مقدمة في علم الاجتماع

عبد الإله فرح

 

مفتتح القول

 يدخل هذا الموضوع ضمن أحد التخصصات في العلوم الاجتماعية، وهو علم الاجتماع الحضري Sociology Urbain، ويتشارك علم الاجتماع الحضري مع العديد من التخصصات العلمية كالجغرافية، والتاريخ، والسياسة، والاقتصاد، والأنثروبولوجيا، والأركيولوجيا في دراسته للمجتمع الحضري، وهو تخصص يدرس خصوصيات ومميزات الوسط الحضري ــ المديني. فهو يهتم بالمدينة كظاهرة اجتماعية في حد ذاتها. ويركز في دراسته على الشكل المادي للمدينة وكيفية نشأتها ووظائفها، كما يدرس المدينة في بعدها الثقافي خاصة على مستوى أنماط السلوك وطبيعة العلاقات الاجتماعية التي تسود من داخلها (المدينة)، ومن حيث تقسيم العمل والنظام الاجتماعي ككل.

 فكيف يمكن تحديد الوسط الحضري على مستوى المرفولوجي، والإحصائي، والسوسيولوجي، والوظيفي؟

 أولا: التحديد المرفولوجي للوسط الحضري الحضري

 عندما نتأمل جيدا في البنية العمرانية للمجتمع الحضري، فإن أول ما سنلاحظه هو ارتفاع واتساع المباني السكنية، و توفرها على مراكز وخدمات مثل الصحة والتعليم وغيرها من النظم الإدارية، وأيضا توفرها على وسائل النقل والمواصلات والاتصال. ثم انتشار بضواحي المدن ما يطلق عليه بالأحياء المتخلفة أو الهامشية.

 ويختلف الوسط الحضري le milieu urbain عن الوسط الريفي le milieu rural، من حيث البنية العمرانية بالدرجة الأولى، حيث توجد به بنيات ضخمة وشاهقة ومتقاربة مع بعضها البعض، وتوجد به أيضا مراكز صحية مثل المستشفيات والصيدليات، ومراكز الاتصال كالبريد ومقاهي الأنترنيت ومخادع الهواتف، ومحلات تجارية كبرى، ومراكز التعليم المتمثلة في مؤسسات التربية والتكوين المهني، والمؤسسات البنكية، والمؤسسات الحقوقية والمحاكم، إلى جانب مراكز الشرطة ومراكز إعادة التأهيل، والمؤسسات الاجتماعية مثل دار العجزة.

 كما أن الوسط الحضري يتوفر على طرق المواصلات وعلى محطات لكل من الحافلات وسيارات الأجرة، والقطار، والميناء، إلى جانب شبكة طرقية واسعة، كما تتميز بانتشار الحدائق والمحميات، وملاعب رياضية، وتتوفر أيضا على دروب وأحياء وشوارع وإشارات تنظيم حركة المرور وأرصفة المشاة، وسلاة القمامة[1]، إلى جانب أنها تعرف انتشار أحياء الصفيح. كما تعرف انتشار الكتابة على الجدران أو ما يسمى ب"الغرافيتيا".

 ثانيا: التحديد الإحصائي للوسط الحضري

 أما فيما يخص التحديد الإحصائي للوسط الحضري، فلا شك أن المجتمع الحضري يعرف تجمع سكاني مهم ومرتفع بكبر حجمه وتعقيده، نتيجة للهجرة المتوافدة إليه بنوعيها الداخلية والخارجية تبعا لعوامل الطرد والجذب، وانخفاض في معدل الوفيات لصالح ارتفاع معدل الولادات، يمكن إرجاعها لسبب واحد وهو التغطية الصحية المتطورة التي توجد بالمدن، وعلى هذا الأساس ترتفع معدلات الكثافة السكانية في مجتمع المدينة لتصبح سمة مميزة على عكس المجتمع القروي الذي يتحدد بوجه عام بعلاقة عكسية مع الكثافة.

