المعركة ضد السعودية: لوازم 'جنيف'

محمد قواص

 

قصفت إيران بقذائف الهاون، عبر أذرعها العراقية، مركزاً سعودياً على الحدود العراقية. وقصفت إيران بتصريحاتٍ نارية، عبر أذرعها اللبنانية، الرياض متهمة إياها بالوقوف وراء عملية التفجير المزدوجة التي قام بها انتحاريان ضد السفارة الإيرانية في بيروت. في ذلك التصعيد ما يشي بالحاجة إلى سجالٍ بالواسطة بين العاصمتين على هامش الورشة الكبرى التي قادت إلى الاتفاق الدولي مع إيران في جنيف.

أجمعت كل المصادر الرسمية الإيرانية، بما فيها سفيرُ طهران في بيروت، على اتهام إسرائيل بالوقوف وراء الهجوم. ومع ذلك، انطلقت تصريحاتُ مسؤولي حزب الله (ووزير إعلام دمشق) تتهم التكفيريين «الذين تقف الرياض وراءهم»، على نحو يتسقُ مع تصريحات سابقة هاجم فيها أمين عام الحزب السعودية في مسائل التكفير والصراع السوري والأزمة الحكومية اللبنانية.

إذا كانت الجهات الإيرانية تملكُ معطيات عن تورط السعودية، فلماذا تجنبت توجيه اتهامٍ معلن في أمر يُعتبر، على مستوى الدول، بمثابة إعلان حرب؟ وإذا كانت إيران مقتنعةٌ بأن إسرائيل وراء العمل، فلماذا سمحت لأذرعها بالإيحاء بغير ذلك، باتجاه الرياض؟ فهل من حاجة إيرانية، هذه الأيام لإثارة غبار إقليمي كثيف يحجبُ روائح الاتفاق «التاريخي» الموقع في جنيف؟

ظهرت التحليلات القريبة من حزب الله مرتبكةٌ في تفسير حدث السفارة الإيرانية المأساوي. ربطت رواية منطقية العملية بسياسة إيران ومواقفها (بما يقيم رابطاً منهجياً مع السلوك الإيراني في سوريا)، ووضعت رواية ركيكة الانفجارين في خانات متحررة من أي سياق، بما في ذلك الاندفاع نحو تجاهل جغرافيا موقع الانفجارين (أي على باب السفارة الإيرانية)، لحصر الجريمة بإرهاب روتيني يستهدف مدنيين أبرياء. في تأمل ذلك ما يوحي أن الحدث الإيراني في جنيف ما زال عصيّ الفهم والهضم على الدوائر القريبة من طهران في لبنان. وفي تأمل ذلك ما يوحي أن تخبطاً طال، وسيطال، تفسير وتبرير وتبني ذلك الودّ الطارئ بين حكومة الجمهورية الإسلامية و»الشيطان الأكبر وقوى الاستكبار» الرديفة (خلفية الاتفاق مفاوضات سرية جرت هذا العام في مسقط بين طهران وواشنطن).

في فوضى الاتهامات المُكالة يميناً ويساراً ضد من أرسل الانتحاريين إلى السفارة الإيرانية، صُوّبت الأصابعُ نحو التكفيريين والقاعدة و»البيئة الحاضنة» و»الوهابية السعودية» وإسرائيل.. إلخ، ولم تلامس الاتهامات المستكبرين الكبار بقيادة واشنطن المتجمعين حول وزير الخارجية الإيراني في جنيف. الجميع التزم بأصول اللعبة المترجّلة حديثاً (ناهيك عما أثارته الـ»وورلد تربيون» الأميركية عن مفاوضات سرية تجري حالياً بين حزب الله وواشنطن).

يحتاجُ اتهام السعودية إلى جوقةٍ من المحللين وتقليعةٍ جديدة من التحليل. تبرّعَ المتبرعون في تقديم الحدث بصفته تطوراً لافتاً في اختيار الهدف (وهذا صحيح) وتطوراً في وسائل الهجوم، بحيث يُصار إلى التلميح بتورطٍ على مستوى دولة. وفي أهمية الهدف ما يغشي الأبصار عن أن وسيلة العملية الانتحارية هي أقل تقنية وأكثر بساطة من الانفجارات التي طالت مؤخراً منطقة «الضاحية» ومدينة طرابلس. فتجهيز السيارات المفخخة، وسوقها وركنها في أهدافها، يستدعي جهوداً تقنية وبشرية ومخابراتية واتصالاتية، ما يفوق بكثير ما تحتاجه العمليات الانتحارية.

