معالم صوابية التنبؤ العلمي المستقبلي

في رؤى ومباحث المفكر المجدد

موقع الإمام الشيرازي

 

يقارب المفكر المجدد، السيد محمد بن المهدي، الحسيني الشيرازي، بحوثه التأريخية والإجتماعية، التي تلامس المتبنيات النظرية والفكرية "الآيديولوجية"، وفق رؤية تحليلية نقدية، تستنبط الحكم على الواقعة والحدث، وتقيّم الفاعلين فيها، وذلك بهدف إستحضار النظرة المسقبلية، وإستشراف المستقبل فيها، فينظر الى هذه الدراسات، في منهجها وغايتها، أنها تعتمد أدوات المنهج والمنطق، خاصة الإستقراء لدالّته التحليلية المستقبلية، إضافة الى التمثيل والقياس المنطقي، كالعلوم الإخرى، وذلك لوحدة الجامع في العلوم، فالإستقراء هو تتبع للجزئيات، والأمور المتشابهة، ليستفاد منها الكلي العام، إنتهاءا الى مخرجات البحث.

فالمنهج البحثي الإستقرائي، في الدراسة التأريخية والمستقبلية، يتبع جمع الوقائع "الجزئيات"، والوصول فيها الى "الكليات"، غير أن الإستقراء التام، هو ما يعبّر عنه بالمنهج "الإمبريقي" أو الوصفي التجريبي الحسّي الشامل، ينتج حجة قطعية، بينما ينتج الإستقراء الناقص، وهو ما يتماهى والمنهج التجريبي، حجة ظنّية، ترتقي الى القطع في حالة كونه إستقراءا معللا، أو مشفوعا بما يعبر عنه بسد الذرائع، أو حتى على نحو القياس.

وتتبع الدراسات المستقبلية عادة، منهجا بحثيا، يعتمد تقنين العلوم، بمعنى وضع العلم في إطار القانون، وفق الصورة "الإبستيمولوجية"، أو ما يعرف بفلسفة العلم، أو "علم العلم"، التي إعتمدها الغرب أساسا، من "كليات" إبن رشد، وخاصة المفكر "هيوم"، الذي يعدّ الفاتح للمنهج التجريبي العلمي، بينما يثبت التراث العربي الإسلامي، أن العلامة الحلي، كان متقدما في مناهجه البحثية، في رؤيته للعلم التجريبي، إبتناءا الى النصوص النقلية، فضلا عن فطرة الإنسان.

وينظر المفكر المجدد، في مقدماته المنهجية، وفق قوانين فلسفة التأريخ، الى تشابه العلوم الطبيعية والإنسانية، من جهة غاية العلم في تسخيره لمصلحة الإنسان، فهي تهدف الى تزويده بأحكام عامة، تمكنه من فهم معنى الأحداث الحاضرة، ثم إستشراف المستقبلية منها، والتنبؤ العلمي بها، في ضوء الخبرة بالماضي.

وقد تفصّل سماحته في هذه الجزئية، في كتابه "فقه المستقبل"، من موسوعة الفقه، في تبيانه مفهوم وماهية الدراسات المستقبلية، إذ أن مسارات الماضي والحاضر والمستقبل، تجري كلها بروح عامة، وفي ذلك يفسّر الرؤية الأرسطوية لفردية وقائع التأريخ، أنها لا ترتقي الى نقض كلّيات فلسفة التأريخ وقوانينه، لكنها يجب أن تكون بشرائطها.

وعليه فعند التعبير العام عن الحضارة، بالمعنى الواسع لها، يمكن أن تكون لمفردات كل من الحقول والمرتكزات الإستراتيجية أو القيمية فيها، روح عامة، تسري في تلك الجهة أو الجهات كلها مجتمعة، لتكوّن البناء الحضاري، وفقا لمعناه الواسع، إما حقيقة أو توسعا أو مجازا، فالتحليل التأريخي، ليس له حدود معينة في أذهان الجميع، عكس التحليل الحسابي والهندسي، وفي النتيجة أن الحضارات حالها حال الكائنات الأخرى، فيها ميلاد وشباب وشيخوخة وفناء، لكنه فناء الكيفية وليس الفناء المطلق.