 ويتم تحديد الوسط الحضري من خلال الاعتماد على مؤشر الكثافة السكانية، وهو مقياس يستخدم لقياس معدل تواجد السكان في منطقة ما، وذلك بتقسيم مجموع السكان على المساحة، ولكن من الصعب وضع تحديد للوسط الحضري من خلال مؤشر الكثافة السكانية، لأنه يختلف من بلد إلى بلد آخر من حيث عدد سكان المدينة، إذ تعتبر الولايات المتحدة أن العدد هو (2500) وفرنسا (3000) بينما نجد في بعض الدول الأخرى كاليابان فإنها تعتبر أن (30) ألف نسمة هو معيار العدد السكاني للمدينة، وفي كوريا (40) ألف، بينما نجد في إحدى القرى المصرية (سرس الليان) يبلغ عددها حوالي (30) ألفا وهي لا تزال تتميز بكل المظاهر الحياتية التي تتصف بها القرية[2]. في حين أن المراكز الحضرية تتميز بتنظيم معقد. مما يبدو أن مقياس الكثافة السكانية في تحديد الوسط الحضري هو أمر مبالغ فيه، لأنه لا يستند إلى أي أساس واقعي بسبب الاختلاف في تحديده وضبطه، الشيء الذي يطرح لدينا تساؤل حول ماهية التحديد الذي يتخذه الوسط الحضري في السوسيولوجيا؟

 ثالثا: التحديد السوسيولوجي لمفهوم الوسط الحضري

 يرى "إيميل دوركايم" Émile Durkheim أن الوسط الحضري ينبغي أن يتميز إلى جانب الكثافة الفيزيقية بالكثافة الأخلاقية، لأن التجمع السكاني ليس مثل التجمع الحيواني الذي يغيب عنها القيم الأخلاقية، فأهم ما يجب أن يتوفره داخل التنظيم الاجتماعي للوسط الحضري هي الكثافة الأخلاقية لأنها تسمح بحسب دوركايم بوجود الكثافة الفيزيقية، بينما العكس غير صحيح، فالعديد من التجمعات الحضرية التي تتميز بكثافة فيزيقية مرتفعة يغيب عنها نوع من التجانس والتضامن بين أفرادها ما يسبب أحيانا بالانتحار، وتعرف انتشارا للجريمة بمختلف أنواعها بسبب التفكك الاجتماعي، وهو عكس ما نجده بالوسط الريفي الذي يتميز بعلاقات اجتماعية متماسكة ميكانيكية يتعامل أفراد المجتمع تلقائيا ويستجيبون لبعضهم البعض.

 وما يميز الوسط الحضري عند دوركايم أنه يتميز بالتضامن العضوي، فالأفراد متمايزين ومختلفين، وتابعين لبعضهم البعض، وتسود بينهم علاقات اجتماعية تعتمد على تبادل المنفعة، بخلاف الوسط الريفي الذي يتميز بالتضامن الآلي، حيث يكون أفراد الجماعة متشابهون ويتعاملون تلقائيا ويستجيبون لبعضهم ميكانيكيا.

 أما "ماكس فيبر" Max Weber فقد أوضح بأن أوربا قد بدت تشهد مجتمعات محلية حضرية تعتمد أساسا على التجارة وتتمتع بقدر ملحوظ من الاستقلال الذاتي[3]، وهذا يعني أن المحدد الرئيسي للوسط الحضري يعود إلى وجود مركز تجاري وهو السوق Marché باعتباره شكل للتجمع البشري. فالوسط الحضري حسب ماكس فيبر هو شكل اقتصادي ينبغي أن يتوفر فيه على سوق محلي، يتجاوز الإنتاج فيه والتبادل سكان المدينة (الوسط الحضري) إذ أنه نتيجة التخصص الإنتاجي للسوق، فإن سكان القرى المحيطة يترددون عليه، ويتعاطون البيع والشراء في منتجات الحرفيين وسلع الإتجار معا، ومن الطبيعي أن يتعاطى سكان المدينة (الوسط الحضري) أنفسهم في هذا السوق البيع والشراء[4].

