات أعراف أكاديميّة عريقة كالجامعة الألمانيّة تتنازل عن كثير من تقاليدها وأعرافها لإرضاء عسكريٍّ مغرور مثل هتلر.

أمّا في زمن الطاغية ومع مطلع الثمانينيّات من القرن الماضي فقد بدأت جامعاتنا العراقيّة على سبيل المثال، بالانحراف عن الخط الرصين الذي عُرفت من خلاله هذه الجامعات منذ بداية تأسيسها في العصر الحديث، ولا سيّما في مجال الدراسات الإنسانيّة والفكريّة، إذ إنّ لفظة (أكاديمي) قد فقدت بريقها ومعناها مع وصول الحزب الأوحد، وصارت هذه اللفظة تشير إلى أي شخص قادر على أن يكتب بحثا طويلا خاليا من الحيوية والروح ومذيّلا بقائمة طويلة من الهوامش والمصادر والمراجع، ويُستثنى من ذلك الأمر - بطبيعة الحال - البعض ممن استطاعوا النأي بأنفسهم من تأدية الدراسات الأكاديميّة بمعناها غير المجدي، في حين أغرق البعض الآخر في بحوث سمجة لا تستجيب للمطلب الأكاديمي من حيث هو اشتراط علمي يقوم على وصف الأشياء والظواهر وتحليل مرجعيّاتها وأبعادها استنادا إلى آليّة منهجيّة تُسبغ على هذه الظواهر والأمور نزوعاً عقليّاَ بحتا كان الافتقار إليه أحد الدواعي المباشرة لجعل البحوث التي كتبها هؤلاء الباحثون والدارسون بمنزلة المضحك المبكي !

ولعلّ عودة سريعة إلى بعض عنوانات البحوث والرسائل والأطاريح المكتوبة تحت رغبات ودوافع لا تمتّ للعلميّة أو للأكاديميّة بصلة ستكشف لنا عن حجم التدهور الذي وصلت إليه الجامعة المحكومة بتسييس أيديولوجي الغرض منه تسميم الأذهان والعقول، وسلب نزوعها الحر والطبيعي نحو التفكّر والتفكير، وحسبك أن تقرأ عنوانا لبحث أكاديمي كـ(السمات الأسلوبيّة في خطب القائد الضرورة) و (رؤى البعث في الإبداع الأدبي) و (التنشئة الاجتماعيّة في المنظور البعثي) و(مفهوما الدين والتراث في أفكار القائد المؤسس) وهكذا دواليك من بحوث غثّة لا تمتّ بصلة للعلم ولا للعقل ولا للأكاديميّة.

 هذا الخرق الذي سجّلته الجامعات العراقيّة - آنذاك - على مستوى الأعراف والتقاليد البحثيّة والعلميّة كان من الطبيعي أن يقود إلى خروقات أخرى تمثّلت بالسياسات التعليميّة التي اتّبعتها الجامعة العراقيّة، وبالممارسات الأخرى المندرجة تحت لائحة هذه السياسات، ابتداء من آلية قبول الطلبة في الدراسات الأوليّة والعليا على أساس الولاء والموقف من النظام، لا على أساس المستوى العلمي، مروراً بسياسة كتم الأنفاس ومراقبة كلّ نشاط ثقافيّ يصدر من الطلبة والأساتذة على حدّ سواء، وانتهاء بسياسة العسكرة التي أجبرت الأستاذة أن ينزعوا عنهم لبوسهم الشرعي (العباءة الأكاديميّة) مرتدين بزّة الكاكي البغيضة والمسقطة لهيبتهم ومنزلتهم في عيون طلبتهم أثناء معسكرات التدريب المشتركة.

غير أن التغيير الذي شهده العراق في العقد الأخير يعدّ فرصة مثاليّة كي تنتشل الجامعات العراقية نفسها من الوحل الذي دُيثت به فيما سبق، وهو همّ كبير مازال المعنيون بالشأن الجامعي يعانون بعض تبعاته وسلبيّاته، شرط أن تتوفر للجامعة كلّ السبل التي تقود إلى عوالم المعرفة الحيّة والتفكير الحر، وشرط أن تكون الجامعة منبرا حرّا لكلّ ذي عقل سليم يمتلك حجّته المنطقيّة والعلميّة في توجيه المجتمع للخير والكمال، وشرط ألّا يكون الحرم الجامعي منطقة نفوذ، ومرتعا خصباً للمجاذبات السياسيّة والأدلجة الفكريّة، وهو الأمر الذي سيقوّض حلم جامعاتنا بنسيان كبوتها السابقة، وهو ما سيعدها إلى الحلقة المُفرغة التي كانت تدور فيها من ذي قبل.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 20/كانون الثاني/2014 - 18/ربيع الأول/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م