عن شيعة فيلتمان وسنة كيري

محمد قواص

 

هل تستبدل واشنطن حلفاءها السنة بحلفاء شيعة؟ كيف نفهم الرعاية الأميركية الملتبسة لحكم الإخوان المسلمين للمنطقة بعد 'ربيعها'؟

 

في الأسابيع التي سبقت اتفاق جنيف مع إيران، راجت نظريةٌ تناقلتها بعض عواصم المنطقة، عن تحوّل في سياسة الولايات المتحدة باتجاه التحالف مع الشيعية السياسية في المنطقة على حساب السنّة. افترضت هذا النظرية أن العداء السنّي للولايات المتحدة أصيلٌ وتاريخي، فيما الخصومة مع الشيعة ظرفيةٌ طارئة. وافترضت هذه النظرية أن أروقةَ القرار في واشنطن ضاقت ذرعاً بالضربات التي يكيلها الإسلام السياسي السنّي لمصالحها، ناهيك عن مسؤوليته المفترضة عن رواج القاعدة والتنظيمات الجهادية الرديفة.

جاء اتفاق جنيف ليسوق الماء إلى أصحاب هذه النظرية. فالمفاوضات السرّية (في مسقط) بين واشنطن وطهران، والتي سبقت انتخاب حسن روحاني رئيسا، واستمرت في عهده، قد تشي برغبة مشتركة لتواصل يتجاوز التكتيكي لما هو أكثر وأشمل من ذلك. ربما ذلك ما دفع العسكريين الأميركيين لمقت الخيار العسكري ضد إيران، وما دفع إدارة أوباما لمقاربة طهران بالدبلوماسية، والدبلوماسية وحدها.

على أن اندفاع أصحاب النظريات لتحليل السلوك الأميركي وفق تقسيماتنا المذهبية، يعكس اختزالاً لمناورات الدول الكبرى بما يتلاءم مع هواجس أهل المنطقة أو بعضهم، ويسلّط مجهرا مثيرا للانتباه حول علاقة المذاهب في منطقتنا بالدول الكبرى، لاسيما الولايات المتحدة.

في تاريخ تشكّل المنطقة غداة الحرب العالمية الأولى، استدرجت المكوّنات المذهبية العواصم الكبرى تحريا للحماية. تطوّعت فرنسا للدفاع عن الموارنة في لبنان ورعاية دولة علوية في سوريا، فيما تولى البريطانيون شؤون الدروز وتولى الروس شؤون المسيحيين الأرثوذكس.. إلخ. بقي المسلمون، سنّة وشيعة، يشكلون تحدياً للقوى الكبرى الوافدة يحتاج التعامل معهم إلى مقاربات معقّدة.

والمقاربات المعقّدة لا تعني إعراض المسلمين عن التعامل مع الغرب. فالتاريخ ابتداء من بدايات القرن الماضي حافلٌ بحقب التواصل والتعامل منذ ثورة الشريف حسين بن علي الكبرى وحتى اليوم. كما أن الوثائق المفرج عنها تُفصح عن درجات من التواصل بين هذا الغرب وأنظمة الانقلابات وتقليعاتها التي راجت منذ خمسينات القرن الماضي.

تعاملت الولايات المتحدة مع الإسلام السياسي السنّي والشيعي بدأب ونشاط لردّ الزحف الشيوعي المحتمل في المنطقة (تسهيل الغرب للخميني وحراكه أتى ضمن هذا الإطار). تواصل الإسلاميون السنّة، أنظمة وتيارات، مع واشنطن، بحيث شهدت أفغانستان أرقى أشكال التعاون مع من سيشكلون لاحقاً تنظيم القاعدة. في مواكبة ذلك وقفت الولايات المتحدة علناً مع العراق في حربه ضد إيران، فيما أجهزتها تتورط سراً في دعم إيران وفق ما كشفته الـ»إيران غيت». وكان لهجمات الحادي عشر من سبتمبر صداها الانقلابي في العقلية الأميركية الحاكمة، بحيث نشطت عدائية ضد الإسلام السياسي السنّي المسؤول بالعقيدة والتنظيم والأشخاص والجنسيات عن كارثتي نيويورك وواشنطن.

