كربلاء المقدسة ملتقى القيم الإنسانية تحتضن اللاجئين

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: مرة أخرى تسجل كربلاء المقدسة، حضوراً انسانياً متميزاً وسط نيران المعارك وشدة الأزمات، لتحتضن العوائل والأطفال والشيوخ الناجين من الموت، وتوفر لهم أجواء الأمن والاستقرار، حيث المبيت الدافئ والإمكانات المتوفرة وحتى المورد المالي.

وطالما كانت كذلك.. منذ الحرب العراقية – الإيرانية، فقد عُرفت هذه المدينة، بانها مدينة أمن وسلام، فتدفقت عليها الملايين هرباً من نيران الحرب المفروضة عليهم. وفي أزمة إنسانية أخرى شهدها العراق، في الفترة التي أعقبت سقوط الطاغية، عندما عصفت به رياح الحرب الطائفية في المناطق المتنازع عليها، لاسيما في مناطق العاصمة بغداد ومحافظات ديالى والموصل، فتدفقت جموع أخرى نحو كربلاء يحدوهم نفس الأمل الكبير.

وعندما شهدت محافظة الانبار المجاورة لكربلاء المقدسة، معارك داخلية وحرب شوارع بين ابناء المحافظة وبين الجماعات الإرهابية – التكفيرية ممثلة بتنظيم "داعش" الارهابي، فتحت هذه المدينة أذرعها لمن اختار طريق الهجرة والابتعاد عن ساحة المعارك وطلب الأمان والاستقرار.

لكن لماذا كربلاء بالتحديد..؟!.

انه سؤال جدير حقاً، فقد كان المعروف بين العراقيين، منذ ثمانينات القرن الماضي، ان المدن المقدسة آمنة أكثر من غيرها، ولن تتعرض للقصف كما هو حال سائر المدن العراقية.

انها ليست مجرد اسم على الخارطة.. كما لا تعني فقط حالة حضرية ومدنية بين سائر النماذج الحضرية في العراق، إنما هي منظومة متكاملة من القيم والمبادئ والاحكام والآداب، رسّخها وأرسى دعائمها في الأرض، الإمام الحسين، عليه السلام، عندما وقف لأول مرة فوق ترابها، وأوقف القافلة الطويلة خلفه، وكان سبب الوقوف هو سرية عسكرية تابع لجيش "عمر ابن سعد"، بقيادة الحر بن يزيد الرياحي. هذا القائد العسكري، استوقف الإمام، و"جعجع به.." كما في التاريخ، بينما الإمام استضافه بالماء! وعندما سقط، عليه السلام، على هذه الأرض، وسُفك دمه الشريف، فان تلك المنظومة وجدت في هذه الدماء عنصر حياة دائم، ثم سبيلاً للعطاء وفوائد جمّة للإنسانية.

إذن؛ نفهم "معادلة حسينية" في هذه المدينة، العطاء بمواصفات متميزة أبرزها: دون مقابل، ودون تحديد هوية المقابل. وهذا درسٌ بليغ نستلهمه من موقف الإمام الحسين عليه السلام مع الحر، وإلا لنفترض أن الإمام لم يكن يسقه الماء، مع أفراده، وكانوا حسب بعض المصادر، يربو عددهم على الألف فارس، ما كان ملوماً. وهذا الدرس تحديداً – من بين دروس أخرى- هو الذي اجتذب عقول وقلوب الملايين من البشر حول العالم، نحو هذه المدينة وزيارة المرقد الشريف حتى يوجدوا الصلة – كما يرون - بين ما يحملونه من عقائد وافكار، وبين قدمه الإمام الحسين عليه السلام، للإنسانية، من قيم الحرية والكرامة والعز والإصلاح، وكل ما يمتّ بصلة الى الحياة، وليس الى الذل والكراهية والموت والدمار.

