الجامعات الأوروبية وأزمة الهوية

فيكتور بيريز دياز

 

إن التعليم العالي في أوروبا اليوم يجد نفسه في حالة من عدم اليقين العميق. فماذا ينبغي أن يكون التركيز الأساسي للجامعات ــ البحوث، أم التدريب المهني، أم الإدماج الاجتماعي؟ وهل ينبغي للحكومات أن تستثمر المزيد في التعليم العالي من أجل تعزيز النمو الاقتصادي الطويل الأمد؟ وهل ينبغي للجامعات أن تُترَك لحالها لتتنافس على البقاء (أو لا) في سوق التعليم العالمية؟

في خضم المناقشات الدائرة حول دورها في المستقبل، لا ينبغي لجامعات أوروبا أن تغفل عن هويتها الفردية، وتقاليدها، وإحساسها بالغرض الاجتماعي. ولن يكون هذا بالأمر السهل. فالإداريون في الجامعات يواجهون ضغوطاً من فوق ــ من قِبَل المؤسسات الأوروبية والحكومات الوطنية ــ ومن باحثيها ومعلميها وطلابها.

وقد أصبحت معالم المناقشة فضلاً عن ذلك ضبابية. فمن ناحية تلتزم الجامعات باتفاقيات طويلة الأجل مع الحكومة؛ ولكنها من ناحية أخرى تواجه إصلاحيين متحمسين يسعون إلى فرض حلول تستند إلى السوق وتؤكد على المنافسة بين المؤسسات، وتشجع هيئة العاملين والطلاب على الحركة والانتقال، كما تؤكد على التعليم الذي يتمحور حول الطالب.

ومن الواضح أن وجهات النظر هذه تولد عواقب بالغة الاختلاف تؤثر على مستقبل الجامعات. تقليديا، كانت الجامعات تتولى البحث وتوفير التعليم المهني، وتعرض على الشباب في البلاد أساساً ثقافياً يدخلون به المجتمع الواقعي. واليوم يبدو أن كل هذه الأهداف لم تعد مؤمَّنة. والواقع أن الخطر الأعظم الذي يهدد الجامعات في أوروبا يتلخص في الفترة المطولة من الارتباك والحيرة حول أهدافها النهائية.

كان البحث عن الحقيقة من خلال الملاحظة والتجريب والحجج العقلانية والانتقاد المتبادل مبرراً لوجود الجامعات دوما. وعلى نحو يعكس هذه الحقيقة فإن الحكومات تشجع بعض المعاهد الأوروبية على محاولة مضاهاة التميز البحثي الذي حققته أفضل الجامعات في الولايات المتحدة.

ولكن ليس كل الجامعات الأوروبية تعتبر نفسها مؤسسات بحثية في الأساس. فالعديد منها تفضل التركيز على إعداد طلابها لعالم العمل. ورغم هذا فإن المهارات المطلوبة الآن خارج الأوساط الأكاديمية تتغير بسرعة كبيرة حتى أن الجامعات قد تجد صعوبة كبيرة في إقران المهارات المعرفية العامة التي تدرس في حجرات الدرس ــ مثل التفكير الانتقادي والتحليلي وحل المشاكل والكتابة ــ بالخبرات المهنية المطلوبة على نحو متزايد في سوق العمل. وإذا لم تترجم سنوات الدراسة إلى مهارات معرفية أكبر فإن هذا يعني انهيار الكثير من المبررات الاقتصادية للاستثمار في التعليم العالي.

وكانت الجامعات تتولى أيضاً مهمة تتعلق بالخدمات العامة: تزويد الطلاب بأسس ثقافي للحياة. وقد يبدو هذا الغرض مثيراً للجدال على نحو متزايد في المجتمعات الغربية التعددية، ولكن الجامعات لابد أن تزود طلابها على الأقل بفهم للنماذج والتاريخ والأسس الفلسفية التي تمنحهم القدرة على مناقشة هذه القضايا. وفي غياب قدر معقول من الوعي بالبيئة الاجتماعية الثقافية لمجتمعاتهم فإن الطلاب قد ينظرون إلى الجامعات باعتبارها مجرد مكان لملاحقة أهداف خاصة، وتكوين اتصالات مفيدة، والتمتع بالحياة الطلابية، وربما التقاط شعور سطحي بالتنوع.

أياً كان المسار الذي تسلكه جامعات أوروبا، فإن الحفاظ على هوية متميزة في مواجهة التغيرات العالمية وإصلاح التعليم سوف يصبح أمراً متزايد الصعوبة. لم يعد الباحثون محصورون داخل أبراجهم العاجية، ولكنهم يعملون كجزء من شبكات عالمية معقدة إلى جانب المشاركين من القطاع الخاص. والآن يُستعاض عن الأساتذة المثبتين، الذين كانوا ذات يوم يشكلون عنصراً مركزياً في حياة الجامعة وصورتها، بمعلمين بدوام جزئي يفتقرون إلى العلاقة القوية بمؤسساتهم.

وعلى نحو مماثل، في المفهوم الناشئ للجامعات ــ الذي يستمد إلى حد كبير من عالم الشركات ــ يتعامل "المديرون" التعليميون الذين يطبقون "أفضل الممارسات" (والمستعدون دوماً للانتقال إلى الموقع التالي) بالنظرة الأكثر سطحية لحياة المؤسسات والتقاليد. والطلاب، الذين يُنظَر إليهم باعتبارهم مجرد مستهلكين لخدمة ما، مدعوون لممارسة الاختيار بشأن المعلمين والمناهج الدراسية والموقع.

وقد يجد البعض أن هذه التغيرات مثيرة، ولكن الغرض منها يضيع إذا تسببت ملاحقتها في إضعاف هوية الجامعات الأوروبية، والتي تعود عدد كبير منها على العمل في عالم من رعاية الدولة والقيود التنظيمية القوية. ويتعين على صناع السياسات أن يكونوا على بينة من الأضرار التعليمية والثقافية التي قد تحدثها الإصلاحات المستمرة ــ والتي تبرر جميعها بلغة اليوم الموجهة نحو المستقبل.

يتعين على الجامعات أن تتولى حماية ذاكرتها المؤسسية، وتقاليدها المحلية، والتزامها إزاء كل جيل جديد من الطلاب. ومن الممكن أن تساعد شبكة من الخريجين الموالين الممتنين في ضمان تحقيق هذه الغاية. والبديل هنا يتلخص في تجربة تعليمية رسمية لا تفتقر إلى الشخصية الفردية فحسب، بل وتخلو أيضاً من الغرض الأخلاقي.

* رئيس مركز البحوث ASP في مدريد وعضو في الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم والأكاديمية الأوروبية، ومؤلف كتاب، من الأسواق والمجتمع المدني وأوروبا والأزمة العالمية

http://www.project-syndicate.org

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 12/كانون الأول/2013 - 8/صفر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م