ما تفسير إفراط السعودية في التعبير عن ضيقها؟

فريدريك ويري

 

تبدو هذه أوقاتاً مثيرة للقلق وملتبسة بالنسبة إلى الدبلوماسية السعودية. فقد قذفت سلسلة من الاضطرابات الإقليمية والاحتكاك مع الولايات المتحدة سفينة المملكة إلى مياه مضطربة ومجهولة. وأثار دعم واشنطن للحكومة الإسلامية في مصر وردّها على استخدام الأسلحة الكيماوية في سورية غضباً واتهامات للولايات المتحدة بانعدام الثقة وحتى بالخيانة من جانب الرياض. ومن ثم جاء الدفء الطفيف في العلاقات الأميركية - الإيرانية، والذي كان من أبرز ملامحه المكالمة الهاتفية غير المسبوقة بين الرئيس الأميركي باراك أوباما والرئيس الإيراني حسن روحاني. إذ أعاد ذلك التقارب المعتدل إلى الواجهة الشبح القديم المتمثّل في أن حصول تقدُّم مفاجئ في العلاقات الأميركية – الإيرانية، قد يعمل على تهميش دول الخليج ويضعف موقفها الثابت كطرف مستفيد من العداء الأميركي - الإيراني.

في صفحات الرأي في الصحف السعودية، ردّد كتاب الأعمدة موضوعات مألوفة بمستويات جديدة من الحدّة قائلين إنه يتم استبعاد منطقة الخليج من المفاوضات الإقليمية. إذ تمَّ خداع الولايات المتحدة بشأن سورية وإيران. ولذا فإن منطقة الخليج في حاجة إلى اعتماد مقاربة أحادية لحماية مصالحها الخاصة، ويتعيّن عليها رعاية داعمين جدداً في مجال الأمن للتعويض عن تغيّر المزاج والموقف والغدر والانسحاب الأميركي من المنطقة.

لكن، ما الذي تعنيه حقاً أحدث جولة من إظهار القلق المفرط والاحتجاج، في إطار التوجهات الجديدة في السياسة الخارجية السعودية؟

إذا كان التاريخ يمثّل معياراً، فستستمر المملكة العربية السعودية ومنطقة الخليج بشكل عام في اتباع سياسات تتماشى مع الخطوط العريضة لاستراتيجية الولايات المتحدة ولكن مع تفضيلها للتحوّط والأحاديّة التي من شأنها، في بعض الحالات، أن تتعارض مع مصالح الولايات المتحدة. بيد أن أكثر الانقسامات حدّة بين وجهات النظر السعودية والأميركية تبرز في المشهد المحلي في منطقة الخليج. فقد أفسحت التوتّرات الإقليمية المجال أمام شنِّ حملة أمنية قاسية ضد مروحة واسعة من المعارضين، وأمام صعود الطائفية والاستخدام المقلق للرقابة.

دعوة لليقظة في مصر

كانت مقاربة واشنطن الفاترة والمربكة إزاء تخلّص الجيش المصري من حكومة جماعة الإخوان المسلمين التي تولّت السلطة في مصر منذ حزيران/يونيو 2012 هي المحرك الرئيس للجولة الأخيرة من التوجّس والشكوك في منطقة الخليج. ففي تموز/يوليو 2013، قاد الفريق عبدالفتاح السيسي انقلاباً عسكرياً أطاح محمد مرسي المدعوم من جماعة الإخوان من الرئاسة. في ذلك الوقت، طلبت الولايات المتحدة عبر القنوات الخلفية مساعدة السعودية والإمارات في مناشدة السيسي التوصل إلى تسوية سلمية مع مرسي، بيد أن هناك أدلّة كثيرة تشير إلى أن دول الخليج كانت تعمل على تحقيق أهداف لا تتقاطع مع أهداف واشنطن.

