أسباب القراءة الخاطئة للأدب الديني

الخطبة الإفتخارية نموذجاً

ياسر الحراق الحسني

 

الأخطاء الشائعة لا تقتصر على المسائل النحوية فقط، بل هناك أيضاً أخطاء شائعة على مستوى الفهم والتصور وقراءة النصوص. توجد نصوص دينية في التراث الإسلامي شاع سوء فهمها خاصة بعد ظهور الحركات الدينية المتطرفة التي تؤله الحرف وتضرب الدلالات المعنوية عرض الحائط.

ومن بين هذه النصوص هناك "الخطبة الإفتخارية" التي تنسب إلى الإمام علي بن أبي طالب والتي غالباً ما يستنكرها المخالف وينكرها المؤالف. انها نص يستحيل تجريده عن القيمة الأدبية التي يحملها. نص يدخل في نادر النصوص التي حملت بطريقة رائعة معاني من ضروريات المدرسة الدينية التي ينتمي إليها ؛ بحيث كلما توهم القارء ابتعاده عنها كلما كان أقرب ليجد نفسه في النهاية أمام لبها فيما يشبه سفرة الشك الذي يتبعه اليقين بعد التفكر والتأمل. الخطبة الإفتخارية حملت ما لم يكن يسمح بحمله من معلومات عقائدية كان عدد من الخلفاء يحاربون نشرها. لكن الصيغة التي جاءت بها الخطبة فرضت نفسها لأنها توحي بالغلو عند الأجنبي عن الإمامية، فينشرها من باب التشنيع. ولعل الأسلوب الافتخاري الذي نسجت به الخطبة كذلك لعب دوراً استقطابياً يثير الفضول، ليجعل منها مدخلاً للتعرف على الإمامية. وأمام كل هذا يبقى إشكال القراءة الخاطئة قائماً نبينه في التفاصيل التالية.

في المقاربة

من المشاكل التي تعيق الفهم الصحيح للخطبة الإفتخارية إتيانها بأفكار مسبقة مستحات من الأقوال الشائعة عن الغلو فيها، أومن العنوان أو نحوه. الأفكار السلبية المسبقة لها دور يتلف لياقات التفكير ويمنع من التأمل ويعجل من إتخاذ الموقف. فمثلاً كل من جرحوا في الخطبة الإفتخارية يقتطعون منها جملاً يقول فيها الإمام علي مثلاً "أنا ولي الحساب" أو "قاسم الجنة والنار"، ويهملون نقل جملة مهمة تكررت أكثر من مرة كافية لقلب المعنى وهي قوله "بأمر ربي". والأفكار السلبية المسبقة تحول دون التأمل في عبارة "بأمر ربي" المحورية والتي تم تكرارها فيما لم يتم تكرار العبارات أخرى، ما يجعل إنكار الكلام الموجود في الخطبة إنكار لشرط تحققه وهو أمر الله. فليس من المنصف في نقد الخطبة الإفتخارية إهمال المتكرر الواضح المعنى والتركيز على المحتوى المرتبط به. وليس من المعقول الحديث عن المشروط وإخفاء الشرط.

المشكل الآخر الذي يعيق فهم هذا النص يكمن في محدودية المعرفة الدينية والأدبية لدى القراء عامة وبعض النقاد خاصةً. فهو ليس بالنص البسيط الذي يمكن قراءته وفهمه فهما صحيحاً دون حد أدنى من المعرفة المناسبة. فالقارئ الذي سبق أن اطلع على نصوص مشابهة في الأدب الصوفي الإسلامي (كما سيتبين لاحقاً) لا يستغرب من أسلوب ومضامين هذه الخطبة. كما أن القارء المستأنس مع نصوص الشعر العربي لا يمكنه الإشكال على الخطبة الإفتخارية. ففي الشعر يمدح الشاعر أحد الملوك فيقول:

ألم تر أنّ اللَّهَ أعطاكَ سورة... تَرى كلَّ ملك دونها يَتذَبذَب

بأنك شمس والملوك كواكب... إذا طلعت لم يبْد منهنّ كوكب

وفي الإفتخارية يقول الإمام علي "أنا مورق الأشجار". الشاعر أبرز دور الشمس في إخفاء النجوم والإمام أبرز دورها في إخراج الورق ليقابل تشبيه الشاعر لملكه بالشمس تشبيه الإمام لنفسه بالشمس. وعليه لا يشكل على قول الإمام من وضعه في سياقه البلاغي.