 ويعتبر بعض السوسيولوجيين من أمثال "جورج زيمل" Georg Simmel أن المجهولية هي الميزة الأساسية للوسط الحضري، فهي تقوم على علاقات اجتماعية منفصلة ومتباعدة، فأفراد المجتمع يجهلون بعضهم البعض حتى وإن كانوا في علاقة الجيرة، فالحياة بالوسط الحضري تتسم باستقلال أفرادها، فهم غالبا ما يتميزون بصفة الفردانية والنفعية، وهذا يرجع أساسا في نظره إلى حجم المدينة التي أثرت بشكل كبير في العلاقات الاجتماعية وجعلت الفرد أكثر وعيا بذاته وأكثر حرية لكنه في الوقت نفسه هو أضعف من ناحية العلاقة مع الآخر.

 ومن خلال هذا التحليل الذي قام به جورج زيمل، عمل "لويس ويرث" Louis Wirth وهو أحد السوسيولوجيين الأمريكيين وعضو ب (مدرسة شيكاغو) على تحليل حجم المدينة وتأثيرها على الحياة الاجتماعية، فوجد أن الحجم والكثافة وعدم التجانس هو ما يحدد التنظيم الاجتماعي داخل الوسط الحضري. فزيادة حجم المدينة يساهم في خلق طرق اتصال غير مباشرة لأن هناك استحالة على جمع السكان في حيز جغرافي واحد. كما أن ارتفاع عدد السكان يؤدي إلى تنوع المجتمع وإلى تقسيم العمل الاجتماعي، الشيء الذي يجعل أفراد المجتمع يتعاملون فقط وفق مجموعة من التبادلات الاجتماعية. إلى جانب ذلك فإن التنوع الاجتماعي يعمل بالضرورة إلى تحرير الأفراد من الضبط الاجتماعي الذي يمارسه أفراد الجماعة مثل ما يوجد في المجتمعات الريفية أو القروية.

 وبالنسبة ل"مانويل كاستلز" Manuel Castells وهو أحد السوسيولوجيين المعاصرين، يرى أن الوسط الحضري لم يعد يقوم فقط على الحجم والكثافة السكانية وإنما أصبح يقوم على الإنتاج الاقتصادي بالدرجة الأولى، فتراكم رؤوس الأموال وتمركز النشاط الصناعي والخدماتي بالوسط الحضري جعله يلعب دورا مهما في الحياة الاجتماعية وفي استقطاب المناطق المجاورة، وفي تحويل نفسه إلى مجال ينتج ويستهلك ويتغير.

 رابعا: التحديـــد الوظيفـــــي للوسط الحضري

 إذا تأملنا تعريف الجغرافي "ماكس سور" Max Sorre بأن المدينة هي المكان الذي يعيش فيه المجتمع مستقر، يكون أحيانا كبير العدد، وذا كثافة سكانية مرتفعة وأغلبهم لا يعتمدون على الزراعة، بل على الصناعة والتجارة والخدمات والمجتمع المدني يتميز بدرجة مرتفعة من التنظيم[5]. يتبين لنا أن للمدينة عدة وظائف وذلك تبعا للتجمعات البشرية التي تستقر فيها وتمارس نشاطا معينا، فالمدن تؤدي بصفة عامة مجموعة من الوظائف تختلف فيما بينها، وهي وظائف متداخلة لدرجة كبيرة وليس من السهل تحديد أي وظائف هي الأولى والسائدة في المدينة، مما يزيد الأمر تعقيدا للمدينة الحديثة محاولة تنويع وظائفها.

 وعموما فإن دراستنا لوظيفة المدن لا تعني بالضرورة الوظيفة الداخلية مثل إنشاء المساكن وشق الطرقات وغيرها، بل نقصد الوظائف الكبرى مثل الوظيفة الحربية، والوظيفة السياسية، والوظيفة الاقتصادية..الخ، وسوف نحاول في هذه الورقة أن نتطرق إليها ونبين أهم الوظائف بطريقة موجزة.

