حكومات المستقبل

إعادة تحديد حسن الإدارة

محمد بن سعيد الفطيسي

 

معظم المؤسسات الحكومية اليوم تؤدي مهمات عديدة ومتنوعة آخذة في التعقيد على نحو متزايد، وفي بيئات تنافسية آخذة في التغيير بشكل متسارع، نتج عن ذلك أزمات وتحديات آخذة في التطور بطرق متجددة، تلخص الفقرات السابقة وبطريقة موجزة وبسيطة ما الذي ستقبل عليه حكومات القرن 21، وما هي ثلاثية الأوراق الرابحة الواجب امتلاكها وتوفرها لنيل بطاقة التأهل للدخول، ومن ثم الثبات، وأخيرا المنافسة على حجز مقعد في قطار المستقبل.

 إذا وباختصار شديد فان حكومات المستقبل هي تلك الحكومات التي ستتمكن بطريقة أو بأخرى من خلال أدوات محددة من مواكبة المتغيرات والتحولات التي ستطرأ على البيئة الحكومية في المستقبل القريب والبعيد، بداية من زيادة التعقيد في المهمات والواجبات الموكلة إليها، إلى ارتفاع سقف المنافسة والتحدي على مختلف الجوانب الحياتية والأصعدة المحلية منها والإقليمية والدولية وبشكل سريع جدا ولا يقبل التوقف ولو لثانية من الزمن، وفي مقدرتها وإمكانياتها واستراتيجياتها على احتواء الأزمات والمشاكل التي ستواجهها في ذلك الطريق الشاق.

 والمتتبع المتخصص لتطور هياكل وبناء الحكومات من الناحية التاريخية والإدارية يجد أن ذلك التطور الغير مسبوق والذي ظهر في الحقبة الصناعية في منتصف القرن 18 لم يعد يعمل بنجاح ولا بطريقة فعالة وناجعة في وقتنا الراهن، نتيجة استفحال البيروقراطية المكتبية والمركزية البطيئة، واشتغال تلك الحكومات بالقواعد والقوانين والتعليمات وتسلسل قياداتها الهرمي بشكل شديد التعقيد والمركزية السلبية، صحيح أنها أنجزت أشياء عظيمة في زمانها ولكنها وفي مكان ما وفي وقت ما على الخط ابتعدت عنا، فأصبحت مترهلة ومبذرة وغير مؤثرة، وعندما بدا العالم يتغير من حولها، وجدنا أنها عجزت بشكل واضح عن التغير معه بطريقة تمنحها الأمل والقوة الكافية لمواكبة تلك المتغيرات الراهنة والمستقبلية.

 وكما يقول ديفيد اوزبورن في كتاب إعادة اختراع الحكومة الصادر في طبعته الأولى غير العربية في العام 1991م، وهو أحد أهم الأساتذة والمحاضرين في الإدارة العامة في وقتنا الراهن وعمل في وقت ما كبيرا لمستشاري نائب الرئيس الأمريكي السابق آل جور مع فريق عمل حكومي في مشروع نائب الرئيس "لمراجعة الأداء الوطني" في العام 1993م حيال هذا الأمر – أي – نهاية عصر البيروقراطية:

 (ان البيروقراطيات الهرمية والمركزية المصممة في ثلاثينيات القرن 20 واربعينياته لم تعد تستطيع ببساطة أن تعمل جيدا في مجتمع التسعينيات واقتصادها الآخذين بالتغيير السريع والغنيين بالمعلومات والمعرفة المكثفة، بل أنها تشبه سفن الرفاهية الباذخة التي تقوم برحلات عبر المحيط في عصر النفاثات الأسرع من الصوت، فهي كبيرة وبطيئة الحركة، وثقيلة وباهظة التكاليف ومن الصعب جدا جعلها تغير اتجاهها، ولذا فان أنواعا جديدة من المؤسسات العامة آخذة في الحلول مكانها بالتدرج)

فكيف بنا وبها ونحن مقبلون على المرور بمنتصف العقد الثاني من القرن 21 - أي- بعد 22 سنة تقريبا من رؤية ديفيد اوزبورن وأمثاله في بداية تسعينيات القرن الماضي ؟!!

