مخاطر المفاوضات

كريستوفر هيل

 

إن الاتفاق الذي تم التوصل إليه في جنيف بين إيران والدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالإضافة إلى المانيا يُعَد بداية ممتازة للعملية الصعبة المتمثلة في إثناء إيران عن محاولة التحول إلى أحدث قوة نووية عالمية. من المبكر للغاية أن نمتدح الصفقة باعتبارها إنجازاً تاريخيا، ولكن من المبكر للغاية أيضاً أن نعتبرها فشلا، أو أن نقترح أن مفاوضين أكثر براعة ربما كان بوسعهم بشكل أو آخر أن يقوموا بعمل أفضل في انتزاع التنازلات من نظرائهم الإيرانيين.

إن التفاوض عبر الطاولة يختلف كثيراً عن الحديث على البرامج الإخبارية في التلفاز. وكما هي حال العديد من الجهود من ذلك النوع فمن الجدير بنا أن نقارن بين هذا الاتفاق وبين النتائج البديلة، بدءاً بالاحتمال الحقيقي المتمثل في عدم التوصل إلى أي اتفاق على الإطلاق. ولابد من الضغط على منتقدي الاتفاق لكي يشرحوا لنا كيف قد يفضي فرض المزيد من العقوبات إلى تحقيق نتائج أفضل من تلك التي أظهرت حتى الآن.

سوف يخضع الاتفاق إلى مناقشات محتدمة إلى حد كبير لأنه يأتي على خلفية من التوترات الحزبية غير المسبوقة في واشنطن. والواقع أن انهيار السياسة الخارجية الثنائية الحزبية في الولايات المتحدة نادراً ما كان تاماً وغير قابل للإصلاح كما نشهد اليوم. والآن تتقاطع وتتشابك خيوط المناقشة التقليدية بين الحمائم والصقور حول انقسام العزلة في مقابل المشاركة، وكل هذه الخيوط يعلوها انعدام الثقة العميق في كل المؤسسات الحكومية.

ولأن هذا الاتفاق يأتي في وقت من الاضطرابات غير العادية في الشرق الأوسط، فإنه سوف يضطر أيضاً لاجتياز اختبار القدرة على البقاء في مواجهة سيل آخر من الانتقادات. وإذا نحينا جانباً تشكك الحكومة الإسرائيلية المعروف في صدق نوايا إيران، فإن الإشارة إلى أن معارضة المملكة العربية السعودية ترتبط بالمنافسة الجيوسياسية مع الجارة القريبة إيران تشكل تجاهلاً لأحد العوامل الرئيسية التي تحرك الأزمات الحالية في الشرق الأوسط.

إن الأبعاد الطائفية في الشرق الأوسط، في وجود خط الصدع النشط بين السُنّة والشيعة، أصبحت اليوم أكثر وضوحاً مما كانت عليه في قرون. وسواء كان التحول في العراق من حكم الأقلية السُنّية إلى حكم الأغلبية الشيعية سبباً أو عَرضاً للممخضة الإقليمية الحالية، فمن الواضح أن الانقسام الطائفي كان سبباً في تأجيج الأزمات في العراق وسوريا والبحرين واليمن وأجزاء من المملكة العربية السعودية.

وهناك بكل تأكيد عداوة خاصة في العلاقات السعودية الإيرانية، وبوجه خاص في ضوء وجهة نظر سعودية مفادها أن إيران تحرض على تذمر الشيعة في المنطقة. والقضية النووية ليست سوى أحد التخوفات الكثيرة لدى المملكة العربية السعودية، وهي تتضاءل في الأهمية مقارنة بالصراعات الطائفية الجارية في الشرق الأوسط العربي.

بعد دقائق من الإعلان عن الاتفاق، سارع العديد من المنتقدين إلى إدانته، بزعم أنه ما دامت العقوبات قد نجحت في الدفع بإيران إلى طاولة المفاوضات، فمن المؤكد أن العقوبات كانت لتجبرهم قريباً على الإذعان التام. ولكن الحجة القائلة بأن العقوبات قد تكون أنجح من المفاوضات تتعارض مع الحقائق تمام التعارض: فبرغم العقوبات الأكثر قوة، نجحت إيران في زيادة قدرتها على تخصيب اليورانيوم بشكل ملحوظ.