تكمن مصالح الرياض في نهاية المطاف في إنهاء حكومة الإخوان بشكل صريح وواضح وسحق احتجاجات الجماعة. إذ تخشى أسرة آل سعود الحاكمة من احتمال أن تشجّع إيديولوجية جماعة الإخوان ونشاطها السياسي المعارضة داخل المملكة وتشكّل تحدّياً لأكثر أشكال السلفية مهادنة في المملكة العربية السعودية. ففي أعقاب إطاحة جماعة الإخوان، انتقد الملك عبدالله صانعي السياسة الأميركية بسبب "دعمهم الإرهاب نفسه الذي يدعون إلى محاربته". وقد وعدت المملكة بسرعة، إضافة إلى دولة الامارات العربية المتحدة والكويت، بتقديم مبلغ 12 مليار دولار من المساعدات للنظام العسكري في مصر.

في الصحافة السعودية، دافع المعلقون عن هذه الخطوة بوصفها تهدف إلى تعزيز هدف الرياض المحوري والشامل في تحقيق الاستقرار في مصر وليس إلى تشجيع حملة متعمَّدة ضد جماعة الإخوان. ورأى أصحاب هذه الآراء أن المملكة لن تتحمَّل ببساطة وجود مصر غير مستقرَّة، إضافة إلى وجود أزمات موازية في البحرين وسورية واليمن. وعلاوة على ذلك، كان دعم الرياض للسيسي مسألة نفعيَّة بسيطة. فالمملكة العربية السعودية لها علاقات راسخة ومستقرة مع الجيش المصري، ولذلك فقد كان الجيش شريكاً طبيعياً.

وفقا للكاتب الصحافي خالد الدخيل، فإن هدف المساعدات السعودية هو تمهيد الطريق لاستئناف مصر دورها الإقليمي في معارضة النفوذ الإيراني في سورية والعراق. وأوضح أيضاً أن النظام العسكري الحالي يجب أن يكون جسراً انتقالياً إلى حكومة مصرية تكون أكثر ميلاً لتحقيق المصالح السعودية.

بغضّ النظر عن الغاية المرجوة، فإن الرسائل التي تؤكّد على السياسة السعودية والتعليقات الذي تلتها تبدو واضحة. فقد أصبحت الولايات المتحدة متردّدة وضعيفة ومتذبذبة بصورة متزايدة، ولذلك ولذا لايمكن للمملكة العربية السعودية (إضافة إلى دولة الإمارات العربية المتحدة والكويت) الانتظار بينما تتأرجح واشنطن في مواقفها.

في الطرف الأقصى من الطيف السياسي، جادل بعض المراقبين في أن ما بدو موقفاً أميركياً أحادياً تجاه جماعة الإخوان، ينذر بوجود شرخ كبير في العلاقات بين الولايات المتحدة والسعودية. إذ يتم عقد مقارنات مع الحرب العربية - الإسرائيلية والحظر النفطي الذي فرضه العاهل السعودي الملك فيصل في العام 1973، مايعني أنه عندما تواجه السعودية مسألة الاختيار فإنها تقف دائماً إلى جانب الأخوَّة العربية وليس إلى جانب الولايات المتحدة. وثمّة أصوات أخرى تدعو إلى إقامة علاقات أوسع مع روسيا وفرنسا كوسيلة لموازنة دفء العلاقات الأميركية - الإيرانية. مثل هذه التحذيرات ليست جديدة وهي تتماشى مع اتّجاه عام يرى أن دول الخليج تحاول توسيع اتصالاتها مع الصين والحكومات الأوروبية والهند وروسيا.

قنبلة الأسلحة الكيماوية السورية

إضافة إلى كارثة مصر، أدّى قرار أوباما بالإحجام عن القيام بعمل عسكري ضد سورية وقبول الإدارة الأميركية اتفاقاً تدعمه روسيا لتفكيك مخزونات الأسلحة الكيماوية في سورية إلى زعزعة السياسة السعودية أكثر.

