حقيقة العلاقة بين النمو الاقتصادي ونظام المؤسسات؟

حاتم حميد محسن

 

في العقدين الماضيين، تزايد اهتمام الاقتصاديين بمعرفة الكيفية التي تساهم بها المؤسسات السياسية في النمو الاقتصادي، اذ كانوا متحمسين خصيصا للرؤية القائلة ان المؤسسات تضمن "التزاماً موثوقاً" بالقيود الليبرالية على افعال الدولة- وإعادة تسديد الدين الوطني- وهو ما جعل الثورة الصناعية تمضي قدماً بنجاح وبخطى ثابتة في بريطانيا اثناء القرن الثامن عشر. ربما يبدو هذا ليس اكثر من نقاش اكاديمي نخبوي. غير ان هذه الرؤية اصبحت بسرعة هي المسيطرة بين الاقتصاديين، وان بعض الاستنتاجات ذات الصلة- مثل التأكيد على الديمقراطية وحقوق الملكية كشروط ضرورية مسبقة للنمو الاقتصادي الدائم- ساهمت في التأثير على ما سمي باجماع واشنطن حول الحوكمة الاقتصادية العالمية.

لكن البعض يتسائل الآن ما اذا كانت هذه الفكرة "الالتزام بالمصداقية" ذهبت الى مديات بعيدة. ان العبارة ذاتها ربما هي واحدة من بين اكثر العبارات استعمالاً في الاقتصادات الحديثة. فمثلا، عند البحث في "Econlit" وهي قاعدة بيانات لمؤسسة اقتصادية امريكية تتضمن جميع المقالات الاقتصادية، وُجد ما لا يقل عن 1932 مفردة لنفس العبارة بين الاعوام 1976 و2012، من بين هذه المفردات كان هناك حوالي، 1894 مفردة ظهرت بعد نشر الكاتبين دوكلس نورث وباري ونغست ورقتهما (seminal paper) في عام 1989.

في هذه الورقة، يجادل الكاتبان بان التعاظم في قوة البرلمان الانجليزي المنبثق من "الثورة المجيدة"(1) لانجلترا عام 1688- 1689 خلق، لاول مرة، ذلك "الالتزام الموثوق" بان لا يكون هناك عجز في تسديد ديون انجلترا في المستقبل، وهذا كان شرطا مسبقا لحدوث اي ثورة صناعية.

منذ ذلك الوقت اهتم اقتصاديو التنمية كثيراً بهذا الاستنتاج. من بين هؤلاء الاقتصادين الاكثر شهرةً هما دارون اكميلو و جيمس روبسون الذين جادلا في كتابهما (لماذا تفشل الامم) الصادر في السنة الماضية، بان الفجوة الكبيرة في الآداء الاقتصادي بين دول العالم تعود اساساً الى طبيعة مؤسساتها السياسية الحاكمة. فلو ان المؤسسات الديمقراطية الجامعة "inclusive institutions" كتلك القائمة في انجلترا في القرن الثامن عشر اُدخلت الى العالم النامي، لكان ادى ذلك الى نمو اقتصادي سريع. الجزء الاكبر من الاساس التاريخي للجدال يعتمد على رؤية الكاتبين نورث ووينجست للثورة المجيدة:

"ان الثورة المجيدة اضعفت سلطة الملك والسلطة التنفيذية، واعادت الصلاحية للبرلمان في تقرير المؤسسات الاقتصادية. وفي نفس الوقت، انها فتحت النظام السياسي امام قطاعات واسعة من المجتمع، التي بدورها اصبحت قادرة على ممارسة تأثير كبير على الطريقة التي تعمل بها الحكومة. الثورة المجيدة كانت الاساس في خلق المجتمع التعددي، حيث انها عجّلت واعتمدت على عملية ذات مركزية سياسية. انها خلقت اول عالم من المؤسسات السياسية الشاملة.... هذه الاسس غيرت جذريا حوافز الناس في الانطلاق بحركة سريعة نحو الرخاء وبالشكل الذي فتح الطريق واسعاً امام الثورة الصناعية".

غير ان كتاب جديد بعنوان (مسائلة الالتزام الصادق – وجهات نظر حول صعود الرأسمالية المالية) للمؤلفين D’Maris Coffman, Adrian Leonard and Larry Neal، يحقق في الصلاحية التاريخية لهذه الحجة. المقالات مجتمعةً تجادل بان المؤسسات بعد الثورة المجيدة وفي عدة حالات اصبحت اكثر ضعفاً، بدلاً من ان تزداد قوةً. عندما اصبح ويليم الثالث الهولندي، ملكا عام 1689، فان الحكومة الانجليزية اصبحت اكثر استغلالاً واكثر بحثاً عن الربح - وليس اقل- لكي تمول تدخلاتها العسكرية الهائلة حول العالم. ارتفاع العبء الضريبي مثّل تحديا لحقوق الملكية، بينما سُمح للاحتكاريين الباحثين عن الربح بالنمو في بعض قطاعات الاقتصاد التي كانت في السابق مقيدة في ظل حكومات مطلقة. مثلا، يوضح لينورد، في عام 1720 شرع البرلمان نظام الاحتكار الثنائي (اتحاد شركتين احتكاريتين كبيرتين) في سوق التأمين البحري – محطماً في هذه العملية العديد من الشركات المزدهرة - كشكل من جني العائدات للحكومة. قرارات اعتباطية وغير عقلانية اخرى استمرت تلقي بضلالها على الاقتصاد خلال القرن الثامن عشر.