هؤلاء الذين نراهم يفدون الى كربلاء – الحسين عليه السلام- في مواسم الزيارة، يصنفون الى صنفين: الأول: وهم الغالبية العظمى، ممثلين بالمحبين والموالين من داخل وخارج العراق، والصنف الآخر، من وصلتهم إشعاعات النهضة الحسينية، من خلال البحث والدراسة والمطالعة، فعرفوا الامام، عليه السلام، لكن ثمة شرائح من الناس، لم يستبصروا حتى الآن بعقيدة أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله، او ربما لم يحالفهم الحظ ويطالعوا او يبحثوا في شخصية هذا الامام العظيم. فهل يكونوا خارج قوس؟!. أو بعيدين عن تلك الإشعاعات الحضارية العظيمة؟!.

ان استضافة مدينة كربلاء – الحسين عليه السلام- لعدد من سكان محافظة الانبار، واسكانهم وإيوائهم، وحتى تقديم المنح المالية لهم، يمثل محاولة مشكورة لوضع هذه الشريحة من المجتمع في الطريق الذي مضى عليه الصنفين من زوار هذه المدينة. وللحقيقة نقول: فان الزائرين من كل انحاء العالم، لم يقصدوا كربلاء – الأرض- إنما كربلاء – الحسين- حيث ملتقى تلك القيم الإنسانية والأخلاقية. فاذا كان هذا حال القادمين من إفريقيا وأمريكا واستراليا وحتى روسيا، فكيف يجب ان يكون حال من هو على مسافة قريبة من هذه المدينة؟.

من هنا نعرف كم هي صغيرة وتافهة التجاذبات السياسية والمصالح الفئوية أمام هذا الطود الشامخ والعلم الكبير في سماء الحضارة الانسانية. وكم هي صغيرة الحواجز النفسية بسبب أحداث عنف تقع هنا وهناك، والتي إن قارناها بالمنظومة الحضارية التي حملها الينا أهل البيت، عليهم السلام، والتي نحن بصددها، تكون بسيطة جداً، فأين نحن من الدماء التي سالت على أرض كربلاء أمام أنظار الامام زين العابدين، عليه السلام، وأين نحن من سائر المظالم والويلات التي جرت على أهل البيت وإتباعهم طيلة العهود الماضية؟.

نعم؛ الخطب جلل.. والمصاب كبير.. ولا أحد بإمكانه التغاضي عن الدماء والحرمات، بيد أننا بصدد البناء والإصلاح والتطلع نحو المستقبل، والأهم من كل ذلك، الوقوف بوجه محاولات الهدم القادمة من الخارج، والهدم في كافة الجوانب المادية والمعنوية. لذا نجد أصوات تدعو الى أن يكون جزءاً من الحل، من داخل الانبار، لا أن يكون كل شيء قادم من الخارج. فهذه المحافظة، وأية منطقة أخرى تعرضت للتهميش والإهمال، كان يفترض أن تكون منذ البداية مثل سائر المحافظات في العراق. فالأمن والثروة وفرص العمل والبناء وكل سبل العيش الكريم، لجميع العراقيين. وهذا إن كان مطبقاً بالفعل والقوة، لا فقط مرفوعة كشعارات انتخابية او وسائل يتخذها السياسيون وسيلة لتحقيق المكاسب، لما كنّا نجد موطئ قدم واحد لعناصر ارهابية تأتي من خارج العراق، وهم عبارة عن حثالات ومعقدين وشواذ في المجتمعات التي يعيشونها، فوجدوا الأرض العراقية خير ساحة ليثبتوا وجودهم ويتحولوا الى بندقية، بل وسيوف وخناجر للإيجار..!.

مع كل ذلك؛ فان الخطوة التي اتخذتها كربلاء – الحسين عليه السلام- كانت في الطريق الصحيح نحو تعميم الدرس الإنساني الى الجميع، لاسيما من هم في حاجة اليه.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 14/كانون الثاني/2014 - 12/ربيع الأول/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م