ألمانيا: عصب الاقتصاد العالمي

مارتين أورت

 

لا يوجد بلد يضاهي ألمانيا في تشابك اقتصاده مع الاقتصاد العالمي. الاقتصاد الخارجي في دائرة الضوء

 

الثقة بالنفس والإيمان بالقوة الذاتية. بهذه العبارة يمكن أن يصوغ المرء عنوانا في مجال الرياضة. ولكن ما يصلح في مجال الرياضة، يمكن أن يصلح أيضا في مجال الاقتصاد. فولكر تراير يتنبأ: "في العام 2013 سوف تتمكن ألمانيا من تجاوز الولايات المتحدة لتحتل مكانة ثاني أكبر دولة مصدرة في العالم". وما يجعل مدير الاقتصاد الخارجي في اتحاد غرف التجارة والصناعة الألمانية متفائلا إلى هذه الدرجة هي توقعات أكثر من 100 من غرف التجارة الألمانية الخارجية ومبعوثيها وممثليها في 86 بلدا. ففي تقريرها عن الازدهار العالمي تتوقع غرف التجارة الخارجية معدل نمو أكبر من المتوسط للصادرات الألمانية يمكن أن يصل إلى 6%. ويرى خبراء اتحاد الغرف أن نمو التجارة العالمية في ذات الفترة في المقابل لن يتجاوز 5%. بإيجابية مشابهة تحدث البنك الاتحادي الألماني (المركزي) بوندسبانك في توقعاته لموسم 2012/2013. حيث يرى خبراء بوندسبانك أن الصادرات الألمانية سوف تستمر في نموها، خاصة مع بداية فترة الازدهار أو انحسار الانكماش في الاقتصاد العالمي. إلا أن هذا التفاؤل يتعرض لكبح مفاده قاعدة مقتضبة: "السيناريوهات تخبئ أيضا المخاطر".

بالفعل تمكنت ألمانيا في تشرين الثاني/نوفمبر 2012 من تجاوز عتبة البليون يورو السحرية في حجم الصادرات، وذلك للمرة الثانية. وبينما ضعفت من كانون الثاني/يناير حتى آب/أغسطس 2012 الصادرات الألمانية إلى دول منطقة اليورو التي تعتبر السوق الأهم للقطاع الاقتصادي الألماني الخارجي، بنسبة تصل إلى 60%، شهدت الصادرات نحو الولايات المتحدة (زيادة 21%) والصين (زيادة 8%) زيادة تدعو إلى التفاؤل. زيادة الصادرات إلى الولايات المتحدة وحدها ساهمت بنسبة 27% من نمو إجمالي الصادرات في الأشهر الثمانية الأولى من العام. بديناميكية مشابهة تبدو الصادرات نحو آسيا، حيث تتمتع المنتجات التي تحمل شعار "صنع في ألمانيا" بسمعة متميزة، تماما كما هي الحال في نيويورك ولوس أنجلوس. وبشكل عام فإن ألمانيا تحتل المرتبة الرابعة في الاقتصاد العالمي، بعد الولايات المتحدة والصين واليابان.

الرابحون من هذا الطلب الخارجي على المنتجات الألمانية هي القطاعات المبدعة ذات التوجهات العالمية، مثل صناعة السيارات، وبناء الآلات، والصناعات الكيميائية والدوائية، والتقنيات الإلكترونية. هذه "الأربعة الكبار" تشكل مجتمعة عماد القطاع الصناعي الألماني. حيث تشغل حوالي 3 مليون إنسان، وتزيد مساهمتها في إجمالي الصادرات الألمانية عن النصف. العاملون في قطاع الإلكترونيات والتقنيات الإلكترونية البالغ عددهم 842000 إنسان يحققون حجم مبيعات سنوي يصل إلى 178 مليار يورو، كان منها في العام 2011 حوالي 155 مليار معدا للتصدير، وهو رقم قياسي ومدعاة للفخر والشعور بالنجاح. ويحتل الاقتصاد القومي الألماني موقعا متميزا على الصعيد العالمي، حيث يشكل القطاع الصناعي 22% من الاقتصاد، ناهيك عن الدور الريادي الذي تتمتع به الشركات المتوسطة الحجم. وذلك في الوقت الذي شهدت فيه اقتصادات صناعية كبيرة مثل فرنسا وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة تراجعا واضحا في دور وأهمية القطاعات الصناعية فيها خلال السنوات الأخيرة.

