ثقافتان وأنموذجان

قراءة في ورقة من ذاكرة ثورة العشرين الكبرى

د. علي محمد ياسين

 

منذ نشأتها في مطلع القرن الخامس الهجري سعت الحوزات العلمية الإماميّة من أجل إشاعة روح الوعي الإسلامي الصحيح وتعميق مساراته في المجتمع دون أن تتخلى عن نهجها الواضح وثباتها الراسخ وطهرها السياسي ودون أن تفكّر ولو للحظة واحدة بالتراجع عن مهمتها ومسؤوليتها التي يُحتمهُا عليها واجبها الشرعي ومثلما اقتضته دواعي تأسيسها بوصفها مؤسسة تضطلع بوظيفة ربط الأمة بموروثها الروحي الخالد وبقيمها الإنسانية العالية النابعة من فيوضات وحي سماوي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه...

وبوحي من هذا الموقف الراسخ كانت خطى العلماء والمراجع الشيعة في مواقفهم السياسيّة والاجتماعيّة على مدى قرون طويلة، ومن هذه المواقف السامية كان موقف المجاهد المعروف بشيخ الشريعة إبان ثورة العشرين الكبرى في العراق.

شيخ الشريعة...شيخ الثوار وفقيه العلماء

شيخ الشريعة هو فتح الله بن محمد جواد المولود بإصفهان عام 1266 هجري والمهاجر إلى دوحة العلم/النجف الأشرف عام 1295هـ، حيث تزامن ذلك مع غمرة الأحداث والظروف العاصفة التي تمثلت باحتلال الإنجليز للعراق، وما تبع ذلك مع مآس وويلات لا زالت عالقة بذاكرة الأجيال.

تولى شيخ الشريعة في تلك الظروف العصيبة إدارة المرجعية العلمية وقيادة ثورة العشرين مباشرة بعد رحيل زعيمها الأول (محمد تقي الشيرازي) مسموماً على يد أذناب الاحتلال، وقد حاول شيخ الشريعة الأصفهاني لملمة كل أطراف الثورة، إذ قام بتشكيل قيادة عليا لها ضمّت العديد من الرموز العراقية - آنذاك - ومن مختلف الطوائف الوطنية فيما راح الإنجليز يخططون لتفكيك أواصر هذه اللُحمة الوطنية من خلال عرضهم لفكرة (التفاوض) التي أحدثت انقساما بين فصائل الثورة ما بين مؤيد لهذه الفكرة ومعارض لها، وكان شيخ الثوار زعيماً للخط الرافض لفكرة التفاوض مع الانجليز مُصدراً بيانه المشهور ( لا مفاوضة قبل الجلاء) وإنه سيستمر بمقاتلتهم ( بالمكوار والفالة والمحجال ) في حالة نضوب العتاد والسلاح !

ثقافة السلطة.... والثقافة المضادة

استندت بريطانيا في تمرير سياستها الاستعلائية إلى عدة برامج وأساليب مدروسة كان أشدُها وضوحاً سياسة التسلط والترهيب، مثلما لجأت إلى سياسة الاستمالة والاحتواء، وقد نجحت من خلال الأسلوبين كليهما في فرض هيمنتها بمرور الزمن باعتبارها قوة عالمية كبرى- حينذاك- لا يمكن مقارنتها بما تمتلكه القوى والعشائر الثائرة من أسلحة بدائية، ولقد استطاعت وفقاً لسياستها تلك تطبيع فئات كبيرة من المجتمع العراقي من عسكريين وفنّيين وسياسيين وشيوخ عشائر ومثقفين وغيرهم، ولكنها وجدت نفسها عاجزة عن الاشتباك مع مثقف عتيد، وهو من طراز خاص آخر مغاير مثلما أخفقت في استمالته وكسب رضاه، وكان ذلك المقصود هو المثقف/الفقيه، وحسبنا أن ندرج بعض الأسماء التي ظهرت آنذاك بصفتها التي تجمع بين الأمرين مثل الشهيد الحبوبي والمجتهد كاظم يزدي والشهيد محمد تقي الشيرازي وشيخ الشريعة وفقهاء آخرين من حوزاتنا وحسبنا أن نتأمل خطابهم الديني – السياسي الذكي والواعي والمستند إلى خلفية مرجعية راسخة جعلت الاستعمار يدرك من خلالها أن هذا الخطاب الموجه ضده هو أكثر الخطابات الثقافية إقضاضاً لمضجعه، وأعظمها قدرة على تقويض مركزياته التي يسعى إلى تأسيسها في بلاد الشرق المسلم. وقد أدركت تلك الكوكبة اللامعة من علمائنا بذكائها الفطري وبحدسها المعقلن الأبعاد الخطرة التي تنطوي عليها خطابات السلطة الإنجليزية من أجل تمرير أنموذجها الثقافي الغربي الأمبريالي المغاير فتصدت لذلك بكل حزم ومسؤولية، وأسهمت في إسقاطه وإفشاله.

