في العصبية الحزبية

قاسم بن علي الوزير

 

ليست العصبية القبلية هي الآفة الوحيدة التي يجب التخلص منها، إنما هي العصبية بإطلاق ؛ لأنها داء مرذول وبيئ ليس له من وصف أبلغ من قوله صلى الله عليه واله : (دعوها فإنها منتنة).

إن تعصب القبيلة لأعرافها يفضي إلى إعلاء هذه الأعراف فوق الشريعة أو القانون. وذلك يفتح باب الفتن على مصراعيه ؛ فتنشأ الحروب بين القبائل المختلفة، وفي صفوف القبيلة الواحدة ذاتها وتستيقظ الثارات المندثرة لتجر إلى حروب وثارات جديدة تسفك فيها الدماء، وتقطع الأرحام، وتمزق الوشائج الاجتماعية، وحينئذ يتوارى مجتمع الأمة وتقوم تجمعات القبيلة التي تؤدي بعصبياتها المختلفة إلى مزيد من التمزق والاحتراب.

 إن عضلات القبيلة تحل محل قوة القانون وسلطان الشريعة فيتقوى المبطلون على باطلهم بشراء قوة شيخ أو سلطة نافذ كما يحدث الان في واقع الحال. ومن نافلة القول إن ذلك يزيد من ضعف الدولة وغيبة العدالة، فتضيع الحقوق وتنتهك الحرمات وتسود الفوضى، وينشأ من ثم صراع جديد تلعب فيه النقمة على القبيلة دور الموجه، فتدفع الثمن غير رخيص.

ولكن ليست هذه هي الصورة الوحيدة للعصبية، وإن كانت - لدى التحقيق - الصورة المعادة لأثارها حين يكون منشأ العصبية شيئا أخر كالحزبية مثلا.

إن الحزب - باعتباره تنظيما أو تجمعا لمجموعة من الناس ذوي رؤية واحدة أو مصلحة وأهداف مشتركة – هو ظاهرة سياسية من ظواهر المجتمع المدني الحديث الصحيح والمعافى، بل مكون من مكوناته السياسية الوطيدة الأركان، وحين يكون متعددا فإن كل حزب يعبر عن رؤية وأهداف قطاع معين أو مصلحته، ولكنها جميعاً تسلم بسيادة ذات القانون عليها، وتخضع له، وتؤمن عمليا بالتبادل السلمي للسلطة على أساسه.

فإذا احتكر حزب واحد السلطة فإن العصبية الحزبية تصبح أشد خطرا وأكبر ضررا وأسوأ عاقبة من كل عصبية قبلية أو غير قبلية، إن أول الضحايا لذلك تكون هي الحرية إذ يصبح الحزب فوق القانون، ويغدو القانون أداة لخدمة الحزب، وتمسي السلطة بيد الحزب للحفاظ على سيادته على القانون وعلى الشعب معا إن الخطورة البالغة تكمن في أن الأداة الجهنمية للدولة الحديثة بكل تقنياتها تصبح - بمنجاة من أي قانون أو مؤسسات كابحة لطغيانها - أداة إخضاع لا إقناع في يد الحزب. وهكذا تنتهي المساواة والعدالة بعد الحرية، وتنسحق حقوق الإنسان كافة. إن الإنسان قد يطعم، ولكن كما يطعم الحيوان من أجل أن يدور بنيره أو تحت نيره على " معصرة " الدولة التي تعصر الشعب لمصلحة الحزب الذي يختزل عادة في قيادة تختزل بدورها في شخص واحد.

وتلك واحدة من أبشع صور العصبية الحزبية وأثارها ولكنها ليست كل صورها.

فمن صورها كذلك العصبية المقيتة للحزب في مجتمع متعدد الأحزاب، وذلك حين يخرج الحزب كليا من الإطار العام لمصلحة المجموع التي تحددها القواسم المشتركة التي تضبط حركة المجتمع وترسم حدوده، ويصبح الحزب في نظر نفسه هو المجتمع، فتغدو مصلحته الحزبية هي وحدها المشروعة، ومن ثم مقدمة على كل مصلحة أخرى حتى مصالح جماهير الحزب التي يعبر عنها نفسها. إنها حالة من التقديس المبهم التي تدفع بأصحابها إلى إسقاط المعايير وتزييف المواقف والأهداف فيما يشبه الهوس دفاعاً عن الحزب في مفهومه الهلامي أو تعصبا له.