إن صياغة المادة التأريخية، بشكل علمي، يتجاوز حدود الوصف والسرد، الى التعليل والسببية، من خلال العلة والسبب، والمسبب والمعلول، سيصل بالتحليل التأريخي، الى الأحكام الكلية الجارية في السابق والحاضر والمستقبل، وبذلك يمكن أن يتنبأ بالمستقبل تنبؤا علميا.

ويستدرك المفكر المجدد في هذه الجزئية، أن منطق التفسير في الأمور الطبيعية، أو في غير الطبيعية، هو واحد في جوهره، فالتنبؤ يكون قائما على قوانين عامة، لا غنى عنها لمن يريد تحليل الماضي، لكنها لا ترتقي الى الحتمية والقطعية، كتأثير التدخلات غير المعلومة، فقد يكون الإمكان قوياً، وقد يكون الإحتمال قوياً، وقد يكون الإمكان أو الإحتمال ضعيفا، بدرجات الضعف المتفاوتة، بين القطع ونقيضه.

وقد تعزى هذه المقاربة، الى أن التفسير في العلوم الطبيعية، لا يقبل التقريب والإفتراض، بينما في المعارف الإنسانية، يقبل ذلك، وهو جوهر الفرق بين منهج المنطق العقلي، والمنهج التجربيبي الإستقرائي، فالأول يقبل إحتمالية كبيرة في الخطأ، في حين لا يقبلها الثاني.

والمعنى أن اعتماد المنهج التجريبي في الدراسات المستقبلية، يخلص الى إحتمالات ضعيفة في عملية التنبؤ العلمي المستقبلي، في حين أنها تخلص الى إحتملات كبيرة في البحوث الطبيعية، فيرى الفقيه المجدد، أن "إرادة الله تعالى، لا تدع شيئا إلّا وتتدخل فيه، زيادة ونقيصة وإفناءا وإيجادا"، لذا يبقى المجال للإمكان والإحتمال، قويان كانا، أو بدرجات من الضعف.

فالبحث العلمي، لابد أن يكون مجردا وموضوعيا ورصينا، ليفضي الى مخرجات صحيحة، وتنبؤات علمية صائبة، بمعنى أن المعطيات الموضوعية، لها نتائج واقعية وصحيحة، في تفسير الوقائع، وهو ما يعبر عنه المفكر المجدد، بمعرفة الأسباب والمسببات، وإستكشاف العلل والمعلولات، التي تفضي اليها معرفة فلسفة التأريخ، وبالتالي الى إستشراف المستقبل.

يجمل المفكر المجدد رؤياه، بأن عملية إستقراء المستقبل، وفق قواعد فلسفة التأريخ، تحتاج الى حشر مفردات الموضوعات المختلفة، حتى يحصل الإستقراء التام، أو الإستقراء الناقص المفيد والمعلل، مما يمكن تنسيق القياس المنطقي فيها، من قضيتين، صغرى وكبرى، فهو منهج تجريبي استقرائي وحدسي، "أو إمبريقي"، ثم يستكمل بمنهج تحليلي عقلي، ويدعمه المنهج النقلي، لإعتماده الى المصادر المكتوبة والوثائق والمستندات، والآثار والحفريات، والنتيجة تكون ظنّا، لكنه يفيد علما.

فالتفسير في فلسفة التأريخ، يكون منسجما واستخدام العصر للمصطلحات والمفاهيم، فيجري بذلك عزل الموضوع، كما هو عزل الظاهرة عن الزمان والمكان، في الدراسة الإجتماعية، لغرض الوصول الى الأحكام الكلية، التي في مِكنتها الوصول الى التنبوء العلمي المعقول.

ومن جهة أخرى فان هذه الدراسات، تتصل بالحاضر والمستقبل، فهي تستلزم أن يصل الباحث فيها، الى مستوى الوعي والقلق، التي تتحقق عن حالة التداعي والتدهور الحضاري، لتثير فيه القلق نحو المستقبل، فيسعى الى التفكير والتدبّر في الماضي، لإستقراء الحاضر والمستقبل من مفرداته، غير أنه ليس منهجا عقليا صرفا، الذي هو عادة ظنّيا لا قطعيا، كونه يقوم على الإستقراء الناقص، كما هي الفلسفة، التي تعتمد على أراء عقلية مجردة، في استشراف المستقبل، أما فلسفة التأريخ، فتعتمد الإستقراء التام أو المعلل.