مقارنة عبر نصية

توجد نصوص دينية في التراث الإسلامي خاصةً في منطقة شمال إفريقيا تتعدى في مضامينها ما ورد في خطبة الإمام علي الإفتخارية. ومع ذلك، لا توجد حملة عليها لكونها غلو أو شرك أو ماشابه، بل على العكس، يتم التعبد بأذكارها في المناسبات الدينية والمواسم وحفلات التأبين وغير ذلك. وقد حظيت بعناية وزارات الأوقاف مثل الأوقاف المغربية والجزائرية حيث يتم طبعها في الكتب، وإعداد برنامج تلفزيونية تمجد بمصادرها، وتخلد شيوخها كبرنامج "التصوف" للأستاذ الخليع على القناة المغربية الثانية. هنا نستعرض نموذجين لمثل هذه النصوص من بين النماذج المشهورة والمعروفة.

1. يقول العلم الصوفي محمد الحراق:

تـقـدَّم لي عـنـد المهـيـمن سـابق... من الفضل واستدعاه حكم المشيئة

فلي عـزة الملك القـديــم لأنـنــي... بـعــزة ربــي في العوالــم عــزتي

ولي مقعد التـنزيه عن كل حادث... ولي حضرة التجـريد عن كل شـركة

جلست بكرسي التـفـرد فاستـوى....من الله عرش لي على ماء قــدرتي

تراني ببطـن الغـيب إذ أنا ظـاهر... وما ثَـمَّ غـيري ظاهر حـين غـيبـتـي

تجليت من لوح البطون ولم يكن... تجـلى مـنـه غـيـر تحـقـيـق حكــمتي

لأني قـبـل الكـون إذ أنـا بـعـده... ولم يـكُ كـونُ غـير تـلوين بهجـتـي

تجليتُ قبلُ باسم لوح القضا كما... تجـليـتُ بعــدُ بـاسـم ناري وجـنـتـي

ترامت بأنــواري المقاديــر إنـني... عـجـيــبٌ بـدت في كـثـرتــي أحـديتي

إذا قارنا ما ورد في هذا النص من عبارات إفتخارية مع ما يشنع ضده في إفتخارية الإمام من عبارات مثل:" أنا ذو القرنين المذكور في الصحف الأول، أنا صاحب خاتم سليمان، أنا صاحب الصراط والموقف، قاسم الجنة والنار بأمر ربي". سنلاحظ أن الحراق يصف نفسه بالقدم (تجليتُ قبلُ باسم لوح القضا) والأزل (تجـليـتُ بعــدُ بـاسـم ناري وجـنـتـي) وتصريف الكون (ترامت بأنــواري المقاديــر). ولا يوجد شرط في هذه الإدعاءات، بل لا يمكن إدخال أي شرط ما دم الأمر يتعلق بالقدم والأزل. ولا يمكن حمل ما قاله الحراق كمشروط الشرط فيه إذن الله أو أمر الله. لأن الله من المنظور الإسلامي لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً ولم يكن له شريك في الملك وهذا يعني أن الله قديم لا شريك له في قدمه وما عداه حادث. لكن مع كل هذا إجتهد المجتهدون لحمل مثل هذا النص على التأويل مع العلم أن الحراق لم يأت في فضائله حديث أو آية. وفي المقابل تستهدف الخطبة من الأدب الديني الرفيع المنسوبة للإمام علي - بغض النظر عن صحة النسبة- بما للإمام علي من فضائل في القرآن والحديث، وبما في خطبته من إشارة واضحة إلى أن كل المفاخر هي بأمر الله. ناهيك عن حق هذه الخطبة في نصيبها من التأويل.

2- يقول الشيخ عبد القادر الجيلاني

وأَعْلَم نَبْتَ الأَرض كَم هونَبْتَة... وأَعلَم رمل الأرضِ عَدّاً لرملَة

وأَعلَم علْمَ الله أُحْصي حروفَه... وأَعلَم مَوج الْبحر عدَّا لمَوْجَة

 (..)

أَنَا كنْت مَعْ نوْح أشَاهد في الْورى... بحَاراً وطوقَاناً عَلَى كَفِّ قدرتي

وكنتُ وإِبراهِيمَ ملقىً بناره... وما برَّدَ النِّيران إِلاَّ بدعوتِي

وكنتُ مَعَ اسْمعِيلَ في الذَّبحِ شاهدَاً... وما أَنْزل المذْبوح إِلاَّ بفتيتي

وكنتُ مع يعقوبَ فِي غَشو عيْنه... وَما بَرِئَت عَينَاهُ إِلاَّ بِتفْلَتي

وكنتُ مَعَ إِدْرِيسَ لَمَّا ارتَقَى الْعُلا... وَأسكنَ في الْفردَوس أَحسَنَ جَنَّة