قام تنظيم القاعدة بعمليات انتحارية استهدفت ما استهدفت في العالم، بما فيها داخل السعودية، دون أن يتم اتهام دول بالوقوف وراءها. ثم أنه إذا كان المطلوب ضرب السفارة الإيرانية من قِبل دولة ما، فكان من الأسهل، حتى بالنسبة لإسرائيل، اختيار أي سفارة في العالم. لكن اختيار بيروت، ومن قبل انتحاريين، تمّ التعرف عليهما وعلى تاريخهما وحوافزهما، يضع كل العملية في سياق الصراع السوري دون غيره. ويجعل من هوية المنفذيّن والمخططين ضمن سياق منطقي محلي لا يتعداه إلى مرتبة التناقض السعودي الإيراني.

ردت السعودية، عبر إعلامها نفياً، مسهبةً في عرض آلام المملكة من حمى الإرهاب القاعدي، مكثرةً في عرض جهودها وإسهاماتها في محاربة تنظيم بن لادن وأخواته. تعلم إيران- نفسها- أن الرياض لا تُقدم بسبب حساباتها الداخلية (نفوذ إيران داخل الشيعة في المملكة مثلاً)، وبسبب حساباتها الدولية (لاسيما في موسم التفاوض في جنيف)، على التورط في صدام سيعتبر مباشراً، وهي التي تتبادل مع طهران اللكمات غير المباشرة منذ عقود (تشكو المعارضة الإيرانية في الأهواز وبلوشستان مثلا بإعراض وتحفظ الرياض عن دعمها).

المقلق في أمر تصعيد السجال ضد السعودية وتيار المستقبل وقوى 14 آذار في لبنان، أن أمر ذلك أسهل في تحشيد «جمهور المقاومة» حول خيارات حزب الله وإيران، من التصعيد ضد إسرائيل والغرب وقوى الاستكبار. بمعنى أدق، يحتاج حزب الله لتسعير الفتنة السنية الشيعية لتبرير الإمعان في التورط في سوريا وتبرير لازمة عودة نعوش مقاتلين شيعة يسقطون في المعركة «ضد التكفيريين».

يكرر السيد حسن نصر الله مؤخراً التبشير بالنصر في سوريا، منذرا بأن رهانات الخصوم في لبنان آيلة إلى عدم. على أن سياقات النصر الأكيد، القريب، لا تفسّر غضب أمين عام الحزب على «الفريق الآخر» في لبنان، والمفترض أنه سينقرض بحكم الهزيمة القادمة في سوريا، كما لا تفسّر إلتهاءه بتقديم عروض «آخر فرصة» لهذا الفريق في تشكيل الحكومة العتيدة، طالما أن النصر القادم لن يلحظ لهم لا مكاناً ولا مكانة.

يحتاجُ حزب الله إلى مزيد من التوتر المذهبي لتمرير مغامرته السورية التي تطرح ألف سؤال وسؤال داخل الطائفة الشيعية. وتحتاجُ إيران إلى التوتر مع السعودية لشدّ عصبٍ حول اتفاق مع العالم ينهي أي طموح للحصول على السلاح النووي. وإذا ما كانت إيران جاهزةٌ بكافة مؤسساتها، ابتداء بالمرشد، مروراً بالحرس الثوري، انتهاء بمؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية، للتقيّد ببنود الاتفاق (والتحول الجذري لاحقا بما يتسق مع فلسفته)، فإن حزب الله، عقيدة وجسما وتركيبة، سيجد صعوبة في التأقلم مع عصر جديد يتطلب مرونة ليست من صفات كينونته.

هو نصرٌ يعلنه الغرب في جنيف وتصفق له إدارة أوباما. هو نصرٌ (نموذجي حسب حزب الله) تعلنه طهران بفضل «صمود الشعب الإيراني». هو «نصرٌ على السعودية» كما يراه واحد (سامي العسكري) من أركان حزب نوري المالكي في العراق. لكل نصره وفق قياسات على الطلب.

سنراقب من الآن فصاعدا سياق البراغماتية الإيرانية وبراعتها في ركوب أمواج جنيف. إحدى تلك الأمواج ستعيد الحرارة الضرورية (وفق روح الاتفاق وتداعياته الآلية) إلى العلاقة بين طهران والرياض (جدير قراءة مقال جواد ظريف وزير خارجية طهران بعنوان «جيراننا أولويتنا»). وحين سيتحادث الرئيس حسن روحاني والملك عبد الله حول مستقبل الدولتين، سيتأمّل من كال الاتهامات للرياض في بيروت المشهد مصعوقا من مآلات السياسة وعجائبها.

* صحافي وكاتب سياسي لبناني

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 1/كانون الأول/2013 - 27/محرم الحرام/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م