باختصار، الاستنتاج المذهل الذي وصل اليه الكاتبان هو ان الثورة الصناعية حدثت رغم وجود المؤسسات الضعيفة وان هذه المؤسسات لم تكن سببا للثورة.

الكتاب يرى ان العديد من المنافع المفترضة للمؤسسات السياسية كانت في اغلبها نتيجة الابتكارات المالية. فمثلا، النمو في سوق التأمين الفعال قلل من تكاليف الشركات والتجارة. حيث ان التجار نجحوا في تجنب تأمين الاحتكار الثنائي عبر تطوير نظام للتأمين الانفرادي (وان لم يكن منظماً بنفس الطريقة) لتقليل المخاطرة الناجمة عن المغامرة في التجارة البحرية- وهي الطريقة التي لا تزال تُستخدم حتى الآن في لويدز بلندن.

الحصول على مصداقية مالية يبدو انها كانت اكثر صعوبة واكثر تعقيدا مما يقترحه نورث ووينغست. بالنسبة الى تقليل المخاطرة، فان تطوير اسواق الاسهم المالية الثانوية كان اكثر اهمية من الابتكارات في الاسواق الرئيسية. النمو في اسواق السندات، مثلا، قلل من مخاطرة تحمّل ديون حكومية عبر جعل عملية اعادة البيع لمستثمرين اخرين اكثر سهولة. وان تغيير الانطباع بشأن احترام الدين القومي في القرن الثامن عشر لحزب المحافظين(المعارضين للنظام الحكومي المؤسسي الجديد الذي ادخل عام 1689) كان حاسماً في نجاح عمل النظام الجديد. بدون ذلك التغيير في المواقف، فان التحول نحو الحكم البرلماني ربما لم يكن له تاثيراً في ارض الواقع.

باختصار، يبدو ان الآليات المتعددة كانت مطلوبة لانتاج مؤسسات جيدة للمحافظة على التنمية الاقتصادية في انجلترا اثناء القرن الثامن عشر. لذا يجب ان لا نُصاب بالدهشة، حينما لم يؤد التطبيق المفاجئ لإسلوب المؤسسات السياسية الغربي في الاقطار النامية الى خلق نمو اقتصادي دائم.

الشذوذ الآخر الكبير في التاريخ الاقتصادي يبقى بلا جواب- وهو لماذا انهارت اقتصاديات روسيا واوربا الشرقية بعد ادخال اسلوب المؤسسات السياسية الغربية في التسعينات، او لماذا حققت الصين مثل هذه المستويات المذهلة من النمو الاقتصادي في العقدين الماضيين مع القليل جدا من الاصلاح السياسي. وبطريقة اخرى، تجادل السيدة كوفمان ومساعدها بان المؤسسات "الجيدة" بُنيت على اصول متعددة للشرعية، دون وجود سبب كبير لإعطاء التغيير المؤسسي مكانة متميزة - انه جدال يبدو اكثر اقناعا. استنتاجهما يبدو مستنداً على بحوث تاريخية دقيقة. انجلترا الصناعية، لم تُبنى كما يبدو على ثورة درامية في المؤسسات وانما على عمليات تطورية اكثر ازعاجاً.

.............................................

كتاب D. Coffman, A. Leonard and L. Neal,(2013) "استجواب الالتزام الصادق: وجهات نظر في صعود الرأسمالية المالية". كامبرج،مطبوعات جامعة كامبرج.

..................................................

الهوامش

(1)      الثورة المجيدة (Glorious Revolution) حدثت عام 1688 في انجلترا حيث اسقطت الملك جيمس الثاني ليعقبه حكم الملك وليم وزوجته ماريا.كان شارلس الثاني عام 1660 لا يحظى بثقة الانجليز بسبب عدم تجاوبه مع البرلمان وخضوعه للمرجعيات الكاثوليكية في اوربا. اراد بعض النواب الانجليز ان يستبعدوا جيمس وتنصيب ملك بروتستانتي محله، لكنهم فشلوا بذلك، بعدها جرى توحيد المعارضة في البرلمان وارسلوا دعوة للملك (وليم) ملك هولندا وزوجته (ماريا) لزيارة انجلترا. قدم وليم مع جيشه ليخوض معارك ضد قوات الملك جيمس الثاني، لم تكن هناك مقاومة قوية واضطر جيمس للهرب الى فرنسا.في عام 1689 اُعلنت لائحة الحقوق وأعادت تعريف العلاقة بين الملك والشعب ومنعت اي خلافة كاثوليكية للعرش ورفضت تدخل الملك في مسائل الحرب او فرض الضرائب دون موافقة البرلمان. هذه الاحداث كانت الحجر الاساس في نقل السلطة الفعلية الى البرلمان وعدم تحدّيها لاحقا.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 30/كانون الأول/2013 - 26/صفر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م