في هذه الحال كثيرا ما يغدو عضو الحزب في نظر حزبه معصوما من الخطأ طالما هو لم يسئ إلى حزبه أيا كانت إساءته إلى الغير أو إلى القيم الأخلاقية، أو حتى خروجه على القانون، إنه دائما في حمى الحزب، يدافع عنه ويحميه ويتستر عليه. ولن يعوز أحد الإتيان بأمثلة لا تحصى على ذلك.

وإذ ما خول حزب لنفسه حق احتكار الحقيقة واحتكار مصلحة الشعب أو امتلاك الوسيلة الوحيدة للتحدث باسمها أو تطبيقها فقد وقع في حمأة العصبية وغرق في مستنقعاتها إلى أذنيه، أراد ذلك أم لم يرد.

إنه يخوض معاركه منفصلة عن الجامع المشترك الذي ﻻ بد منه لكل مجتمع، منطلقا فقط من ذاته، ومتجها فقط إليها، وهو إذ يقبل الوجود في مربع التعددية فلأنه غير قادر على الانفراد، وإذ يقبل بالتبادل السلمي للسلطة فلأنه لا يملكها، وهو لن يقربه لو وصل إليها...

وهكذا حين تتعدد أحزاب من هذا النوع أو على هذا النحو - وكثيرا ما يحدث - فإن المجتمع المدني يتمزق. إن تلك العصبية تمزقه شذر مذر لأنها تتوزعه فكرا، وتتناهبه قوى، وتفرقه شيعا وأحزابا... كل حزب بما لديه فرح. وبذلك ينتفي جوهر التعددية نفسها و ﻻيبقى غير الإدعاء بها إدعاءا ظاهر البطلان، لأن المجتمع يدخل في مرحلة صراع على مصالح الأحزاب التي تتخذ شكل القبيلة الجديدة والتي تغيب فيها مصلحة المجتمع الموحدة وقواسمه التي تجمع قواه على أمر جامع يحقق وحدته وسلامه.

إن البنية السليمة للتعددية إنما تقوم على أساس صحة بنية المجتمع وسلامتها. فإن وجود تعددية حزبية معافاة رهن بوجود مجتمع معافى من الأمراض التي تجعل من كل فئة فيه فصيلا مضادا للآخر، فالتعددية إفراز للتوازن في قوى المجتمع من حيث هي تعبير عن هذه القوى : تعبير محدد بشروط ذلك التوازن ومتحرك ضمن حدوده.

من هنا ﻻ تجد " العصبية " مكانا لها، لأنها بحد ذاتها تعبير عن خلل في طبيعة أي مجتمع تذر قرنها فيه، وحين تكون التعددية تعبيرا عن صراع بين قواها، صراع غير مضبوط بجامع مشترك يربط أطراف المجتمع ويحول دون انفراطه، فإنها تكون تعددية مريضة تعبر عن عصبيات متقابلة... ليس لها من محددات اﻻ القدرة أو العجز، إذا ما قدر لواحد منها الغلبة عصف بالبقية وأخضعها لضروب من العنت والجور والاضطهاد.

هناك إذن قواسم مشتركة... تلتقي عندها قوى المجتمع كلها.

وهناك أيضاً مصالح عامة تفرضها وتجمعها تلك القواسم المشتركة

ثم هنالك مصالح مختلفة لقوى المجتمع، تتشكل على أساسها الأحزاب والتنظيمات المختلفة من نقابات واتحادات ونحوها.. في إطار تلك القواسم المشتركة والمصالح العامة التي تتحقق بها مصالح جميع القوى والأطراف.

على هذا الأساس تكون التعددية الحزبية جزءاً من الحركة العامة للمجتمع في الاتجاه الصحيح، أما إذا قامت التعددية على العكس من ذلك الأساس فإنها تصبح تجمعات مختلفة يصارع بعضها بعضاً، ومن ثم تكون معيقة لحركة التاريخ و متجهة بالمجتمع الاتجاه المضاد لوجهته الصحيحة في أقل ما يمكن أن يوصف به. إن ذلك يجعل ضررها أكبر من نفعها، بل يجعلها ضرراً لا نفع فيه.

هذا، وإذ كانت الديمقراطية قد أفرزت بطبيعتها التعددية الحزبية، وإذا كانت هذه التعددية قد غدت من السمات الملازمة للديمقراطية فإن من الأهمية بمكان أن نستصحب دائما هذا العلاقة القائمة على جوهر الديمقراطية أساسا، أي على قيم الديمقراطية وعلاقاتها المختلفة، إن كل تعددية حزبية لا تمثل القيم ولا تنطلق أساسا منها هي تعددية دخيلة على الديمقراطية وتؤدي دورا مضادا للديمقراطية بما تقوم به من تزييف لحقائقها وإلغاء لمقوماتها واستخدام لمسمياتها تغطية على تشوهات مختلفة عرقية أو طائفية أو قبليه ﻻ علاقة لها بطبيعة التعددية السياسية وﻻ بروحها.