 41% من السلع والخدمات الألمانية تذهب إلى الخارج

على الجانب الآخر لا يوجد بلد يضاهي ألمانيا في تشابك اقتصاده مع الاقتصاد العالمي، وارتباطه بازدهار التجارة العالمية. نسبة صادرات غالبية الشركات الكبيرة الداخلة في سوق البورصة من إنتاجها تصل وسطيا إلى النصف وأكثر، مثل أديداس (أدوات رياضية)، باير (كيمياء ودواء)، دايملر (سيارات). الشركات المتوسطة الحجم، التي تعرف باسم "الأبطال الخفيون" هي بدورها شركات متخصصة، تتمتع بخبرات جيدة، وتعتمد في إنتاجها المتخصص على التصدير بنسبة تقترب في الكثير من الأحيان من 80 %. وبشكل إجمالي فقد حققت ألمانيا في العام 2011 نسبة صادرات بلغت 41 % من إجمالي الإنتاج. وهذا ما يعادل قيمة للبضائع الألمانية المباعة في الخارج، تصل إلى 1061 مليار يورو. ولا تدخل منتجات الشركات الألمانية العاملة في الخارج ضمن هذا الرقم، ومنها بشكل رئيسي السيارات والآلات والمنتجات الكيميائية. ويرى الخبراء إمكانات جيدة للتصدير في المستقبل في مجال قطاع الخدمات. فبينما تبلغ حصة شركات الخدمات من الاقتصاد الألماني الثلثين تقريبا، لا تتجاوز هذه النسبة في الصادرات 15%. لهذا السبب تتطلع الطرق والأساليب الجديدة في التعاون الدولي إلى التركيز على الخدمات، وخاصة الشركات العاملة في مجال البرمجة، ولكن أيضا القطاع الصناعي من خلال تقديم المزيد من الخدمات الهندسية والخدمة والصيانة في الخارج.

رغم تحول مركز الثقل في الاقتصاد العالمي نحو آسيا، مازال الاتحاد الأوروبي هو السوق البينية الأكبر في العالم، والمستورد الأول للسلع والخدمات الألمانية. ومازالت العلاقات الأهم والأكبر والأعمق هي تلك التي تربط ألمانيا بفرنسا. 9,6% من إجمالي الصادرات الألمانية تجد مستقرها في فرنسا، على الجانب الغربي من نهر الراين. وبالأرقام المجردة، فقد وصل حجم التبادل التجاري (صادرات وواردات) بين البلدين في العام 2011 إلى 168 مليار يورو. وتأتي هولندة في المرتبة الثانية بحجم تبادل مقداره 151,5 مليار يورو، تليها بريطانيا في المرتبة الثالثة.

ليست ألمانيا مجرد إحدى أهم الدول المصدرة في العالم، وإنما أيضا إحدى أهم الدول المستثمرة في الخارج. ففي العام 2011 تجاوز حجم الاستثمارات الألمانية المباشرة في الخارج عتبة البليون لأول مرة، نصفها تقريبا في دول غير دول الاتحاد الأوروبي. وفي الاتجاه المعاكس يتوجه المستثمرون الأجانب إلى ألمانيا بازدياد. مستثمرون أوروبيون، وخاصة من هولندة، يتخذون قراراتهم بالاستيطان في ألمانيا، وخاصة للاستفادة من البنية التحتية ومستويات التعليم والتأهيل المتميزة. أما المستثمرون الصينيون فيهتمون بالتقنية والمعرفة الألمانية، بينما ساهم سعر صرف الين المرتفع في جعل الاستثمار بالنسبة للمستثمرين اليابانيين أكثر إغراء.