أولا: الوظيفـــــة الحربيــــة للمـــــدن

 من الاعتقاد عند الأركيولوجيين أن الوظيفة الحربية هي أقدم وظيفة عرفتها المدن، فأول مدينة في التاريخ كانت مدينة عسكرية، ويرجع السبب في ذلك إلى اكتشاف المعادن، هذا الاكتشاف ساهم بقوة في صناعة الأسلحة كان من ورائها الدفاع عن أمن المدينة وعلى سلامة أرضه، فالإنسان بطبيعته متعلق بأرضه، وهذا ما ردده روبير آردي بقوله أن الإنسان في جوهره حيوان حيزي متعلق بأرضه.

 لا ننسى أن هذا الاكتشاف ساهم أيضا في التوسع على حساب الشعوب الأخرى من أجل استغلال ثرواتها، ويبدوا لنا أن كل من الحضارات القديمة مثل اليونان ومصر وروما والصين، أن مدنها كانت تقوم على بناء الأسوار المرتفعة كي تصد هجمات الغزاة، هذا ويمكن القول أن وظيفة المدن الحربية تنقسم إلى نوعين، وهي برية وبحرية.

 أ‌. المدن البرية:

 وهي مدن تعتمد عند نشوئها على اختيار موقع استراتيجي يتمثل في القرب من ينابيع المياه الصالحة للشرب، فالماء كما هو معلوم هو أساس الحياة، وأينما يوجد الماء يوجد استيطان للسكان، ومن قربها أيضا من الأراضي الصالحة للزراعة، إذ أغلب سكان المدن القديمة كانوا لهم نشاط زراعي، وقد تطور النشاط الاقتصادي عند السكان حتى شمل بعض الأنشطة الصناعية مثل الحدادة وصناعة الفخار والتجارة وغيرها من الأنشطة التي كانت تعتبر بدائية في وقت سابق كما يطلق عليها علماء الأنثروبولوجيا.

 ب‌. المدن البحرية:

 وقد قامت هذه المدن بالقرب من البحار، حيث تم تأسيس مدن عبارة عن قلاع محصنة في أعلى قمم الجبال والتي بالطبع تطل على البحر، كان الغاية منها حراسة الحدود من الأعداء والغزاة القادمين من البحر، وتوفير الإمكانيات والمناورات للهجوم والدفاع في الآن ذاته، من أجل فرض الأمن بالمنطقة. وهناك مدن أخرى تأسست بتأسيس الموانئ مثال ذلك ميناء الليوطي بمدينة القنيطرة المغربية في أوائل القرن العشرين، وقد لعبت دورا محوريا في الحرب العالمية الثانية.

 هذا ومع التطور التاريخي للمدن، أصبحت الوظيفة الحربية محدودة في المدن المعاصرة بعد أن كانت هذه المدن تنتشر في وقت سابق، والسبب في ذلك يرجع إلى أن فنون الحرب ووسائل النقل والمواصلات تطورت لدرجة أصبح معها من غير الضروري وجود حاميات والقلاع الحصينة على التخوم والحدود[6]، ولهذا فما نراه اليوم هي شوارع فسيحة كبرى مفتوحة للجميع بعد إزالة أسوار المدينة إلا أنها أصبحت تتوفر على قواعد عسكرية أكثر تطورا مثل مدينة ستالينغراد بالاتحاد السوفياتي سابقا وروسيا حاليا.

ثانيا: الوظيفــــة السياسيـــــة للمـــــدن

 إن للمدن وظائف سياسية لا تظهر بشكل طبيعي، وإنما توجد نتيجة قرار أو مرسوم مفروض، فهي عبارة عن حتمية ضرورية تاريخية رافقت نشأة المدن، فبوجودها ملازم لوظائف أخرى مثل التجارة والصناعة، والحربية.

 وتلعب هذه المدن وظيفة قيادية في تدبير المجال السياسي، وغالبا تكون هذه المدن هي العواصم التي تعد رمزا من رموز الدولة، وقد تجاوزت هذه المدن من حيث وظيفتها إلى ما هو عالمي، حيث أصبحت تؤثر في القرار السياسي العالمي، نظرا لتوفرها على القوة الاقتصادية والبشرية والتكنولوجية، وأيضا القوة العسكرية.