وكنتُ وَمُوسى في مُنَاجَاةِ ربِّه... ومُوسَى عصاه مِن عصايَ اسْتمَدّت

وكنتُ مَعَ أيِّوبَ في زمَنِ الْبلا... وما برِئَت بلْواه إلاَّ بدعوتي

وكنتُ مَعَ عِيسى وَفِي الْمهد ناطقَاً... وَأَعطَيت دَاوداً حَلاَوةَ نغمتِي

ولِي نَشَأَةَ في الْحبِّ مِنْ قَبْلِ آدم... وَسِرِّي سَرَى فِي الْكَوْنِ مِنْ قَبْلِ نَشْأَتي

أَنَا الذَّاكر المَذْكُور ذكْراً لذَاكرٍ... أَنَا الشاكر المشْكور شكراً بِنعْمَتي

فمن خلال نص الجيلاني تجد أنه ينسب لنسفه علم الله المطلق (وأَعلَم علْمَ الله أُحْصي حروفَه)، فإذا ما قارنا قوله في العلم بقول الإمام علي " أنا عندي مفاتيح الغيب لا يعلمها بعد رسول الله إلا أنا"، فإننا نرى كيف أن عليا يتحدث عن نفسه كتابع للنبي محمد من جهة. ومن جهة أخرى هو يتحدث عن مفاتيح الغيب وليس مطلق الغيب ناهيك عن مطلق علم الله كما في نص الجيلاني الذي يقول إنه يعلم علم الله. فعلم الله مطلق، ومفاتيح الغيب طرق تؤدي إلى التماسه.

وينسب الجيلاني لنفسه النورانية بمعنى التواجد النوري قبل نشأته الجسمانية. فوجوده كما عبر عنه كان فيضا على الأنبياء أنفسهم حيث لعب أدواراً اعجازية منها إستمد الأنبياء معجزاتهم كما في: ( وكنتُ وَمُوسى في مُنَاجَاةِ ربِّه... ومُوسَى عصاه مِن عصايَ اسْتمَدّت)، وكذلك في: (وكنتُ مع يعقوبَ فِي غَشو عيْنه... وَما بَرِئَت عَينَاهُ إِلاَّ بِتفْلَتي) وغيرها من النماذج في نصه. وهذا إذا ماقارناه بأقوال ذات سياق متصل من الخطبة الإفتخارية مثل "أنا نور الأنوار، أنا حامل العرش مع الأبرار"، و"أنا الناطق على لسان عيسى في المهد" فإننا نستنتج أن كلام الجيلاني فيه تفوق واضح على الأنبياء الذين يعود تحقيق معجزاتهم لفضله وافضليته كواحد على المستوى النوراني، في حين أن كلام الإمام علي واضح في التعبير عن نفسه كنور من الأنوار أفضلها محمد (كما في أول جملة في الخطبة الافتخارية في قول ".. بعد رسول الله"). فهو مع الأنوار ومع الأبرار في حمل العرش الذي يغلب تفسيره بالعلم عند الإمامية. وما دام حمل العلم الإلاهي حمل للحقيقة فإن هذا يعتبر مقدمة لفهم قوله أنه الناطق على لسان عيسى في المهد. في النهاية، الحق هو ما نطق على لسان عيسى، وما دام علي يمثل الحق، فإنه من البلاغة القول أن عليا نطق على لسان عيسى في المهد. إنه من غير الإنصاف بأي حال من الأحوال التبرير لقراءة نص خطبة الإمام علي الشائعة عند الخاص والعام، المثقف وغير المثقف، الهاوي والخبير على أنها مجرد عبارات كفرية. هذا في وقت تضرب لقصيدة الجيلاني وقصيدة الحراق الشروح والتأويلات.

في الختام

 يمكن أن نستشف كون إنتشار القراءات الخاطئة لنصوص الأدب الديني يرجع إلى وجود أحكام مسبقة لدى القارء في شكل أفكار لا تحجب فقط المعنى الحقيقي للنص، بل تحجب إيضاً الحرف بحيث يتم التعاطي مع مقاطع دون أخرى قد تكون مقاطع مركزية. وهذا ما يجعل القارء يتعامل مع الهامش تاركاً المحور ومع المشروط تاركاً الشرط ونحوه. ولتجنب هذا يجب الأخذ بعين الإعتبار كل كبيرة وصغيرة من الشكل من أجل التوفيق في فهم المضمون بطريقة صحيحة. كما أن تناول النصوص الأدبية الدينية يتطلب الحد الأدنى من المعرفة الدينية التي توفر للقارء مساحة للمقارنة وكذلك فهما لمختلف السياقات والمعاني التي قد يحملها النص. كما أن الإلمام بأدب لغة النص بصفة عامة يساعد على فهم المقاطع البلاغية.

http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/yasiralharaak.htm

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 30/تشرين الاول/2013 - 25/ذو الحجة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م