الفراغ: ينتج التفكير التنظيري والمحاباة والمواربة

علي إسماعيل الجاف

 

نشاهد ونسمع عن تطوير الموارد البشرية في البلدان المتقدمة التي تبذل جهودا متواصلة في إيصال أجيالها الى مراكز متقدمة بالمفاهيم والمقاييس العلمية والتطبيقية المجتمعية. فقد تفاجأ بوجود أدارة وقت مجتمعية وهي هيئات ومنظمات مجتمعية طوعية تسعى الى تمكين قدرات ومهارات ومواهب الإنسان الاعتيادي الذي يشكو من ظاهرة الكسل او الخمول او النكوص والتخلي.

في تلك البلدان لا يسمح للإنسان ان يتطلع او ينتظر او يحلم او يتأمل في قضايا اجتماعية وسياسية لوقت طويل لان ذلك سيكلفه مزيدا من القهر والحرمان وحدوث ما يعرف "ردة الفعل الذاتي" مما يحوله الى فريسة لعامل الاضطهاد والتميز والإهمال المجتمعي. فيكون هناك إلزاما جبريا على ذلك الفرد بان يواكب الحداثة والتمدن والتحضر والثقافة السائدة في بلده لان الانعزال يعني الموت الصامت بلغة "الذات" وليس الجماعة التي تستمر دون ان تنظر بقضيته او تحاول التفكير لدقيقة في أيجاد منفذ يتمكن من خلاله، العاجز بلغتهم، العيش الكريم.

اذن، هي معادلة التحدي الداخلي الذي يواجهه الفرد داخل مجتمعه دون وجود نوافذ يتمكن الفرد من اختراقها فالنظام الداخلي يعمل بمبدأ "الربحية والمنفعة" والفرد يتمنى ان يعيش في بلده وتكمل الحكومة تسديد فاتورته القديمة التي باتت بلاغة الرأسمالية منتهية الصلاحية، وتطالب بتعويض عن الفترات السابقة لعدم وجود مؤشر عملي بجهاز الحاسوب يدل على استيفاء الديون! يتمكن الفرد من العيش الكريم اذا ساير معايير الجودة والاعتمادية المتعمدة في بلده، تكون في الغالب مستندة على عامل الربحية، دون معارضة او اعتراض او تسجيل 1% من أفكاره البالية بلغتهم.

هم جماعة مسيطرة على عقول البشر، تحاول بسط نفوذها بلغة الحداثة او القوة: يعني اذا استطاعوا السيطرة بلغة الفكر الحديث والتقنيات الحديثة تكون النتائج سليمة وصحية لصالحهم، اما اذا لم يسجلوا نجاحا ملموسا وواضحا يدر لهم مدخلات مالية كبيرة، فستكون النتائج سلبية لهم، ويلجئون الى استخدام عوامل الحرب النفسية المجتمعية من خلال "الطبقية"؛ "التميزية" "الاضطهادية المبرمجة" و"الضغط الذاتي الداخلي" وغيرها من حروب وممارسات يكون الفقراء ضحية فيها، والأمراء يتطلعون بلغة العطف على المساكين الحالمين!

فيلجأ الفرد الى قواعد وضوابط بلده الصارمة في الغالب كونها تسري على الجميع دون تميز او استثناء، وينتج ذلك تهذيب النفس وصقل المهارات والقدرات الذاتية وتحسين المخرجات ودقة التعامل مع الأمور المتعلقة بمفاهيم الأموال ويقوم الفرد بعمل حسابات ومراجعات متكررة قبل خوض المشوار او المهمة التي ستكلفه قبل غيره مسؤولية أيجاد حلول لاحقة لقضيته.

 بالتالي، يستطيع الفرد ان ينعم بحياة كريمة وتامين صحي واجتماعي ويتم توفير عمل ملائم له اذا رضخ لقوانين العصر المتغيرة. نرى، بعض الدول المتقدمة، توفر مساحات واسعة لأجيالها كونها تؤمن بمبدأ "التكافل الاجتماعي" في حين الغالب منها يؤمن بمبدأ "أعمل وأنتج" مما يعني التنشئة الأولية للفرد يعتمد على محيطه وبيئته ومخرجاته ستعكس تلك البيئة وذلك المحيط بغض النظر عن الإيذاء او المعاناة التي ستلحق به من جراء ذلك الجهد الفكري والبدني لان الأساس رصينا وثابتا ولا يمكن تغييره.

