أزمة العلوم الإنسانية

أندرو ديلبانكو

 

تشهد المناقشات الدائرة الآن حول مستقبل التعليم العالي في مختلف أنحاء العالم نشوء نوع من التساوق اللافت للنظر. فمن ناحية، هناك قلق متزايد إزاء احتمال فشل الولايات المتحدة والعديد من البلدان الأوروبية في إعداد خريجي الجامعات بالقدر الكافي في المجالات التي تحرك "اقتصاد المعرفة" في القرن الحادي والعشرين، مثل الهندسة وتكنولوجيا المعلومات. وقد أدى هذا التخوف إلى تضييق مفهوم التعليم حتى أصبح محصوراً في الدلالة على اكتساب المهارات العملية.

ومن ناحية أخرى، يخشى الناس في بعض أنحاء آسيا أن الشباب الذين يدخلون قوة العمل وهم يتمتعون بتدريب فني قوي يفتقرون في واقع الأمر إلى الخبرة الكافية لتمكينهم من "التفكير خارج الصندوق". ويتجلى هذا التخوف في المحاولات الناشئة الرامية إلى توسيع التعليم بحيث يشمل غرس المشاعر والخيال.

وتمتد جذور كلا التخوفين إلى مخاوف اقتصادية. ففي الولايات المتحدة، حيث يتحمل أغلب الطلاب الجامعيين جزءاً على الأقل من تكاليف تعليمهم الجامعي، تتصاعد الضغوط السياسية لتوفير الحوافز مثل خفض رسوم الدراسة أو إعفاء قروض طلاب العلوم أو التكنولوجيا أو الهندسة أو الرياضيات. وتتطرق المناقشة الآن إلى الاستعانة بتدابير خفض التكاليف، مثل ضغط برامج الشهادة الجامعية التقليدية إلى ثلاث سنوات بدلاً من أربع ــ وبالتالي الحد من أو إلغاء المقررات الاختيارية في المواضيع "غير العملية" مثل الأدب والفلسفة والفنون الجميلة.

وفي الوقت نفسه، تتعالى الأصوات في هونج كونج وسنغافورة والصين بالدعوة إلى تمديد البرامج الجامعية بحيث يتسنى للطلاب الحصول على تعليم واسع وليبرالي، على أمل أن يصبح الخريجون أكثر ميلاً إلى التجربة والإبداع. فقد مددت جامعة هونج كونج على سبيل المثال برامجها الجامعية من ثلاث سنوات إلى أربع.

ولكن هذه النظرة الضيقة القائمة على الاقتصاد لا تأخذ في الحسبان التساؤلات الأكبر التي تواجهها المجتمعات في مختلف أنحاء العالم بشأن القيمة. لا شك أن التقدم في أي مجال، من التجارة والاتصالات إلى الصحة والعلوم البيئية، سوف يعتمد بشكل متزايد على الإبداع التكنولوجي، وبالتالي على المهارات العالية ــ المكتسبة من خلال التدريب التقني المكثف ــ التي تدفع هذا التقدم.

ومع ذلك فمن الصحيح أيضاً أن مثل هذا التدريب لا يوفر الأساس الكافي لمعالجة التساؤلات الأكثر تجريداً ولكنها تشكل أهمية بالغة والتي ينبغي لها أن توجه وترشد عملية صنع السياسات واتخاذ القرار على مستوى العالم:

· كيف يمكن التوفيق بين مقتضيات التنمية الاقتصادية والحاجة إلى الحد من تغير المناخ؟

· ماذا تعني السيادة الوطنية في عالم حيث بات بوسع الأمراض والملوثات والإرهابيين عبور الحدود الوطنية بكل سهولة؟

· هل توجد حقوق إنسان عالمية تتجاوز المزاعم المتضاربة بشأن أي تقاليد ثقافية خاصة؟

· كيف ينبغي لنا أن نوزع الموارد المحدودة من أجل توفير الفرصة والأمل للشباب، وفي الوقت نفسه معاملة المسنين بالقدر اللازم من الكرامة والاحترام؟

· ما هي التزامات البلدان إزاء اللاجئين الفارين من الاضطهاد أو الفقر أو الصراعات في مكان آخر؟

· كيف ينبغي لنا أن نوازن بين الحرية الفردية والأمن الاجتماعي؟

في الإجابة على مثل هذه التساؤلات، سوف يلعب تقدم التكنولوجيا (على سبيل المثال، ابتكار طرق جديدة لإنتاج الطاقة، أو المراقبة، أو التعلم عبر الإنترنت) دوراً أساسيا. ولكن التساؤلات الأخلاقية والمعنوية لا تستسلم بشكل كامل للحلول التقنية؛ فهي تتطلب أيضاً فهماً لتراث الإنسانية الاجتماعي والثقافي. وبوسع العلم أن يساعدنا في الحصول على الحياة التي نرغبها، ولكنه يعجز عن تعليمنا أي نوع من الحياة يستحق أن نرغبه ونسعى إلى تحقيقه.