كانت الرياض تدعم المعارضة السورية بهدف إسقاط نظام الأسد وتحطيم قوة جماعة الإخوان السورية وتنظيم القاعدة والحدّ من النفوذ الإيراني في بلاد الشام. فمن خلال التعاون مع تركيا والأردن لتوفير الأموال والأسلحة للمتمردين الذين تفضّلهم، حققت المملكة العربية السعودية مؤخراً ميزة على منافستها قطر التي كانت تدعم فصائل الإخوان في المعارضة. وقد حاولت الرياض أيضاً توجيه ضربة للفصائل المتحالفة مع تنظيم القاعدة من خلال رعاية إنشاء مظلة تجمّع سلفي سوري جديد يطلق عليه اسم جيش الإسلام. وفي مسارٍ موازٍ، تدعم الرياض الأشخاص الأقوياء من ذوي التوجهات العلمانية في سورية الذين سيحافظون على البيروقراطية الأمنية السورية، لكنهم سيقضون على الدائرة المقرَّبة من الرئيس بشار الأسد ويهمّشون جماعة الإخوان السورية.

في أعقاب الهجوم بالأسلحة الكيماوية السورية في آب/أغسطس 2013، بدا المعلقون السعوديون الموالون للحكومة مرتاحين لجهة أن أوباما "قرر أخيراً فرض خطه الأحمر" وتوجيه ضربة عسكرية ردّاً على تصرّفات نظام الأسد. وفي المداولات التي تلت ذلك بشأن الهجوم الأميركي، دفع المسؤولون السعوديون باتجاه القيام بعملية ساحقة من شأنها أن تقطع رأس النظام. كان القادة السعوديون من بين الموقّعين على بيان مجموعة العشرين الذي يدعو إلى القيام بعمل عسكري، ويقال إنهم عرضوا حوافز اقتصادية للضغط على موسكو كي تتراجع عن معارضتها لتوجيه ضربة عسكرية. لكن النطاق المحدود للهجوم الذي تم التخطيط له، والذي أعقبه تأجيل منح الإذن بشنّ الهجوم من جانب الكونغرس الأميركي، قوبل بالانتقاد في الرياض باعتباره خطوة كارثية من شأنها تمكين القاعدة في سورية.

وقد تبدَّدت آمال السعودية أكثر بعد تمرير قرار مجلس الأمن الدولي الذي يطالب الأسد بتسليم الأسلحة الكيماوية السورية، والذي رأى فيه المعلقون السعوديون "حيلة" خدعت أوباما المطمئن بهدف إطالة أمد الصراع، وبالتالي ضمان بقاء الأسد. وتساءل البعض عمّا إذا كانت صفقة الأسلحة الكيماوية لازالت تعني أن تغيير النظام كان على الطاولة. وقال أحد الكتّاب إن الازدراء الذي قوبل به الصمود السعودي كان أسوأ من إمكانية تضاؤل توجيه ضربة عسكرية. فقد أدّى الاتفاق بين الولايات المتحدة وروسيا على تدمير الأسلحة الكيماوية في سورية وترك الأسد في السلطة إلى تهميش "الجهات الفاعلة الإقليمية" (أي دول الخليج والأردن وتركيا) التي كانت تتحمّل حصّة الأسد من عبء دعم المعارضة. وعلاوة على ذلك، فإن تعاون هذه الجهات الفاعلة أمر ضروري لإيجاد حلّ دائم للأزمة السورية. وأشار أحد المراقبين إلى أن أوباما قد ضرب حلفاءه القدامى في منطقة الخليج بدلاً من ضرب سورية كما وعد.

على الصعيد الدبلوماسي، انعكس استياء السعودية الرسمي بشأن سورية في إلغاء خطابها في الجمعية العامة للأمم المتحدة، على رغم أن الرسالة الكامنة وراء هذا الاحتجاج كانت تتمثّل في مجموعة المحادثات التي جرت بين المسؤولين الأميركيين والإيرانيين.

مخاوف من حدوث اختراق أميركي - إيراني

تبدو الخطوات المتردّدة التي قام بها الرئيس الايراني حسن روحاني باتجاه الانخراط بصورة ثنائية مع الولايات المتحدة مقلقة بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية على عدد من المستويات، وإن كانت بعيدة بالتأكيد عن الاختراق الذي حققته أميركا في علاقتها مع الصين في عهد الرئيس نيكسون. فقد قال أحد المعلقين إن احتمال حدوث تقارب ناقص ومحدود بين واشنطن وطهران – أو ما أطلق عليه "سياسة الحد الأدنى" - هو ما يشكّل خطورة كبيرة جداً بالنسبة للبلدان الأخرى في المنطقة (الخليج وتركيا) لأنه يمنح إيران هامشاً أكبر للمناورة، لكنه يترك قدرة فيلق الحرس الثوري الإسلامي القوي على التدخّل في الدول المجاورة للمملكة العربية السعودية من دون رادع.