وهنا يظهر الإختلاف، بين علة التأريخ، والعلة في فلسفة التأريخ، فقد يثبت المؤرخ للواقعة الواحدة، مجموعة من الأسباب والعلل، أما في فلسفة التأريخ، فهنالك إدعاء يعد علة، ولأن العلة الواحدة لا تصلح لجميع وقائع التأريخ، فتحاول فلسفة التأريخ، سد الثغرات بالتعاقب، فثغرة تتعلق بالماضي وأخرى بالمستقبل، وفي إستبيان الروح العامة لوقائع الماضي، فإن بالمقدور حينئذ التعميم للمستقبل، والتنبؤ العلمي به.

ويعبر المجدد عن ذلك، بأن التأريخ يعيد نفسه، بروحه العامة، وإن التأريخ القريب غير التأريخ السابق، وذلك بمفرداته، ويعني بذلك مقولة أن "التأريخ هو ارتداد مستقبلي"، وهو يرجع الى فاعله، قريبا أو بعيدا أو مستقبلا، إن خيرا أو شرا، كمثل الشجرة، التي قد تعطي ثمارها سريعا، أو بعد حين.

وللبحث في النماذج التأريخية، لحالات التنبؤ المستقبلي غير الموضوعي، والتي تركت أثراً كبيرا في الفكر الإنساني، يستدعي المفكر المجدد، النظرية الماركسية في التغيير المادي للتأريخ، مبينا أن "كارل ماركس"، قد جمع أدلة لا ترتقي حتى الى مستوى الإستحسانات، فكانت نظريته المادية، لا تمثل دراسة موضوعية وعقلية برهانية، للنظرة الإجتماعية وتطورها خلال عصور التأريخ، في التعرف على أسباب قيام الأنظمة، وعوامل إنحلالها، وإنما وفق نظرياته "الخيالية"، التي دارت حول تحليل رأس المال في الحاضر، والتنبؤ بالشيوعية في المستقبل، فكان يفتقد الدليل والمنطق.

وفي ضوء هذين الأمرين، الحاضر والمستقبل، يرى المفكر المجدد، أن "ماركس" لم يكم مصيباّ في تفسيره للماضي، ضمن تحولاته التأريخية، منذ أقدم عصوره، بدءا في المجتمعات البدائية، ثم الزراعية ثم الرقية ثم الرأسمالية، ثم وصولا الى الشيوعية، فكانت مخرجات نظريته، غير واقعية أو موضوعية، ولم تحض بنجاح في التطبيق.

وعليه فإن الدراسة غير الموضوعية، لمجتمع البحث، فضلا عن المقدمات غير السليمة، هي بالتأكيد ستخلص الى نتائج غير سليمة، وبالتالي الى تنبؤات غير حقيقية، وبعيدة عن الواقع.

وفي المقابل فقد كتب الباحث المجدد كتبا كثيرة، طعن فيها في النظرية الماركسية ومعطياتها، فكان التنبؤ الموضوعي والمنطقي، الذي خلص اليه سماحته، هو في حتمية سقوط هذه النظرية، قبل أن تصل الى تصوراتها، في بلوغ الشيوعية، وقد كان تنبؤ الأستاذ المجدد في محله، والذي أثبته في كتابه الموسوم "ماركس ينهزم"، قبل الحدث بعقد من الزمن.

كما إن كتابه "الغرب يتغير"، قد اشتمل على تنبؤات موضوعية رصينة، لمجمل التطورات المستقبلية، التي تعصف في الحاضر، بدول المجموعة الغربية، وخاصة في مجالات الإقتصاد والإجتماع، والتي كانت سببا لدعوته الجريئة، الى أن "نمنع الغرب من السقوط"، لتحفظ الإنسانية بذلك، حضارتها المادية، وكذا منظومتها القيمية، التي تمثلها قيم الإسلام.

فقراءة سماحته، تفصح بأن الديمقراطيات الغربية باقية، لكنها تتغير الى الأصلح، بما يقترب الى الإسلام وقيمه، عندما تتحرر من سطوة رأس المال، وإفساد قوة العمل، أما الشيوعية ومنظومتها، فهي الى زوال، لكونها تسلب الحريات بالكامل.