باختصار، كل جانب من المناقشة الدائرة حول التعليم حالياً نصف صحيح. فمع زيادة الشؤون الإنسانية تعقيداً وإلحاحاً على المستوى الأخلاقي، سوف تحتاج أجيال المستقبل إلى التعليم العلمي والإنساني ــ وسوف تحتاج إلى هذين الفرعين أكثر من أي وقت مضى.

ومما يدعو إلى التفاؤل أن بعض الطرق الجديدة الواعدة لجعل التعليم أكثر تماسكاً ورحابة بدأت تنشأ الآن. ففي جهد تعاوني مشترك عملت جامعة ييل وجامعة سنغافورة الوطنية معاً من أجل إنشاء أول كلية للفنون الليبرالية في سنغافورة تحتى مسمى Yale-NUS. وتحت قيادة باحث أدبي كبير وعالم فلك، تهدف هذه الكلية الجديدة إلى كسر الحدود بين التخصصات وتمكين الطلاب من التعلم من بعضهم البعض. وعلى نحو مماثل، تشجع جامعة كويست في كندا طلابها على الربط بين المعرفة العلمية والإنسانية والمشاكل الأكثر إلحاحاً اليوم.

وكانت جهود مماثلة تجري لسنوات في الولايات المتحدة. على سبيل المثال، يسعى برنامج علماء بنيامين فرانكلين التابع لجامعة نورث كارولينا ــ بالتعاون بين كلية الهندسة وكلية العلوم الإنسانية وعلوم الاجتماع ــ إلى "تخريج شباب مهنيين واسعي المعرفة ويتمتعون بالقدرة التحليلية في حل المشاكل، والقدرة على اتخاذ القرار الأخلاقي، والاتصالات الفعّالة". ولكن من المؤسف أن مثل هذه البرامج تفتقر إلى حد كبير إلى الوضوح والتأثير اللازمين لصياغة الإصلاح التعليمي.

لقد حان الوقت الآن لهجر "الخطاب التخييري" (إما/أو) الذي يؤلب العلوم على الإنسانيات ــ والذي عَرَّفه الكيميائي الروائي البريطاني سي. بي سنو قبل أكثر من نصف قرن من الزمان بوصفه العقبة التي تحول دون تقدم البشرية. والآن هو الوقت المناسب للبحث عن أفضل الممارسات التي من شأنها أن تسد هذه الفجوة المفترضة بين الفرعين وتوسع نطاقهما وترتقي بهما.

في العمل المهم المتمثل في تكييف المؤسسات التعليمية لكي تصبح صالحة للتعامل مع المستقبل، لا ينبغي لنا أبداً أن نغفل عن مهمتها الأساسية كما تم التعبير عنها بالتفصيل في الماضي. ولم يعبر أحد عن هذه المهمة بشكل أفضل من بنيامين فرانكلين، الرجل الواسع الأدب والمعرفة وصاحب الإبداع العلمي، الذي عَرَّف التعليم بوصفه بحثاً عن "الجدارة الحقيقية".

يقول فرانكلين في كتاباته عن الجدارة الحقيقية إنها "تتألف من الميل المصحوب بالقدرة على خدمة البشرية، والوطن والأصدقاء والأسرة؛ ومثل هذه القدرة يمكن اكتسابها أو تعظيمها إلى حد كبير من خلال التعلم الحقيقي؛ ولابد في الواقع أن تكون الهدف الأسمى والغاية القصوى لكل التعلم". وهذا طموح لابد من تجديده مع كل جيل.

* مدير الدراسات الأمريكية في جامعة كولومبيا، وهو مؤلف الكلية: ما كان، وهو، وينبغي أن يكون.

http://www.project-syndicate.org

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 21/تشرين الثاني/2013 - 17/محرم الحرام/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م