بينما يكون الكلام مغايرا ومناقضا ومختلفا لما عرض أعلاه في بلداننا: يمنح الفرد حرية العيش والعمل والحديث والدراسة بدون مساعدة في الغالب وعليه ان يجتهد ببيئة تشوبها عدم العدالة والمساواة، ويبذل جهودا في أيجاد وساطات ويبدأ ينظر عن نفسه أمام صاحب القرار لغياب المؤسسات العلمية الرصينة التي تستثمر طاقاته وتمتن مهاراته. يبذل الفرد أموالا للحصول رعاية صحية سليمة، يسافر الى بلدان متطورة او غير متطورة لكسب المعارف والعلوم والحصول على مراتب علمية متقدمة، يسمح أكتاف غير المؤهلين من اجل تحقيق غاية وليس هدف يحلم به منذ صغره، ينظر طويلا لينجز عمله او يكتسب قناعة شبه حقيقية، يتبع أسلوب المحاباة والمواربة للوصول الى مراتب متقدمة. فيحدث فوضى واجتهادات بلغة "البناء المؤسساتي والمجتمعي" وشيوع ظاهرة "الأنا" بنسب مرتفعة جدا، ويصبح غير المؤهل متسلطا ونافذا والمبدع والكفء مهمشا ومبعدا لان التقييم والتقويم حجب عنهم ولا يفعل بأسلوب منطقي ومعياري معروف وإنما بأهواء ومزاجات وتوجهات فردية تسعى الى بسط سياسة "التخويل المجتمعي المحلي غير المركزي" ومن يتخلف عن الركب او يجد لنفسه ممرا سالكا يشقه بذاته يقضي حياته في الحسرات والقهر!

نشاهد، في بلداننا، الفرد يسعى الى التعبير والإفراط في الحديث غير المنطقي او المناسب لسببين: عدم وجود ثقافة ضبط النفس وثقافة المراجعة الذاتية لسياسة الفرد اليومية. عندما ندخل مقهى او دكان حلاق او نجتمع في لقاء او برنامج او تجتمع العائلة او نسافر ونكون منفردين مع احد إقراننا نبدأ بالتحدث في قضايا السياسة والاقتصاد والثقافة والمعرفة ونفرح عند التعبير المفرط بلغة التنظير، المحاباة، المدح والذم، المواربة؛ لكننا لا نريد او نسعى ان نقدم 1% مما تفوهنا بـ هاو طلبنا ان يكون او نطمع في ان نصل اليه، كوننا نناقض أنفسنا قبل الآخرين ونمجد بذاتنا ونبرز على إقراننا من الأفراد لان الجميع يفتقر الى "الثقافة العامة" وكلهم متعلمون بلغة البيئة والمحيط وليس بعامل ادارة الوقت والأهداف والتنظيم والقيمة! فنجد موظفنا يتحدث في السياسة والاقتصاد والمعرفة والثقافة ويكون فيلسوفا في أرائه وأطروحاته ومقترحاته وأفكاره لكنه غير عادل عندما يكون رئيسا للجنة (س) او مشرفا في مجموعة (ص) او متنفذا في مؤسسة او دائرة او هيئة (م)، بالتالي لنكن منطقين وصادقين مع أنفسنا قبل غيرنا. اعتقد ان الحديث له جذور قديمة وتم التطرق له علميا وعمليا من قبل باحثين لكن طرحنا ربما سيكون مؤثرا ومختلفا عن الآخرين في عبارة واحدة التي ستكون شعار المخلصين والشرفاء الذين يمتلكون المواطنة ونكران الذات: "افعل ما شئت لخدمة بلدك، فهو من احتضنك ورعاك وسيؤويك في فنائك".

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 15/كانون الثاني/2014 - 13/ربيع الأول/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م