الرأي العام وأهميته المجتمعية في فكر السيد المجدد

موقع الإمام الشيرازي

 

يهتم المفكر المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي بموضوع الرأي العام، وخاصة لجهة التنظير له، والتعريف به، وتبيان أهميته، وضروراته المجتمعية، وآثارها في السياسة والبناء الإستراتيجي للدولة، فسماحته يعتبره ضروباً من سلوك الأفراد، يتضمن التعبير باللغة والألفاظ الخاصة، بما يفهمه الشعب أو الأمة، تمارس من جانب الأفراد على نطاق واسع.

وقد أظهر تعريف سماحته للرأي العام، دقة وشمولية حرفية واضحة، مبيناً تكوّن الرأي العام في حقيقته، من ذرات صغيرة، تتجمع لتصبح سيلاً، مما يتطلب من العاملين في حقل الرأي العام، الصبر وعدم إهمال الأشياء، حتى الصغيرة المؤثرة فيه.

إن هذا التصور للرأي العام، تطلب استقراءاً للتاريخ، جعل من منهج البحث التاريخي حاجة ملحة في بحث ودراسة الرأي العام وصناعته، مروراً بحقب طويلة من التاريخ العربي الإسلامي، خلص فيها سماحته، إلى أن الدول الإسلامية، لم تكن يوماً حكومة واحدة، بل كان لكل منها أسلوبها الخاص في الحكم.

ويبتني سماحته هذه الرؤية الإستراتيجية المعمقة، أن لدول الإسلام، منهجيات مختلفة في الحكم، وليس منهجية واحدة، والاسم الواحد لها لا يدل على الحقيقة، وإنما يدل على الإطار العام، وإن هذا يدل على انتفاء القدرة على تعميم الأحكام، لأنها ستجانب الحقيقة والواقع، والأصوب هو دراسة كل حالة لحالها، واقتراح الحلول الناجعة لكل منها، ولا خلاف على دراسة العوامل المشتركة والتأثير المتبادل بين حالة وأخرى.

وقد جرى التطرق إلى الرأي العام في سياقه التاريخي، في الجهد العلمي للمفكر المجدد، إشارة إلى أن الرأي العام موجود في الكثير من أدبيات الشعوب، وقد ظهر ذلك جلياً في تاريخ الأديان والحضارات، وكانت ولا تزال وسائل الإعلام ومنذ القدم، تشكل أمراً فاعلاً في تكوين الرأي العام وصناعته.

ويخلص سماحته الى الواقع الفعلي، في إطار السياسية والمجتمع، إذ أن من يعتقد بمبدأ أو إطار فكري، بالضرورة أن يكون له صحيفة أو أية وسيلة إعلام أخرى، تنطق باسمه وتسوّق لأفكاره ومعتقداته، ولهذا فكل منظومة، دينية كانت أو دنيوية، سياسية أو عقائدية، فكرية أو أدبية، تعبر عن تأثيرها في الرأي العام، وتوصيف ذاتها بتعبير "صوت الشعب أو صوت الجمهور أو الجماهير، أو نبض الشارع أو اقتضاء المصلحة الشعبية العامة"، مبينا أنها ألفاظ بديلة عن الرأي العام، في الأدبيات المعاصرة.

يعرض سماحته في مباحثه، لعناصر الرأي العام، من خلال بحثه لخلفيات الرأي العام، في مسألة جوهرية وبمفردات بليغة ودقيقة الوضوح، بالإشارة إلى العقل أولاً، كعنصر متقدم من خلفيات تشكيل الرأي العام، وان الرأي العام الذي ينبع من الأهواء ولا يركن إلى العقل، لا يختلف عن الغريزة التي تدفع بالإنسان إلى حيث هي تريد، لا إلى حيث يريد عقله.

والخلفية الثانية التي يؤكدها سماحته، في صناعة الرأي العام، هي المعرفة، مبينا أن الإنسان منذ الخليقة الأولى، مندفع لاكتساب العلم، وبه تميز عن سواه من المخلوقات، فكان سيدها، مع أنه ليس بأقواها، وإن هذه المعرفة العلمية، يكتسبها الإنسان بطريقتين، المعرفة الذاتية، أو المعرفة المكتسبة عبر الخبرة.

والخلفية الثالثة التي يؤشرها سماحته، هي السلوك، الذي ينبثق من التقاليد الثقافية، التي يتلقاها الفرد منذ طفولته، ضمن تنقله في البيئة التي ينشأ ويتطور فيها، تحت تأثير العامل الثقافي في التنشئة الاجتماعية.