ويمكن أن نتأمل خطاب العلامة شيخ الشريعة الأصفهاني – رحمه الله – في ردّه على الحاكم العسكري (ولسن) حيث اقتطعنا بعضاً من فقراته من (كتاب الثورة العراقية الكبرى للمؤرخ عبد الرزاق الحسيني ص217) بعد أن نبدأ ببعض فقرات من رسالة بعثها ذلك الحاكم إلى شيخ الشريعة في تاريخ 27/ أب 1920، كما جاء في المصدر المذكور وقد ورد من رسالة (ولسن) ما يأتي:

حضرة العلامة شيخ الشريعة الاصفهاني – دام علاه –

بعد إهداء السلام والتفقد عن صحة ذاتكم، نذكّركم بأن آراء سلفكم العلامة محمد تقي الشيرازي كانت مع الصلح بين الحكومة والملّة، واجتناب سفك الدماء، وكذلك ذاتكم تشعر هذا الشعور السامي، أما من جهة حكومتنا فمعلوم أن الحكومة الانجليزية المعظّمة قد اعتمدت دائماً على ثلاثة أركان في سياستها وهي الرحمة والعدل والتسامح الديني، وبريطانيا العظمى لم يكن لها جيش قبل أن يعتدى عليها، ولما وقع الاعتداء من الأتراك والألمان تطوعت الأمة الإنجليزية للدفاع عن نفسها حتى صار لها جيش جرار يربو على الخمسة ملايين جندي، وهم منتشرون في بلاد العدو، ولما وضعت الحربُ أوزارها نقصت أعداد جنودنا كثيراً بترخيص من حكومتنا، وهي قادرة في كل وقت أن تعيد هذا الجيش إلى أكبر من قوته السابقة، أما من جهة ثروة دولة الإنجليز فهي أوضح من أن أبين لكم، وإن أهل العراق مسرورون لبقاء الإنجليز بينهم بعد هزيمة الأتراك ولكن لما رأى بعض المفسدين ذلك النقص في جيوشنا بالعراق قاموا بتشويش الأذهان حتى صارت الحال إلى ما هو عليه الآن من بلبلة بين الحكومة والعشائر العراقية التي هي قليلة العدد وقليلة التمويل ولا تمتلك السلاح ولا تعرف تصنيعه وليس لها من عون بالخارج بينما نحن مفتوحة لنا الأرض والسماء والبحار..... ثم ينهي كلامه بالقول: وعلى هذه العشائر أن تعود إلى مهنتها في الزارعة وإلا ستموت جوعاً... إلخ.

وقد ردّ شيخ الشريعة على كتاب (ولسن) بجواب نختصره بما يأتي:

حضرة الحاكم الملكي العام ببغداد.