بعد دول بريكس تنهض اليوم دول أخرى

في المقابل يولي المستثمرون والمصدرون الألمان مزيدا من الاهتمام للأسواق المتنامية والناهضة في دول بريكس، البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا. تتطور هذه البلدان الخمس نحو تحولها إلى قوى إقليمية، تلعب دورا مهما في الاقتصاد العالمي في المستقبل، وهي بالتالي شريك مهم للاقتصاد الألماني. وعلى العكس من كافة توقعات النجاح فإن دول بريكس مازالت بحاجة إلى إصلاحات كبيرة في المجالات السياسية. وقد أشارت إلى هذا دراسة مقارنة دولية نشرتها مؤسسة برتلسمان الألمانية في تشرين الأول/أكتوبر 2012: غالبا ما تعاني هذه الدول عجزا في المقدرة على إصلاح أنظمتها السياسية، بشكل يهدد أو يعيق إمكانات نموها الاقتصادي في المستقبل.

بينما تتقدم دول بريكس منذ سنوات بخطى ثابتة، تشير غرف التجارة الخارجية نحو آفاق إيجابية جديدة تلوح في اقتصادات دول آسيان، مثل إندونيسيا وماليزيا والفلبين. حيث باتت زيادة 10% في الصادرات إلى هذه البلدان بشكل عام خلال السنوات القادمة أمرا مؤكدا. التجمع الاتحادي للصناعة الألمانية قام بتحديد البلدان التالية، التي يمكن أن تزداد أهمية في المستقبل القريب. ومن هذه البلدان دول أمريكية لاتينية مثل تشيلي وكولومبيا وبيرو، علاوة على بلاد أخرى في مناطق شرق أفريقيا.

في ألمانيا نفسها تبدو أرقام سوق العمل مشجعة وراسخة، رغم استمرار أزمة اليورو والفتور الذي أصاب الانتعاش مع نهاية العام 2012. فقد ارتفع عدد العاملين في تشرين الأول/أكتوبر 2012 إلى 41,9 مليون إنسان، وهو رقم قياسي. واقتربت معدلات البطالة من 6,5% فقط. بالنسبة للشباب في سن 15 حتى 24 سنة تعتبر ألمانيا حاليا سوق العمل الأكثر ضمانة وأمانا في الاتحاد الأوروبي: حسب معطيات هيئة الإحصاء الرسمية الأوروبية أويروستات، فإن نسبة الشباب العاطلين عن العمل في ألمانيا حاليا هي الأدنى بين دول الاتحاد الأوروبي (7,9% في حزيران/يونيو 2012). ويزداد الطلب بشكل خاص على القوى العاملة المؤهلة. ففي مجالات "مينت" وحدها، أي الرياضيات والمعلوماتية والعلوم الطبيعية والتقنية، يدور الحديث اليوم عن نقص سيصل إلى 230000 اختصاصي، حتى العام 2020. من أجل سد هذه الاحتياجات أصدرت ألمانيا في العام 2012 قانون "البطاقة الزرقاء للاتحاد الأوروبي" للمؤهلين والمختصين من شتى أنحاء العالم. البطاقة الزرقاء للأكاديميين وأصحاب المؤهلات المعادلة من خارج دول الاتحاد الأوروبي تساعد في تسهيل الحصول على إذن العمل، كما أنه من المفترض أن تجعل سوق العمل الألمانية مغرية بالنسبة للعمالة الأجنبية المؤهلة، على المدى المتوسط.

