تسامح

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: هل كان الماء موجودا قبل كتابة صيغته الكيميائية والتي يرمز اليها : H2oام انه وجد بعدها؟، وهل كان الأسد موجودا قبل الإشارة اليه بهذه الكلمة (الأسد) ام انه ان وجد بعدها؟. غير ذلك كثير من الأسئلة، والتي على هذه الشاكلة تكون إجاباتها بديهية لا تحتاج الى أي جهد ذهني خارق.

سؤال اخر نفتح به نافذة على موضوعنا، هل ان المصطلحات والمفاهيم توجد بعيدا عن تمظهراتها في الواقع، ام انها تأتي من الفراغ؟

جميع المصطلحات والمفاهيم الفاعلة في حياتنا على مستوى التنظير، تكون تعبيرا عن وجود لها في واقعنا الإنساني، مادي او معنوي، وهي لا تنفصل عن الفعل الإنساني الواعي او غير الواعي.

تنشأ تلك المصطلحات والمفاهيم على أرضية مشتركة مما تعارف عليه الناس، وتختلف عن نشأتها بمقدار الإضافات عليها، او (ابتكار او نحت او اشتقاق كلمات تدل عليها وتعبر عنها)، انتقل الى مستوى آخر.

في كتابه (مدارات صوفية) يذكر الراحل هادي العلوي، مثالا يعبر عن سلوك انساني يعتبره احد المدارات لواحد من (الابدال) الصوفيين، والتصوف هنا لدى الكاتب عكس ما راج عن الصوفية من هلوسات او طرق غريبة، بل ما يعنيه في كتابه هو ذلك القرب بين العبد وربه، قرب يجعل العبد في سلوكه اليومي وكأنه يرى الله سبحانه وتعالى، والله هنا في موضع المراقبة لهذا العبد في سلوكه.. هل يرتكب هذا العبد خطأ وهو بهذا القرب من الله الذي يراقبه؟.

المثل الذي يذكره، هو للامام زين العابدين السجاد (عليه السلام) حين يسمع جلبة وضجيجا في داره وحين يذهب الى مصدر الضجيج يجد احد أبنائه على الأرض مضرجا بدمائه والعبد المكلف بالخدمة واقفا فوقه ترتسم على وجهه علامات الخوف والرعب، لقد قتل دون قصد حين اخرج عمود حديد من التنور اصابت عين هذا الطفل وقتلته في ساعته.

دون أي سؤال وانتظار إجابة عليه، يقول الامام السجاد مخاطبا عبده: انت حر، انت حر، انت حر.

ما هي الدلالات التي يمكن استنباطها من واقعة كهذه؟.

وقبل ذلك ما هي العلائق الموجودة بين الأشخاص في هذه الحادثة؟.

(العبودية – الطاعة)، (القتل – الثأر)، (القصاص - الدية).

عبر الامام السجاد (عليه السلام) كل هذه العلائق واعتق العبد، وهو في عتقه أسس لعلائق جديدة: (الحرية – العفو) مع ما يتبع ذلك من دلالات جديدة على هذا التأسيس.

هذا المثل يؤسسه الاب المفجوع بولده.

مثل اخر يؤسسه المنتصر، وهو جد الاب والابن، النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حين يدخل مكة بعد فتحها مخاطبا اعداءه المنهزمين: (اذهبوا فانتم الطلقاء) انها أيضا قاعدة سلوكية اسمها (العفو) يؤسسها الرسول الكريم مقابل قاعدة (الانتقام) التي سار عليها ويسير الكثير من المنتصرين.. وربما يجدر بنا ان نأخذ مثلا اخر وهذه المرة من جهة مغايرة لتلك السلوكيات، لنتمكن من الاقتراب من فهم مصطلح (التسامح) ونقيضه.

اصدر المتوكل العباسي (مرسوما خليفيا) يقضي بارتداء أصحاب الديانات الأخرى في مدن الخلافة الإسلامية ملابس تختلف عن ملابس المسلم بالوانها لتكون دلالة واشارة عليهم، يمكن تمييزهم من خلالها عن المسلمين، أي بمعنى اخر، تصنيفهم بتراتبية جديدة لا تجعل هم كافراد مساوين في الإنسانية للمسلمين.

التسامح، كمصطلح وليد الثقافة الغربية، يراه الكثير من المثقفين العرب ليس له وجود في الثقافة العربية والإسلامية، رغم وجود الكثير من المعاني الدالة عليه في السلوك اليومي للمنتمين لتلك الثقافة.. وهذه الرؤية في اكثر الأحيان محاولة لإخفاء تلك المعاني، او اعتبارها لا تمثل المصطلح حق التمثيل.. او انهم ينظرون الى ازمان اقرب لتبلور اللاتسامح في الكثير من السلوكيات والبناء على نفي مضاده وهو التسامح بدلالاته الأخرى، مع عدم الاخذ بالاعتبار وجود معاني كثيرة له في القرآن والسنة.

ماذا عن الاختلاف واحترام الحق فيه؟

التسامح في قاموس (لاروس) الفرنسي يعني احترام حرية الآخر وطرق تفكيره وسلوكه وآراءه السياسية والدينية، وفي موسوعة لالاند الفلسفية: هو طريقة تصرف شخص يتحمـل – بلا اعتراض – أذى مألوفاً يمس حقوقه الدقيقة؛ بينما يكون قادرا على رد الأذية وهو استعداد عقلي، أو قاعدة سلوكية ثقافية قوامها ترك حرية التعبير عن الرأي لكل فرد حتى وإن كنا لا نشاطره رأيه، والتسامح بمعنى العفو عند المقدرة يتضمن القدرة على إيقاع العقوبة مع القرار الواعي بعدم استخدام تلك القدرة.

ويعرف (جون لوك) في كتابه الشهير (رسالة في التسامح) بأنه الاعتراف بالحق بالاختلاف والتنوع وعدم فرض شيء بالقوة أو الإكراه.

مبادئ التسامح المعلنة من الأمم المتحدة في 16 فبراير 1995م تضمنت العناصر التالية:

- قبول التنوع والاختلاف في ثقافاتنا واحترامها.

- الاعتراف بالحقوق الأساسية للإنسان؛ حق الحياة، وحق التملك، وحق الحرية والكرامة والأمن.

- التسامح هو مفتاح حقوق الإنسان في التعددية السياسية الثقافية الديمقراطية.

- تطبيق التسامح يعني الاعتراف لكل واحد بحقه في حرية اختيار معتقداته وآراءه وعدم فرض الرأي بالقوة أو بالإكراه.

كل هذه التعريفات والمبادئ آلا تتشابه مثلا مع الاية القرآنية الكريمة (لا اكراه في الدين) او مع القاعدة الشهيرة (الناس مسلطون على أموالهم وانفسهم) وما يتبع ذلك من حريات عديدة للتصرف بهذا (التسلط والتمكين) الممنوح للإنسان؟.

التسامح يقوم على حق الاختلاف واحترامه، وهذا الاختلاف هو قاعدة كونية راسخة في الكثير من نصوص القرآن الكريم، وقبلها هي قاعدة كونية راسخة في الخلق واختلافه، في الطبيعة والإنسان.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 9/كانون الأول/2013 - 5/صفر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م