أما الخلفية الرابعة التي يؤكد عليها سماحته، هي العقيدة الإسلامية، التي لها كبير الأثر على طبيعة الشعوب الإسلامية، وبالتالي تطلعاتهم وثقافاتهم ورؤاهم المجتمعية.

والخلفية الخامسة المؤثرة في الرأي العام، في رؤيا سماحته، هي الأرض، فإن الإنسان بسبب احتياجه للأرض وعيشه فيها، يختار قيماً خالصة به سواء كانت تلك القيم موحدة أو قيماً متعددة وأن كانت متناقضة، لقاعدة الأهم والمهم، المسلمة عند العقلاء.

وأخيرا فالخلفية السادسة، هي العادات، التي لها أثر كبير في صنع الرأي العام، وهي ما يتكرر من فعل الإنسان، فردا وجماعات.

ويمكن إجمال الخلفيات التي تؤثر في صناعة الرأي العام، ضمن رؤى سماحته، بأنها الاتجاهات المعول عليها في الرأي العام، التي تتشكل بمجموع الميول والمواقف، تجاه الجوانب الثقافية والعلمية والمبدئية، وصولاً إلى العواطف والأحاسيس، في حين أن البيئة التي يتحرك فيها الإنسان منذ تنشئته، بدءاً بالأسرة والمدارس وتأثيراتها على مداركه، فضلا عن الخرافات والأساطير العالقة في الذاكرة الشعبية، تشكّل تأثيراً بيّناً في الرأي العام في المجتمعات التي تؤمن بها.

ويبين سماحته، إن القائد القادر على تكوين الرأي العام، يشكل عنصراً مهماً في تشكيله، وأن الفكرة الجلية هي "أن القائد الديني يكون أفضل القيادات المؤهلة في التأثير، لذا فإن القادة غير الدينيين بحاجة إلى غيرهم الدينيين لتسهيل أمورهم"، ولا فرق أن يكون المعني، حقيقياً وواقعياً أو مزيفاً، لجهة تأثيره الكبير في الرأي العام، وهذا هو مكمن الخطر في التعامل مع هذه الجزئية في تشكيل الرأي العام.

الإشارة الأخرى التي تحكم الرأي العام، في منظور سماحته، أنه ليس بالضرورة أن تجتمع فيه كل الآراء، بل يكفي أن يمثل الأكثرية المطلقة، وليس الأكثرية المقيدة، وبذلك فهو من الناحية الفعلية، حصيلة معرفة الفرد، فكلما كانت معرفة الفرد عينية وحرة، كان رأيه انتقائياً حراً، وهو بدوره يشكل وحدة البناء للرأي العام في مجتمع الموضوع، الذي يجري رصد الرأي العام فيه.

والقاعدة التي يبتني عليها سماحته تصوراته، هي في إعتبار الثبات، من الأسباب الرئيسة في تكوين الرأي، فهذه الجزئية غاية في الدقة، وهي "أن الرأي العام يكون ثابتاً في الثابتات ومتغيراً في المتغيرات"، ذلك أن الأصل في المجتمع هو الثبات في الأشياء، إلا إذا توفر دافع يزيحه عن الثبات إلى عدم الثبات أو التغير، وتبعاً لذلك يتشكل الرأي العام في المجتمع من خلال مقاربته للحوادث وسلوك الرموز في المجتمع.

ويؤكد سماحته، أنه كثيراً ما يحصل أن نفس الرأي العام، الذي يصوّت لصالح فرد او مجموعة او حزب أو حركة سياسية معينة، ويوصلهم إلى سدة الحكم، لكنه في دورة انتخابية لاحقة، قد يسقطهم تماماً عن واجهة التمثيل الحكومي، وبذلك يتحول الحزب أو الحركة السياسية إلى معارضة برلمانية داخل مجلس النواب، وأحياناً قد يخرجهما الراي العام تماماً، إلى خارج المجلس والندوة النيابية.

يثبت المفكر المجدد، "مسألة" واضحة في التوازن بين الأهم والمهم، لأن الرأي العام إنما يتكون من إرادة التوافق بين الآراء المختلفة، وملاحظة قانون الأهم والمهم في تشكيل الرأي العام، ويعبر عن التبسيط في الرأي العام لغة، بأنه عبارة عن إرجاع شيء تؤثر فيه مؤثرات متعددة إلى مؤثر واحد، وذلك لتسهيل الأمر والارتقاء إلى عدة عوامل.