وهذه فضلاً عن ذلك حجة يطلقها عادة أولئك الذين لم يؤيدوا أي عملية دبلوماسية قط، والذين يتمتعون بخبرة ضئيلة في مبدأ الأخذ والعطاء في المفاوضات الدولية. ومن منظورهم فإن أي تنازل على مسار المفاوضات يشكل ضعفا. ومن المفيد أن ننظر في ما إذا كان أولئك الذين يقترحون أن دولة مثل إيران سوف تستسلم في حال تجميد بعض الحسابات المصرفية قد يذعنون هم أنفسهم إزاء هذا النوع من القهر الذي تفرضه العقوبات.

ومن بين الانتقادات الأخرى المتكررة لمحادثات جنيف أنها تشبه المفاوضات مع كوريا الشمالية حول برنامجها النووي. والواقع أن المفاوضات في الحالتين اتخذت بنية مختلفة تماما. فقد اتفقت الدول الخمس المتفاوضة مع كوريا الشمالية على اتخاذ خطوات خاصة بها، بما في ذلك توفير كميات محددة من زيت الوقود في مقابل خطوات تتخذها كوريا الشمالية.

وعندما فشلت كوريا الشمالية في اتخاذ تلك الخطوات، في المقام الأول برفضها الموافقة على نظام التحقق والتفتيش، توقف محاوروها عن توفير زيت الوقود لها. وقد حدث أن تم تجميد حسابات مصرفية بقيمة 23 مليون دولار أميركي في إطار تطبيق قانون الإرهاب (باتريوت) الأميركي ضد بنك في مكاو لم يكن حتى يعمل داخل سوق الولايات المتحدة. وفي نهاية المطاف استعادة كوريا الشمالية أموالها، ولكن ما يسمى بـ"تخفيف العقوبات" لم يكن بأي حال من الأحوال معادلاً للمليارات التي ورد ذكرها في محادثات جنيف.

في أواخر عام 2008، وبعد أشهر من الجهد، قررت الولايات المتحدة، وانضمت إليها بلدان أخرى في قرارها، إنهاء المفاوضات مع كوريا الشمالية، نظراً لعدم القدرة على تأمين سبل التحقق الكافية التي تؤكد أن كوريا الشمالية تلتزم بتعهداتها. وكانت كوريا الشمالية على استعداد للسماح بالتحقق من إغلاق مفاعلها الذي يستخدم الجرافيت وإخراجه من الخدمة (المفاعل المسؤول عن إنتاج القدر الكافي من البلوتونيوم لتصنيع عدة قنابل)، ولكنها لم تكن مستعدة للسماح بتفتيش المواقع غير المعلن عنها. والواقع أن الشكوك حول احتمال تورط هذه المواقع في أنشطة التخصيب أثبتت صحة الأسس التي قامت عليها.

إن ما يُعرَض على إيران اليوم ليس مجرد تخفيف العقوبات الاقتصادية؛ بل وأيضاً العودة إلى عضوية المجتمع الدولي ــ وهي النتيجة التي يريدها بوضوح بعض قادة إيران (وليس كلهم بكل تأكيد). ولابد أن تستمر المحادثات الثنائية بين الولايات المتحدة وإيران بشكل أو آخر من أجل تحديد أي مستقبل تستطيع إيران أن تتوقعه عندما تتخلى عن سعيها إلى تصنيع الأسلحة النووية وتتوقف نهائياً عن دعمها للمنظمات الإرهابية.

لن يكون أي من هذا سهلاً يسيرا، ولكن اتفاق جنيف كان بداية طيبة. وبدلاً من التشكيك في قدرة المفاوضين ــ أو حتى احتمال نجاح المفاوضات ــ فيتعين علينا جميعاً أن نفهم المخاطر على نحو أفضل قليلا.

* مساعد سابق لوزيرة الخارجية السابق وزارة الخارجية الامريكية لشؤون شرق آسيا، السفير السابق للولايات المتحدة لدى العراق

http://www.project-syndicate.org/

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 30/تشرين الثاني/2013 - 26/محرم الحرام/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م