 لذا فان اغلب حكومات العالم التي لا زالت ترزح تحت وطأة ورحمة البيروقراطية ستكتشف خلال الفترة القريبة القائمة والقادمة أن فكرة السيطرة المركزية كأسلوب وإستراتيجية للإدارة العامة للدول وشؤونها وسياساتها قد بدأت تفلت منزلقة من بين أيديها مهما حاولت التشبث بها بكل قوة، كما أن المشاهد لما آل إليه واقع تلك الحكومات وهي تشكل اليوم 75% من حكومات العالم تقريبا والتي لازالت تتبع عصور البيروقراطيات والقوانين شديدة التعقيد واحتكار المكاتب لإدارة شؤون الدولة والحياة العامة في عصر الميجا حدث، والمؤسف أكثر هو إصرار اغلبها على فكرة قدرة تلك البيروقراطيات على مواصلة العطاء والإنتاج بطريقة آمنة وقابلة للاستمرار والثبات في عصر العولمة وثورة المعلومات، تعيش الكثير من التخبط والترهل والتراجع في أداء مؤسساتها وثقة العاملين والمستفيدين من خدماتها وضعفها في التواصل مع العالم الخارجي من جهة ومع مواطنيها في الداخل من جهة أخرى، ما نتج عنه الكثير من الأزمات الداخلية والخارجية في مختلف نواحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغير ذلك.

 إذا فان هذه القياسات التاريخية والراهنة تساعدنا على فهم بعض القوى التي ستشكل السياسات الحكومية وتوجهاتها وتطوراتها وأنشطة الحكم في القرن 21، وكما أشار إلى ذلك الاقتصادي شارلي كندلبيرغر في كتابه المركزية ضد التعددية والصادر في العام 1996م بقوله: (إن مسالة الكيفية التي سيتغير بها الخط في اتجاه المركز أو بعيدا عنه ربما تظل غير محلولة لفترات طويلة، وهي فترات ستكون مشحونة بالتوتر).

فإذا كانت الدولة – الأمة قد أصبحت اصغر من أن تطيق التعامل مع المشاكل الكبرى في الحياة واكبر من أن تنهمك في المشاكل الصغرى فقد لا نجد مركزية أو لا مركزية، بل انتشار مشتت لأنشطة إدارة الحكم في اتجاهات كثيرة في الوقت نفسه.

 رغم كل ذلك فلدينا أمل كبير في استثمار المستقبل من خلال تبني نوع جديد من الحكومات والمؤسسات والمنظمات، لا تنظر للمستقبل بعين واحدة أو من خلال زجاج ملون، بل ترى الأشياء بوضوح كما هي بعيدة عن المصانعة والمداهنة والمكابرة ومراكز الأضواء، حكومات رشيقة متجددة ولا مركزية، ثم أنها مرنة وقابلة للتكيف مع المتغيرات والظروف سريعة التعقيد والبيئات التنافسية سريعة التغيير، والأزمات المتزايدة والمتجددة كل لحظة، كما أنها قابلة وسريعة التعلم لتلك الطرق الجديدة والمبتكرة والرائدة عندما تتغير الظروف والأوضاع من حولها.

 هكذا نجد أن المستقبل سيكون لتلك الحكومات والمنظمات والمؤسسات العامة والخاصة التي ستحارب مركزية السلطات والصلاحيات وتعقيد القوانين، وستهدم حالات التسلسل الهرمي والبدانة الرسمية، وستركز على الجودة النوعية، والاقتراب من مواطنيها أو- بمعنى آخر - المستفيدين من خدماتها، وستقدر على التحول من البيروقراطية التقليدية إلى الريادة في الأفكار والتوجهات والاستراتيجيات واختيار القادة المناسبين والمبدعين لحملها والتقدم بها إلى الأمام، وستتخلص من المبادرات العتيقة التي عفا عليها الزمن كما هو حال مؤسساتها والقائمين عليها من المسئولين والإداريين، ومستعدة لان تعمل أكثر بموارد اقل، كل ذلك بهدف المحافظة على مكانتها وثبات بناءها، ومن ثم التنافسية في السوق العالمية.

* رئيس تحرير مجلة السياسي

[email protected]

http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/mohamdalfitisi.htm

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 3/تشرين الثاني/2013 - 29/ذو الحجة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م