 وكلمة مدينة City هي كلمة مشتقة من الكلمة اللاتينية Civitas، وترادفها باليونانية كلمة Polis، وفي اللاتينية والإغريقية كانت هاتان الكلمتان تجسمان فكرة دولة المدينة City-State، والتي لا يكون المجموع فيها كبيرا جدا مساحة أو سكانا حتى لا تحول دون الحكم الصالح[7].

 وقد ارتبط مفهوم السياسة بالمجتمع المديني، وبالخصوص مع الحضارة اليونانية القديمة، إذ ذهب كل من أفلاطون(جمهورية أفلاطون) وأرسطو(السياسيات) بأنه لا يوجد مجتمع يخلو من السياسة، بمعنى آخر أن السياسة محايثة للمجتمع، فهي سياسة أناس يعيشون ويجتمعون في وسط حضري تجسدها مجموعة من القوانين يحكمون بها وتحكمهم، وهذا ما أكده أرسطو بمقولته المعروفة بأن الإنسان حيوان سياسي بطبعه.

 وعند حديثنا عن الوظائف السياسية للمدن فإن تركيزنا سيكون عن العاصمة كونها تمثل المدينة السياسية، وكما أشرنا سابقا فهي مركز السلطة السياسية والسلطات الإدارية للدولة.

 إذ يمكن لهذه العاصمة أن تتغير بقرار سياسي من طرف الإدارة السياسية المتمثلة في رمز الدولة، وأيضا فإن العاصمة يمكن أن تخلق من لا شيء، هذا وتعد العاصمة قوة جذب للعديد من المهاجرين القادمين من الريف إليها، مما يعطيها مكانة مرموقة وأهمية كبيرة مضاعفة من حيث الكثافة السكانية وقوة ثرائها. وطبيعيا فالعاصمة يجب أن تكون كما قال "جفرسون" jefferson من المدن المهيمنة primate cities التي يتركز بها أكبر عدد من السكان وتكون ذات عمق تاريخي ورمز للمشاعر القومية[8]، ومن المتعارف عليه عند المختصين أن هذه الهيمنة تعود لعامل مهم وهي وسائل النقل والمواصلات (المطار، طرق السيارات، الموانئ) مما يسهم بطريقة مباشرة في الزيادة من القيمة التجارية ودورها السياسي.

 فالوظيفة السياسية للمدينة هي وظيفة تقريرية بالأساس في مسار السياسة الدولية سواء كانت سياسة خارجية أو داخلية، وتحاول العاصمة أن تلعب دورا بارزا في قيادة المدن ومد أطراف يدها على كل أطراف الدولة من أجل بسط سيطرتها، ويبقى اختيارها كعاصمة مرتبط بالموقع الاستراتيجي، وغالبا ما تكون هي المركز في الدولة مثل مدريد بإسبانيا، وإذا ما أخضعت العاصمة تسقط أطراف البلاد كما وجد عبد الرحمن بن خلدون في القرن الرابع عشر ميلادي[9]، وهذا ما نتأمله في عالمنا المعاصر مثل احتلال العراق من طرف الولايات المتحدة الأمريكية وسقوط عاصمتها بغداد سنة 2003.

 إن نمو العاصمة وتضخم حجمها مع وظيفتها السياسية تشكل لنا مدينة من الصعب التغلب عليها وإضعافها، فهي تمثل رمز الصمود، خصوصا إن كانت العاصمة تتوفر فيها المجال العسكري والاقتصادي والاجتماعي.

ثالثا: الوظيــــــفة الاقتصــــاديـــة للمـــدن

 في هذه الورقة سنحاول أن نوضح الوظيفة الاقتصادية للمدن، وسوف نركز أساسا على الوظائف الأساسية التي تعتمدها المدن، بحيث لا يعني هذا أن نتطرق إلى الوظيفة الزراعية للمدينة، فالوظيفة الزراعية هنا تمارس في ظروف خاصة ومعينة ترتبط بالعالم العميق أي العالم القروي، وبالتالي فإننا سوف نتطرق فقط إلى الوظيفة التجارية والوظيفة الصناعية.

