التبرير كمدخل للعنف

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: الانسان وحده يمتلك القدرة على التبرير.. تبرير قوله او سلوكه، واكثر مايكون مجال التبرير حين تتزاحم الأسباب وتتعارض مع أسباب لآخرين أيضا يمارسون القول والفعل المبرر من وجهة نظرهم..

كل قول او سلوك في حياة الانسان يتبعه تبرير عند المساءلة..

(قلت ما قلته) و(فعلت ما فعلته)، (لانه) او (بسبب)، ويظهر التبرير الذي تكون وظيفته التمرير، وهي العبور والاجتياز والتخطي، لكي يكون القول او السلوك مقبولا لدى الاخرين الذين يحتاجون الى تقديم التبرير لهم..

ليس القول او السلوك المجرد ما يجعل منه مقبولا عند الاخرين بدرجة او أخرى، بل هو تبريره لغرض القبول..

التبرير هو التعليل، وهو تفسيرُ المرء سلوكَه بأسباب معقولة أو مقبولة ولكنَّها غير صحيحة لكنها تبريرات مقنعة..

ولعل اشهر مبدأ لمثل هذه الثقافة (ثقافة التبرير) هي المبدأ الميكافلي الشهير (الغاية تبرِّر الوسيلة) والذي انتقل من ميدان السياسة الى جميع الميادين الحياتية للإنسان، واصبح مذهبا أخلاقيا، تبشر به الكثير من التجمعات والافراد، يتذرعون به في تبرير الكثير من اخطائهم وخطاياهم..

في ثقافة التبرير، يعتقد الكثيرون انه يشبه الاعتذار، او هو في مقامه، لكن الاعتذار يتطلب شجاعة الاعتراف بالخطأ، وهو ينبع من ذات قوية متماسكة، على عكس من يبرر قوله او سلوكه النابع من ذات ضعيفة وهشة، كل ماتطمح اليه ان تبدو متماسكة امام الاخرين..

الاعتذار فيه رحابة وتسامح الاختيار، قبول او رفض الاعتذار من قبل من يعتذر منه / منهم، اما التبرير ففيه نوع من القسر والاجبار على قبول ما كان من مقدم التبرير.. ولا مجال للتراجع امام الاعذار التي تبرر وتحاول ان تقنع..

في جميع الثقافات والمجتمعات يمكن ان نجد ملامح كثيرة لتبرير الاقوال والسلوك، وكذلك ان نجد فيها ملامح من الاعتذار، لكن الفارق يكمن في مساحة كل منهما والتي يحتلها في تلك الثقافات، ومقدار قربه او ابتعاده عن بعضهما الاخر..

في مجتمعاتنا العربية والمسلمة، تكثر ثقافة التبرير، امام انسحاب الاعتذار من حياة تلك المجتمعات، والتي تكون مخرجاتها المتطرفة في السياسة والفاعلين السياسيين، الذين لا يعتذرون عن اخطائهم بل يبررونها، وبالتالي لا يتراجعون عن مواقفهم، حتى لو أدت الى حروب او كوارث يهلك فيها الحرث او النسل..

على مستوى المعيش اليومي، التبرير في الصميم من تشكيلنا الأخلاقي، الذي ساهمت فيه طرق التربية القائمة على العنف والقسر والاجبار، داخل المنزل او خارجه، في المدرسة او الشارع وغيرها من أماكن تجمع وعمل الناس..

الشخصية المبررة، شخصية مرتبكة، خائفة، غير مسؤولة، تبحث عن اطمئنان زائف من خلال تبرير ما لا يبرر، وهي في بحثها عن هذا الاطمئنان، تكون مجهدة، متوترة، قلقة، ليس على الاخرين بل على نفسها من الاخرين..

ما الذي يحدث في لحظة توتر متقابلة، بين ذات متصارعة مع ذات أخرى؟

لحظة التوتر تستبطن مشاعر احباط وغضب ونرجسية، يندفع الى (الاخر – المقابل)، ما يتوهم انه مصدر هذا التوتر، عبر قول او سلوك عنيف يحاول تسكين تلك اللحظة.. لكنها للأسف ليست عابرة في زمان الحدث، بل مقيمة ابدية داخلنا، لانعيها او ندركها الا اذا ابتعدنا مسافة عن ذواتنا، لكننا أيضا لا نستطيع ان نفعل ذلك، لأننا دوما ما نصطحب تلك الذات الخائفة معنا في اندماج عجيب لا يستطيع حتى سقوط الضوء ان يرسم ظلا لها..

التبرير وليد الخوف، والذات الخائفة هي التي تبرر دائما، الاعتذار يكسر حاجز الخوف، لكن التبرير لايزيحه، الخوف مصدره هذا التهديد الذي يفرضه وجود الاخر امامنا، ازاحته ستزيح الخوف من داخلنا، لكن الازاحة تستدعي فعلا مقاوما من الاخر، الذي هو بدوره ينتقل اليه خوفنا منه، وخوفه منا الينا.. هل ما أقوله في السطور السابقة تبرير للعنف او محاولة للاعتذار منه، وانا اراه يفترسنا ويفترس حياتنا جميعا..قد يكون تبريرا لوجوده والذي يأخذ في هذه الحالة حتمية بيولوجية او ثقافية، لا يمكن اجتثاثه من حياتنا، وقد يكون محاولة لفهمه عبر فهم انفسنا ومعرفتها أولا..

شهيرة تلك المقولة السقراطية (اعرف نفسك) والتي تتطلب جهدا للانفصال عنها ومراقبتها لغرض معرفتها.. كم واحد منا يمارس جهد الانفصال والمراقبة لغرض المعرفة؟، واقعنا الذي نعيشه، لا يترك لنا التخمين حول النسب العددية التي تتطلبها الإجابة..

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 30/كانون الأول/2013 - 26/صفر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م