استشعرنا من إلقاء طياراتكم في عدة أماكن صورة كتابكم إلينا، فضلا عن طبعه في جريدة العراق اهتماما بوقوفنا عليه وطلبا لجوابنا عنه، ومن الغريب أن كتابكم هذا قد سبق جوابه منّا قبل أن تحرّروه بمدة طويلة، فقد نصحناكم وأنذرناكم قائلين: تداركوا الأمر قبل خروج علاجه عن مقدرتنا، ولا شكّ، أنكم تعلمون أن تداركه بإعطاء العراقيين حقوقهم التي طالبوكم بها مطالبة سلمية فأبيتهم وجعلتم أصابعكم في آذانكم وأخذتم بعد الوعد بالوعيد واستعملتم الشدة والغلظة، فنفيتم وقتلتم وسجنتم الناس ظلماً، فدافعوكم قياماً بواجبهم وهاجمتموهم تبعاً لهوى نفوسكم، فوقفوا موقفاً حذرناكم منه أنا والسلف المرحوم آية الله الشيرازي الذي سقتم نسبة المصائب التي انتابت العراقيين إلى آرائه المقدسة، فجرحتم بذلك عاطفتي وعاطفة عموم المسلمين، ثم أرسلتم بواخركم المشحونة بأسباب الدمار وآلات النار حتى قدْتم العساكر إخضاعاً لتلك الأمة المهضومة وسحقاً لحقوقها المغصوبة.... الخ.

هذا ما اختصرناه من كتاب الفقيه شيخ الشريعة (قدس) وهو كتاب طويل ومن الممكن أن نحدد بعض الملاحظات عن طبيعة الدائرة الثقافية التي يدور فيها كلّ من الرجلين حيث ينتمي كل منهما إلى منظومة ثقافية تختلف عن الأخرى كلياً ومن هذه الملاحظات :

1/ لقد اتسم خطاب ولسن بالانغلاق والتشنج والسجال والتعصب وإعلاء شان الذات على حساب الآخر المختلف، بينما جاء خطاب شيخ الشريعة حوارياً منفتحاً يركّز على مظلومية الشعب العراقي وعلى حقه في حياة حرة كريمة يختارها بمحض إرادته.

2/ جاءت رسالة القائد الإنجليزي محمّلة بأبّهة السلطة وثقافتها المرتبطة بالنوايا الاستعمارية من خلال تذكير شيخ الشريعة بسطوة الآلة العسكرية البريطانية وجبروتها، تلميحا مرة وتصريحا مرة أخرى، في حين جاءت رسالة الأخير ردّا ثقافيا يفضح نوايا الآخر/المحتل، ويعرّيه أمام نفسه عبر نعت ثقافته بأنها ثقافة إفساد وقتل وتدمير وتهديد لحياة الآمنين والعزّل، لا ثقافة رحمة وإنسانية وعدل وتسامح ديني كما يدعي الحاكم المتبجّح بهذه الأقوال دون أن يجد لها الشيخ تطبيقا حقيقيا على أرض الواقع.

3/ عندما أطلق ولسن على (الثوار) اسم المفسدين أسماهم شيخ الشريعة (طلاب الحق) فهم في نظر المثقف – الفقيه طاقة التغيير الحقيقية وهم ثقته المطلقة في إمكانيّة إعادة تشكيل صورة المستقبل نحو غد موعود تشرق فيه شمس الحرية والكرامة، في حين لم يدخل هؤلاء بوصفهم طاقة التغيير القادمة في حسابات الحاكم العسكري.

4/ رغم تفاوت القوى فإن خطاب شيخ الشريعة لا يمثّل ندّية للغاصب المحتل فحسب بل هو خطاب يستلب من المحتل تلويحه بالتهديد والوعيد، من خلال الاعتراف بقوة هذا المحتل وجبروته أولا، والإقرار بعد ذلك بعدم الانصياع لهذا الجبروت والإذعان له، وهذا الموقف الذي وقفه شيخ الشريعة بوصفه أنموذجا إسلاميّا يمثل قوة نفسية تمتع بها الشيخ الفقيه، وهي ركيزة من الركائز التي غذّت عقيدة هذا المجاهد الفذ، وأسهمت في بلورة رؤيته الاستراتيجية بالرغم من أنّه لم يكن عسكريا, وهذا ما جعل خصمه اللدود المدّعي امتلاك القوة والمعرفة متخبّطا في تحديد مصدر تلك القوة الغريبة التي يمتلكها مثل هؤلاء البسطاء من الناس الذين لا يخشون أحدا كما يخشون خالقهم !

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 5/كانون الثاني/2014 - 3/ربيع الأول/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م