أولا: الوظيفة الصناعية

 من المعلوم أن هذه الوظيفة ظهرت وتعددت بالأساس في العصر الحديث نتيجة الثورة الصناعية الآلية الحديثة التي أدت إلى تجمع عدد هائل من السكان، ففي العصر الحديث عرفت الصناعات الحضرية نموا كبيرا، أدى بذلك إلى نمو الوظيفة الصناعية والعمل على استغلالها، ويمكن هنا أن نميز بين نوعين من الصناعة تعرفها جل المدن وهي:

 أ‌. الصناعة التعدينية:

 وقد أنشئت حيث وجدت المعادن دون النظر إلى بقية الظروف البيئية الأخرى، وتعتبر هذه الصناعة من أقوى الصناعات، فهي تساهم في خلق المدن، فهذه الصناعة يمكن القول بأنها تدين بوجودها للتركيب الجيولوجي، وبالتالي فإن مدن المعادن هي أكثر جذبا للناس بسبب المكاسب التي تقدمها للناس على نحو سريع (الذهب).

 ب‌. الصناعة التحويلية:

 توجد هذه الصناعة في كل مدينة وذلك بغرض تلبية حاجيات سكانها المرتفع، فهذه الصناعة هي مدنية بالضرورة، وتخلق بدورها العديد من المدن الجديدة.

ثانيا: الوظيفية التجارية

 يمكن اعتبار هذه الوظيفة هي المحرك الأساسي للمدينة فلا يمكن أن نتصور مدينة بغير نشاط تجاري، فالتجارة هي وظيفة قاعدية لا يمكن تجاهلها، فاكتشاف التجارة أدى بدوره إلى اكتشاف المدينة، ومن ثم ظهرت طبقة من التجار المحليين والدوليين وأصحاب الحرف الصناعية.

 والمدينة المعاصرة الآن أصبحت تقوم بوظائف متنوعة في المجال التجاري، فهي تقوم بهمزة وصل بين الأقاليم المجاورة، بحيث تساهم في تصدير المنتجات المصنعة وغير المصنعة، وهذا لعامل مهم هو توفرها على وسائل النقل وعلى بنية تحتية متقدمة، كما أنها تستورد من الأقاليم المجاورة أكثر مما تصدره، ثم لا ننسى أنها تتوفر على مراكز أبناك كبرى تساعدها على استقطاب رؤوس الأموال من أجل استثمارها.

 إن هذا الدور التي تقوم به المدينة التجارية يساهم فيها بشكل كبير عامل مهم، هو عامل يرتبط بالموقع الاستراتيجي، فجل المدن تبحث لنفسها على موقع يكون الأسهل والأقرب على استيراد وتصدير البضائع وغيرها، حتى أننا أصبحنا نسمع عن مدن عائمة تتوفر على موانئ ومطارات، هذا ونجد بعض المدن التجارية تحاول أن تتوسع على حساب البحر مثل ما يوجد في دولة هولندا.

رابعا: الوظيفـــــــة المعرفيــــــة للمــــدن

 أصبحت مدن المعرفة بشكل أو بآخر مع بداية الألفية الثالثة تفرض أساليب جديدة في مستوى أنماط العيش، مثل تطوير مباني تعتمد على التقنية الذكية لكي تتعايش مع مختلف الظواهر البيئية كالزلازل وانفجار البراكين والأعاصير...إلخ، واعتمادها على الطاقة البديلة مثل الطاقة الشمسية، إلى جانب أنها تقوم بتدبير وإدارة المؤسسات والشركات بنوعيها العمومي والخصوصي بشكل رقمي.

 ويقصد بالمدن المعرفية أو مدن المعرفة، تلك المدن التي تعتمد على المعرفة، وتتميز بتوفرها على مؤسسات للتعليم والمكتبات، ومؤسسات البحث العلمي، وشبكة لتبادل المعلومات والاتصال، وشبكة كثيفة لطرق المواصلات بمختلف أنواعها لتيسير الحركة. وهي مدن تعمل على تشجيع المشاريع التي تهدف إلى استثمار التقنية العالية (الذكية) لتسهيل مجموعة من الخدمات لأفراد المجتمع خاصة ما يتعلق بالتبادل التجاري. كما أنها مدن تستفيد من العلوم الاجتماعية ومن العلوم التكنولوجية بهدف تطورها وانسجامها مع تطلعات المجتمع.