هو انقلاب أميركي ضد السنّة. هكذا قيل حين تحالفت واشنطن مع المعارضة العراقية (الشيعية بأغلبها) لاحتلال العراق وقلب نظام صدام حسين (السنّي حسب التوصيف الغربي). سقطت أفغانستان على الحدود الشرقية لإيران، وسقط العراق على الحدود الغربية لها. تداعت أنظمة السنّة (في بغداد وكابول) وتعملّق ما بين الكتلتين نظام الشيعة في إيران. شعرت الحاضرات السنيّة في المنطقة بهذا التحوّل. اعترض السنّة في العراق على احتلال بلادهم من قبل الأجنبي، لكنهم في العمق اعترضوا على تداعي هذا الاحتلال على أرجحيتهم في السلطة، كما اعترضت تيارات شيعية (التيار الصدري مثلاً) على هذا الاحتلال حين أهمل مكانتها في السلطة في البلاد. العلاقة إذن بالمحتل ترتهن لعلاقة هذا المذهب أو ذاك بالسلطة.

هل تستبدل واشنطن حلفاءها السنّة بحلفاء شيعة؟ كيف نفهم الرعاية الأميركية الملتبسة لحكم الإخوان المسلمين للمنطقة بعد «ربيعها»؟ هل تستبدل واشنطن حلفها مع الأغلبية بحلف مع الأقلية؟ في السؤال ما يقلب منطقاً يتسرب ويندفع حول خيارات واشنطن المذهبية. تدرك الولايات المتحدة أن القاعدة وأخواتها ظاهرة، على خطورتها، هامشية إذا ما قيست بالسواد العام من بلدان السنّة في العالم. تعرف واشنطن مدى تاريخية علاقاتها بدول الخليج والملكيات العربية، كما علاقاتها الاستراتيجية مع مصر، على الرغم من التوتر الراهن، كما علاقاتها مع باكستان والدول الآسيوية السنّية الأخرى.

فإذا ما كانت الأنظمة السنّية العربية خاضت حروباً ضد إسرائيل، فإن أنظمة سنّية هي التي وقّعت معاهدات سلم مع إسرائيل، فيما تولّت السعودية، بما تمثله، اقتراح مبادرة السلام العربية التي تبنتها قمة بيروت، ويذهب اليوم البعض إلى أكثر من ذلك (كما تشي تصريحات الأمير الوليد بن طلال الأخير المثيرة للجدل).

اصطدم الغرب مع الشيعية السياسية منذ قيام الجمهورية الإسلامية في إيران. سقطت سفارة واشنطن في طهران وتمّ اختطاف وقتل رهائن غربيين في لبنان، فيما فُجرت العبوات الإيرانية في شوارع العواصم الغربية (لاسيما فرنسا). هُددت الملاحة الدولية بالتلويح المستمر بإقفال مضيق هرمز، كما هُدد التوازن الاستراتيجي الأمني في المنطقة من خلال القنبلة النووية الإيرانية المحتملة. وفي ذاكرة الغرب مقتل المئات من جنوده (الأميركيين والفرنسيين) بهجمات انتحارية إيرانية الهوى في لبنان في ثمانينات القرن الماضي.

لا تختارُ واشنطن بين السنّة والشيعة، فهي صديقة للشيعة في العراق وعدوة لهم في لبنان، وينسحب المثال على السنّة هنا وهناك. والصيغة الأفضل ربما، أن نعترف أن السنّة كما الشيعة هم الذين يتحرون ودّ الولايات المتحدة، كما تحرت الطوائف ودّ العواصم الكبرى مطلع القرن الماضي.

تنفرج أسارير الشيعية السياسية هذه الأيام بعد اتفاق جنيف الإيراني. يجري التحضير لعهد ذهبي جديد مع الشيطان الأكبر. يتحوّل جيفري فيلتمان (شيطان الشيطان الأكبر) إلى عرّاب للعلاقة الجديدة مع واشنطن، بعد لقائه الشهير بالولي الفقيه في طهران، فيما لم تنس شخصيات شيعية معارضة لحزب الله في لبنان تهمة «شيعة فيلتمان» التي ألصقت بها. يجرد السنّة من إهمال أميركي مزعوم لقضاياهم، وينتظرون في جنيف السوري مزاج جون كيري وخياراته (وهو الذي جال على عواصم المنطقة مسترضياً).

فجأة لا تبدو المعضلة في كيفية الخلاص من أتون التناقض بين السنّية والشيعية السياسية لما فيه من منعة للمنطقة وازدهارها. فجأة تبدو المشكلة وكأنها تكمن في الحنكة اللازمة لجعل «الامبريالية الأميركية» أو»الشيطان الأكبر» صديقاً لنا، سنّة أو شيعة.. وما تبقى تفاصيل.

* صحافي وكاتب سياسي لبناني

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 8/كانون الأول/2013 - 4/صفر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م