وفي منظور بحثي مستقبلي أخر، فإن الكثير من النصوص المثبتة في تراث المفكر المجدد، تبين مقاربته المستقبلية، في استشراف الحتمية التأريخية، في سقوط الأنظمة القمعية والإستبدادية، وفي رؤيته لحتمية إنتصار الديمقراطية، أو "الإستشارية" في المفردة الإسلامية، وهذه القراءة قد تجلت مصداقيتها، في هبوب رياح الربيع العربي، من تونس الى اليمن، والتغير "الدراماتيكي" في النظام السياسي العربي، في استجابة لحتمية تأريخية.

فهذه المنطقة، وتحديدا دول الوطن العربي، هي تقريبا الوحيدة في العالم، التي تأخرت استجابتها للتحولات السياسية، والتي كان من المتوقع أن تشرع فيها، بعد دول المنظومة الإشتراكية الشيوعية، في أوروبا الشرقية مباشرة، قبل عقدين من الزمن، وبالنتيجة، فالتحولات السياسية دائما ليست باليسيرة، إذ لا زال هذا الربيع منكفئا، تحت موجات الشتاء القارص.

ويؤكد المفكر المجدد، في رؤيته المستقبلية، أن الغلبة أخيرا، ستكون لمن ينتهج نهجا سليما في الديمقراطية، وإن كان الإستبداد يجول في الساحة، فان "للحق دولة وللباطل جولة"، وذلك مستمدا من التجارب التأريخية، حيث انهيار الإستبداد وانتصار الديمقراطية "الإستشارية"، كما في حكومتي "أثينا وأسبارطة" في اليونان القديمة، والتي أثمرت عن ولادة دولة ديمقراطية، تنعم بالتقدم في العلوم والمعارف، وتفتّق المواهب الإنسانية، في الفكر والفلسفة والحكمة.

ويؤكد سماحته هذه الجزئية، في حتمية "تحطم الحكومات الديكتاتورية، لتحل محلها الحكومات الإستشارية ولو بقدر، كما في اوربا الشرقية والإتحاد السوفيتي السابق"، فيخلص أن الديمقراطية "الإستشارية"، بمنزلة الروح من الجسد للحكم، وقد سبقهم الغرب في ذلك، في اعتبارها دواءا لأمراض الإستبداد والتسلط والقمع، والفساد المالي والإجتماعي والديني والسياسي، وهو الخيار الأمثل للتخلص من التخلف في نظم الإستبداد، الديني أو الدينيوي، في العالم الثالث.

لكن المجدد يحمل هذه الفكرة، بعقلية موضوعية، ورؤية واقعية، وليست غيبية أو رومانسية حالمة، فيرى أن المفكر في حدود خاصة، يتمكن من التنبوء المستقبلي الصائب، مع الإعتراف بشمول أصل العلّية لكل العالم سببا ومسببا، ولكن بوجوب توفر جميع أجزاء علّته، إذ لا يمكن القول بإمكانية التنبؤ اليقيني لمستقبل الأمم، حتى مع الإلمام الكامل بالقوانين الإجتماعية والتأريخية، لوجود التدخلات الخارجية فيها، غير المعلومة للإنسان، بعكس الجبرية في العلوم الطبيعية والفيزياوية، وهذه هي العلّة في المقارنة، بين الحتمية التأريخية والقوانين الطبيعية.

فمن إشتراطات الإستقراء المعلل، في دراسة التنبوء الموضوعي المستقبلي، هو النظر في الخصوصيات، كالتحولات التأريخية التي تطرأ على الشعوب، في فكرها ومعتقداتها وثقافاتها، بمعنى أن الدراسة الفلسفية التأريخية، ومخرجاتها في الدراسات المستقبلية، تشترك فيها مدخلات ومقاربات لمعطيات علمية أخرى، كالدراسات الأنثروبولوجية anthropology، والتي يطلق عليها بالأناسة أو علم دراسة الإنسان، وكذا الدراسات الإجتماعية والسياسية، والطبيعية والجغرافية والسكانية "الديموغرافية"، والآثارية وبضمنها القراءة المعمقة الحفرية "الأركيولوجية"، وبعكسه يكون التحليل ومخرجاته، خلاف الواقع سابقا، وخلاف المتوقع مستقبلا.

فالنتاجات الفكرية للأستاذ المجدد، في مجالات التنبؤ العلمي الموضوعي، والدراسة المستقبلية، تعد من الجهود البحثية الرصينة، في تراثه الفكري الثري، الجديرة بالدراسة والإستقصاء.

http://alshirazi.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 30/تشرين الاول/2013 - 25/ذو الحجة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م