وإن التبسيط يعني تفكيك الحالة المعقدة أو المركبة إلى عواملها الأولية، لأن التبسيط يوجب الانسياق وراء السبب المبسط، الذي يطرحه المرشح لموقع الرئاسة أو النيابة، لتسويق نفسه أو برنامجه في خطابه الانتخابي، مركزاً على الجانب الأكثر إثارة أو مطلباً لدى جمهور الناخبين، فمثلاً أن العامل العاطفي، بالغ القوة والتأثير في الفرد ثم الجماعة ثم الأمة، والغالب أن الأفراد يحاولون الدفاع عن آرائهم الذاتية، التي تكونت بسبب عوامل زمنية أو مكانية أو تقليدية، لذا يؤكد سماحته، أن "الرأي العام محتاج إلى عدة دراسات من نواح مختلفة، وهذه الدراسات تنتج معلومات قريبة إلى الهدف".

على الرغم من اختلاف الرأي العام في سلوكياته، غير أن سماحته يورد مجموعة القوانين التي تحكمها، بمداخلة علميه نقدية، انتقت نماذج من تلك السلوكيات، خاصة في جزئية تحويل الرأي العام، من طرف النقيض إلى الطرف الآخر، مبينا إن ذلك لن يحصل كلياً، وإنما يكون قليلاً دائماً، "وإلاّ فالناس يميلون غالباً من شيء إلى درجة أرفع منه أو أنزل، لا إلى الطرف النقيض، وكذا الحال في الحركة السريعة فإنها لا تنقلب إلى سكون".

ويعنى سماحته بذلك أن التحول والتغير، يكون وارداً في السرعة أكثر منه في الاتجاه، متغيرا إلى سرعة أعلى أو أبطأ، لكنه في نفس الاتجاه، وذلك مرتبط بالبيئة والعقل والإدراك، ويؤكد سماحته ان للعاطفة مدخلية كبرى في صناعة الرأي العام، كما وأن للعقل مدخلية أيضاً، وكل من العقل والعاطفة، له جذوره في البناء الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي والتربوي والعائلي والجغرافي، ومنها جميعاً يتكون العقل والعاطفة ومنها يتشكل الرأي العام.

وعليه فإنه بالتحليل العلمي، والاستدلال الاستنتاجي، تتبين الحكمة الكبيرة، في تقديم المفكر المجدد بحثه لموضوع "الرأي العام"، على سائر عناصر رباعيته المعلوماتية، المؤسسة على مباني علم الاتصال والمعلومات، ليشفعها بجزئية "الإعلام" ثم "الدعاية" ثم "الإشاعة".

فيستخلص من دراسة جهد المفكر المجدد في هذا المجال، أن الصراع الحضاري المعاصر، هو صراع معلوماتي إعلامي فكري وثقافي، وهو مثل أي بيئة وحقل للصراع بين طرفيه المتناقضين، يتألف من عناصر ثلاث، تعرف في الأدبيات الاختصاصية لإدارة هذا الشكل من الصراع، ولملاستها موضوع البحث، سيكون من المفيد عرضها وهي:

أولاً الإجراءات الساندة المعلوماتية، وهي الجانب الإيجابي الساند للقاعدة المعلوماتية الإعلامية، التي تستند بالأساس إلى استطلاع الرأي العام، والرأي العام المضاد، فيتشكل على ضوئه صناعة الرأي العام والإعلام.

ثم الإجراءات المضادة المعلوماتية، وهي الجانب السلبي الذي يستهدف التأثير في الطرف الآخر ومنظومته المعلوماتية، التي تشكل الرأي العام المضاد، وتتألف أدوات هذه الإجراءات من الإعلام المضاد والدعاية المضادة والحرب النفسية.

وأخيرا الإجراءات المضادة للمضادة المعلوماتية، وهي الجانب السلبي والإيجابي الذي يستهدف حماية المنظومة المعلوماتية الإعلامية الثقافية والفكرية وبالتالي تحصين الرأي العام من إجراءات المنظومة المضادة المعلوماتية المقابلة، الممثلة بالإعلام المضاد والإشاعة والدعاية المضادة المقابلة والحرب النفسية المضادة التي تستهدف التأثير في الرأي العام ومساراته المرسومة المقبولة فكراً وعقيدة وثقافة واتجاهات مجتمعية.

ويتبين إن مدركات الأدبيات الفقهية، والمفردات اللفظية المنطقية الجارية، والبحوث الأصولية، قد امتزجها المفكر المجدد، مع الصياغات العلمية التقانية، المتعلقة بتخصص الموضوع، والتي لامسها سماحته، في حقول المعلوماتية وعلم الاتصال والإعلام، وذلك لتشكل جسرا في المقاربة المعرفية، بين الحقلين المعنيين بدراسة الموضوع.

http://alshirazi.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 8/كانون الأول/2013 - 4/صفر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م