 هذا ويمكن إيجاز الفوائد الأساسية لمدن المعرفة في النقط الآتية[10]:

ـ دعم الحراك الابتكاري القوي عبر جميع القطاعات والأنشطة الاقتصادية والاجتماعية.

ـ تقديم خدمات تعليمية أفضل.

ـ دعم المشاركة الفاعلة للمواطنين في تنمية مدينتهم والحفاظ على هويتها وشخصيتها الفريدة.

ـ التحول إلى نمط اقتصادي أكثر استدامة.

ـ خلق بيئة رحبة تسع الأقليات والمهاجرين.

ـ تفعيل ممارسة الديمقراطية.

ختام القول:

 يمكن أن نقول من خلال ما سبق، أن الوسط الحضري هو نوع من المجتمع المحلي الذي يتميز بالتعقيد والتباين وعدم التجانس وتقسيم العمل وتنوع في الأنشطة الاقتصادية، ويتميز بكثافة سكانية مرتفعة مع ظهور أحياء ومباني شاهقة متداخلة فيما بينها، وتعرف انتشار لمراكز الاتصال والمؤسسات التعليمية، والبحث العلمي، والصحية والإدارية إلى جانب تنوع في طرق المواصلات واعتمادها على التقنية العالية (الذكية) في تدبير شؤونها. ويتسم المجتمع الحضري بمجموعة من الخصائص مثل الفردانية وضعف العلاقات القرابية وسيادة العلاقات السطحية، وممارسة ما نسميه بـ"ثقافة الاصطياد" داخل التجمع الحضري، حيث أصبح الفرد يسعى وراء كل شيء بسبب تعقد الحياة وصعوبتها، سواء بطريقة شرعية أو غير شرعية لتحقيق غاياته وأهدافه التي تتمثل في امتلاك الرأسمال الرمزي أو المادي.

* باحث في علم الاجتماع

..............................................

الهوامش:

[1]. ستيفن سايدمن، شوارع بيروت: الذات والمواجهة مع الآخر، ترجمة مهما بحبوح، إضافات، المجلة العربية لعلم الإجتماع، تصدر عن الجمعية العربية لعلم الإجتماع بتعاون مع مركز دراسات الوحدة العربية، العدد الخامس شتاء، 2009، ص 44.

[2]. عرب دعكور، تاريخ المجتمع الريفي والمدني، دار المواسم للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 2004، ص 48.

[3]. عبد الرؤوف الضبع، علم الاجتماع الحضري: قضايا وإشكاليات، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر،الإسكندرية ـ مصر، الطبعة الأولى 2003، ص 36.

[4]. رجاء مكي طبارة، مقاربة نفس ـ اجتماعية للمجال السكني، دراسة ميدانية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1995، ص 60.

[5]. عرب دعكور، تاريخ المجتمع الريفي والمدني، مرجع سابق، صفحة 47.

[6]. أحمد علي إسماعيل، دراسات في جغرافيا المدن، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الطبعة الرابعة 1988، صفحة 166.

[7]. جمال حمدان، جغرافية المدن، عالم الكتب، الطبعة الثانية منقحة، صفحة 82.

[8]. فايز محمد العيسوي، الجغرافيا السياسية المعاصرة، دار المعرفية الجامعية، صفحة 147.

[9]. عدنان السيد حسين،الجغرافية السياسية والاقتصادية والسكانية للعالم المعاصر، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع،الطبعة الثانية 1996، صفحة 29.

[10]. فرانشيسكو خافيير كارللو، مدن المعرفة المداخل والخبرات والرؤى، ترجمة خالد علي يوسف، سلسلة عالم المعرفة (381)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويت، أكتوبر 2011، ص 26.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 31/كانون الأول/2013 - 27/صفر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م