 وهي ضرب من العصبية القبلية أو القروية أو العائلية أو الطائفية أو ما أشبه تغتصب ثوب التعددية الحزبية الذي لم يفصل عليها وﻻ يصلح لها وتحشر نفسها فيه اغتصابا فجا، ثم تمشي في الأرض مرحا، تختال بفضائحها التي ﻻ يزيدها ذلك الثوب المغتصب إلا عريا.

إن الأحزاب ظاهرة صحية في مجتمع معافى. وهي تقوم على أسس واضحة، من فكرة واضحة، وبرامج محددة على أساسها، أو مشروع حقيقي يحل مشكلات الحاضر أو يكيف المستقبل.

وعلى هذا فإن هذه الأحزاب إذا توخت أو حين تتوخى مصالح الفئات التي تمثلها من المجتمع فإنها تعمل ذلك في إطار المصلحة العامة التي تتفرع منها تلك المصالح. ومتى غادرت هذا الحد فإنها تقع بالضرورة في بؤرة مصالحها الضيقة وحدها، متصادمة في ذلك مع المصلحة العامة التي تشكل الإطار الجامع، وذلك يحولها إلى تجمع ضيق محدود مبتور الصلات بغيره، فلا جرم يحور أمره إلى " عصبية" تدفع به إلى دوامة الصراع بين " عصبيات " لتجمعات " متناحرة على مصالح متناقضة ﻻ تضبطها مصلحة جامعة تحل ذلك التناقض بما ثمثله من نقطة لقاء على أمر جامع أو إطار عام.

تلك هي آفة العصبية حين تحل محل الفكرة الحزبية أو المبدأ الحزبي الذي يعتبر الحزب مؤسسة من مؤسسات المجتمع السياسي المدني معنية أولا بهذا المجتمع وفي إطاره بمصالح من تمثله.

ولا يقف خطر العصبية الحزبية عند هذه الحدود، بل تتجاوزها إلى تخريب العقل الجمعي أو العام بإفساد المنطق، وتمزيق شبكة العلاقات الاجتماعية بتزييف الثقافة، ومصادرة الوعي بتشويه التاريخ وتزويره ؛ وذلك بما تتبادله بينها من تهم، وبما تتقاذفه من ضروب الافتراء وأفانين الكذب في حمى الصراع السياسي الأناني الذي يستباح فيه ما لا يباح.. حتى كرامة الموتى.

فإذا كانت الدماء لا تجري في هذه الحلبة من أول وهلة فإن الأخلاق تلفظ أنفاسها، وتلك مأساة فظيعة، لأنها تورث المجتمع عللا شتى لا يكون الصراع الدموي – في النهاية – إلا واحدا منها، بعد أن يكون الخلل قد أصاب جميع القيم، ومزق الشبكة الاجتماعية التي لا تقوم بدونها علاقات داخل المجتمع.

إلى هذا كله، فغالبا ما أعطى ذلك الفرصة للعبث الخارجي لتقويض مصالح الأمة وتخريب مستقبلها ونهب مواردها وإلحاقها بمجرة التبعية والهيمنة، وأتاح المجال للمؤسسة العسكرية للانقضاض على الحكم تنفيذا لذلك.

 لقد قلت غالبا، ولكن ما أحسبني مخطئا إذا صححت ذلك فقلت مطلقا " دعوها فإنها منتنة ".

وهذا هو بعض نتنها حين تنطلق من عقال المبدأ والمنطق والأخلاق، وتنفلت من الالتزام بمقتضيات العيش المشترك على أرض مشتركة تتساوى حقوق كل من عليها وتتكافأ فرصهم وأقدارهم، ولذلك قال صلوات الله وسلامه عليه وعلى أله  :

 (ليس منا من دعا إلى عصبية).

........................................

* (مقال "في العصبية الحزبية" هو واحد من ثلاثة مقالات للكاتب والشاعر اليمني قاسم الوزير: في العصبية الدينية، في العصبية القبلية، وفي العصبية الحزبية. وهذه المقالات تعاملت مع مسائل يعاني منها المجتمع اليمني لكنها تنطبق أيضاً على عموم المجتمعات العربية.)

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 27/تشرين الاول/2013 - 22/ذو الحجة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م