وهمسّ لها همسةٍ صغيرة في قلبهِ

سهى بطرس قوجا

 

الهمسات وما أجملها حينما تكون رقيقة وتهمس في أذان أرقّ، يبتسم لها القلب والعين قبل الشفتين ويطرب لها قلب هامسها.

 نزلت دمعتهِ حينما رحلّ للذكريات وتخطىّ برجلهِ عتبتها، ليقع بصرهِ على جنتهِ التي كانت لهُ في زمانًا ما! دخل ورآها وهي ما زالت طفلة بريئة مثلما عهدها، فرح وتملكتهُ سعادة كادت أن تفجر كيانهِ، شاعرًا برغبة حين يصل إليها أن يطير بها للأعالي كعصفورين في ربيع زاهيّ. تقدم خطوة تلوّ الأخرى إلى حيث كانا يجلسان معًا على نفس المقعد الخشبي بالحديقة ليجلس بقربها ويتنفس عطرها الممزوج بأنفاسها، وما أن لامس يدها حتى فاقّ على واقع أنهُ يلامسّ ربيع ذكراها الذي ما يزال يحيا في أعماقهِ!

جلس وتأمل في أغصان الأشجار المُلامسة لفضاء الحياة وهي حاملةٍ أوراقها بكل ثقلها غير مُبالية بتقلبات الطقس، ثم نظر لنفسهِ وهو جالس تحت ظلها على مقعدهِ يستمتع باللحن الفريد الذي تعزفهُ وهي تتطاير في الهواء واحدة تلامس الأخرى وتتمايل. ترأى لهُ هذا وذكرهُ بمحبوبتهِ عندما كان يلمحها وهي آتية نحوهُ بكامل أناقتها وجاذبيتها ومشيتها، تتمايل بخصرها النحيل وفي عينيها تخبئ أجمل الكلام لهُ والفرحة تملئ قلبها في لقائهِ.

وهنا بدأ همسهُ لها في قلبهِ، تلك المعزوفة الصادرة من أوراق الشجر مُجتمعةٍ جعلت روحهُ تُحلق لأبعدّ من الغيم المتواجد في السماء، وجعلتهُ يكتب لها على الأوراق المُتناثرة أجمل الكلام وأعذبهُ، ومن ثم يبعثها مع نسيمات الهواء الهابة لتسافر إليها وتلبي نداءهُ بالحضور إليهِ بين أحضانهِ، قائلا فيها:

إلى طفلة عابثة ما تزال تحنُّ إلى دميتها وألوانها وكراريسها، ماذا أقول فيك، فالكلام لن ينتهي لأنني أنا لم أنتهي من الحياة بعد؟! هل أقول أنهُ جنون أم عين لا تبصرّ في الكون سواكِ؟! كيف بسمائي وأنا لا أبصرك تحتها، وكيف بقيثارتي وهي خرساء من دون أناملك، كيف بالليل وهو شديد السواد، وكيف بزهرتي وقد جفّ عطرها بعدم رؤيتك، وكيف بهذهِ الروح من دونك في هذه الحياة؟! عيني تبحث عنك هنا وهناك وتسأل أين جنتي؟!

ماذا أقول لك وكيف أبدأ حديثي عنكِ وكيف أصفكِ وأصف ما اعتراني؟! عندما لمحتك للوهلة الأولى وأنتي قادمة نحوي، شعور غريب تملكني وأخترق ثنايا روحي، جعل نبضي يضطرب ودقات قلبي تتراقص وتثور كما تتراقص قطرات المطر على الأرض ثائرة، وكما تتصادم الغيوم في السماء وتصدر صاعقتها. عزفتي على أوتار قلبي بخفة خطواتك أجمل نغمات الحبّ، وجعلتي جبروتي يهتز ويضعف أمام من هي أرقّ من النسمة، كم تمنيتك في لياليَّ نجمة مضيئة وفي دروبي رفيقة وفي عروقي دفؤك يسريّ!

 أحببتُ الجلوس في حضرتك، أمشي خطواتي حيث مشت خطواتك في الشارع الذي طالما شهد أجمل اللحظات التي لا يمكن أن تتكرر بتصوري! أنظر للمصباح المضاء فيهِ علني أجدّ ملامح وجهك في نورهِ، أبحث عن عنوانك في الأزقة علني ألمحَّ حرف اسمك مكتوب حيث نقشتهُ. قلبي في دوامة وقلق وخائف يبحث عنكِ في برد الليالي، لا أعرف كيف أصف هذا الشعور الذي أنا خلف قضبانهِ حائر! أريدكُ في سنيني ولكن لا أجد أراضيكِ حتى أصل إليها واستوطنها وأكون بكِ ومعكِ وبقربكِ اليوم وغدٍ وكل يوم. أنهض في صباحي باكرًا ربما أجدُّ في شروق الشمس وجودكِ، وفي دفئها حضنكِ، ولكن الانتظار يُحيلني للغروب حتى أبعث مع خيوطها التي تجمعها بعد ساعات طوال من الضياء المُشرق مكتوبي ربما يصلك وتردين عليه بجواب يُهدأ هذا النبض.

حائرٌ أنا ماذا أقول بعد! كتبت على الأوراق المُبعثرة هنا وهناك الكثير من الكلام المستعجل الذي يغمرني بالحنين، وهذه آخر ما سأبوح به ولكن على جذع الشجر لكي يبقى حتى متى جئت تزورين المكان تقرأين ما كتبهُ قلب متيم بروح لن تتكرر ولن يكون لها مثيل في الكون أجمعهُ:" أتذكر كيف كانت الشمس تشرق على خصلات شعرك لتزيدهُ ألقًا على ألق، فيؤلمني مرور الوقت دون وجودكِ، أسمع صوت خافت ينادي باسمك، فأدرك أنهُ صوت اشتياقي لكِ، أنا هنا في جنتنا انتظرتك كثيرًا لكي تتهلهل روحي بكِ ولكن طال الانتظار، وهذا الكون بكل ما فيهِ هو أنتِ فقط، أنتِ وحدها من تغلغلت إلى أعماق أعماقي، أنتِ وحدك تبقين أغلىّ من الروح لذاتي".

الحبّ لا يحتاج فقط إلى كيانين ليمثلاه بلْ إلى روحين تتحدان لتنطق بأسمىّ معانيهِ! وضباب الحياة القادم من الإنسان نفسهُ يجعل الكثير من الأشياء الجميلة في الحياة تكون مُستترة وفي مهب الريح، كالمحبة والاشتياق اللذان لا تعرف عمقها ألا ساعة الفراق والفراغ الحاصل بعدها. لكن تبقى الحياة سامية وراقية بالمحبة التي هي أساس كل شيءٍ جميل في الحياة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 9/كانون الثاني/2014 - 7/ربيع الأول/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م