تبدو الأمور جيدة في ألمانيا رغم أزمة اليورو لعدة أسباب. من الناحية الأولى يتمتع الاقتصاد الألماني بقوة إبداع وابتكار كبيرة، وذلك إلى جانب الدعائم السياسية التي تم إرساؤها في مطلع الألفية الجديدة. ففي العام 2003 حتى 2005 أقرت الحكومة الألمانية الاتحادية بقيادة المستشار غيرهارد شرودر آنذاك خطة الإصلاح "أجندة 2010" التي منحت سوق العمل مرونة كانت تحتاجها لمواجهة تطورات ومتغيرات المستقبل. وفي 2008/ 2009 واجهت الحكومة الائتلافية بقيادة أنغيلا ميرك الأزمة المالية بكل حرفية ونجاح. فقد تم ضمان الكثير من المصارف من خلال صندوق الإنقاذ، كما تم دعم الانتعاش الاقتصادي من خلال برامج طالت البنية التحتية، إلى جانب "علاوة الخردة" للسيارات القديمة، ناهيك عن حماية العاملين من التسريح، من خلال المساعدة الحكومية وفكرة "العمل القصير والمؤقت". النتيجة: بقيت معدلات البطالة عند مستويات منخفضة، احتفظت الشركات بالعمالة الماهرة والمتخصصة، وتمكنت من تجاوز الأزمة بأقل الخسائر، والمصارف بدورها بدأت تعيد أموال المساعدة والإنقاذ (مع بعض العلاوة)، المدارس، رياض الأطفال، الطرقات نالت أيضا نصيبها من التجديد والتحديث. خرجت ألمانيا من الأزمة أقوى مما كانت عليه قبلها، وحتى البيئة كان لها نصيبها من الفائدة.

التخلي عن الطاقة النووية كان بدوره من الأسس الاقتصادية الجديدة. تقدر الحكومة الألمانية الاتحادية أن يصل حجم الاستثمارات المرتبطة مباشرة بمبدأ انعطاف أو "تحول الطاقة" المعلن في العام 2011 حتى منتصف هذا القرن إلى حوالي 550 مليار يورو. ولم يعد الأمر هنا مجرد عنفات تعمل بطاقة الرياح أو خلايا للطاقة شمسية، وإنما أصبحت مسألة إبداعات أساسية لإنتاج يتمتع بفعالية أكبر لجهة الطاقة، بما في ذلك التنقل المستدام. منارات الصناعة الألمانية مثل شركة سيمنز بدأت برامج إصلاح جذرية، وباتت تقدم نفسها على أنها شركات "خضراء" لتأسيس البنية التحتية. ضغط إبداعي هائل يلقي بثقله على مجمل الاقتصاد الألماني، ويبدو على شكل ميزة إستراتيجية فريدة. يقول د. أولريش شرودر، رئيس بنك التنمية متفائلا: "القطاعات التي تتميز فيها الشركات الألمانية في الأسواق العالمية يمكنها الاستفادة من تحول الطاقة، وسوف تستفيد منها بالفعل".

قبل فترة وجيزة أصدرت وزارة البيئة الاتحادية أطلس التقنية الخضراء الثالث، وقد توقع لمستقبل التقنية الخضراء، إمكانات في الأسواق العالمية تصل إلى 2 بليون يورو. اليوم تحتل الشركات الألمانية مكانة متميزة في السوق العالمية للتقنية الخضراء، بحصة تبلغ 15% من هذه السوق. التطورات القادمة للمنتجات تمنح هذه الشركات الألمانية ميزات هائلة، وخاصة الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تتمتع بالمرونة العالية وقوة الإبداع والابتكار. المنتجات والحلول المتعلقة بقطاعات مثل القطاع الصحي والتنقل الكهربائي (السيارة الكهربائية) وتقنيات الأمان والسلامة تتمتع أيضا بإمكانات هائلة في الأسواق العالمية، وتحظى بدعم القائمين على السياسة والاقتصاد، من خلال مبادرات التصدير المختلفة. كل هذا يفترض وجود تجارة عالمية حرة، تسعى إليها ألمانيا في كل المحافل الدولية. إنه اقتصاد عصر العولمة والتشابك، الذي غدت ألمانيا عصبه المحرك.

* مصدر النص: www.deutschland.de

الإعداد والتحرير: المركز الألماني للإعلام

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 27/تشرين الثاني/2013 - 23/محرم الحرام/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م