عادت مواضيع الخيانة المألوفة والمبالغ فيها إلى الظهور أيضاً. فأي حلّ وسط بشأن الملف النووي الإيراني سيكون على حساب دول الخليج العربي والدول العربية بشكل عام. وقد أثار هؤلاء المعلّقون المخاوف من اضطلاع إيران مجدَّداً بدور شرطي الخليج الذي لعبته في عهد الشاه بدعم من أوباما. وبالنسبة لآخرين، فإن المسألة لاتتعلّق كثيراً بخطر التقارب - اتفقوا على أن المصالحة بين الولايات المتحدة وإيران ستكون أمراً جيداً بالنسبة للسلام الإقليمي - بل بحقيقة أنه يتم تهميش دول الخليج، وخاصة بشأن التوصّل إلى تسوية إقليمية محتملة للأزمة السورية. فقد جاء عنوان إحدى الافتتاحيات في صحيفة "الحياة" على النحو التالي "الطريق إلى طهران يمرّ عبر موسكو والرياض... فقط بعد دمشق".

ثمّة أمر مؤثّر هنا أيضاً يتمثّل في التنافس بين السعودية وإيران الناجم عن وجهات نظرهما المتعارضة حول دور الولايات المتحدة في المنطقة وتحديداً في الخليج. إذ ترى إيران المملكة العربية السعودية بوصفها وكيل أميركا المحلي والمسؤولة عن دعوة القوات الأميركية إلى المنطقة حيث طوَّقت الجمهورية الإسلامية. ومن جانبها ترى المملكة العربية السعودية محاولة إيران استعراض قوتها والتحرّر من هذا الحصار بوصفه شكلاً من أشكال طموح الهيمنة في المنطقة.

تكمن جذور الخلاف حول الوجود الأميركي في اختلال توازن القوى الذي كان موجوداً في الخليج منذ أيام الشاه. وبسبب اعترافها بضعفها مقارنة مع إيران فقد التمست دول الخليج دائماً قوة خارجية (سواء البريطانيين أو الأميركيين) لموازنة قوة إيران. من جانبها أطلقت طهران دعوات منتظمة لطرد "القوى الخارجية من المنطقة" (المقصود هنا القوات الأميركية) وللحفاظ على أمن منطقة الخليج من خلال بنية أمنية خليجية، وهو الترتيب الذي لاتقبل به الرياض لأنه سيجعل المملكة في وضع الشريك الأصغر لطهران.

ويزداد هذا التباين الأساسي في المواقف سوءاً بسبب الصراعات الجارية في الشرق الأوسط، في البحرين والعراق ولبنان وفلسطين وسورية واليمن، والتي استدعت التدخّل ولغة الخطابة التحريضية من كلا الطرفين. كما زادت طموحات إيران النووية الطين بلّة، حيث لازالت الشكوك العميقة تراود السعوديين إزاء أي حل لايتضمّن التعليق الكامل لتخصيب اليورانيوم أو تدمير البنية التحتيّة النووية الإيرانية.

مزيد من التحوّطات المنتظرة

في سياق تقييم هذه المسارات، من المهمّ بالنسبة إلى صنّاع القرار أن يفكروا بما يتجاوز الوضع الحالي عندما يتعلّق الأمر بالعلاقات بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية. إذ يتعيّن عليهم تقبّل حقيقة أن التحذيرات من عجز الولايات المتحدة في مواجهة التهديدات الإقليمية والتحركات نحو الأحادية والتماس رعاة أمنيين جدداً ليست بالأمر الجديد. فقد ظهرت هذه الأمور في ذروة الحرب الأهلية في العراق، عندما قامت شخصيات سعودية بتحفيز واشنطن على القيام بدور أكثر فعالية للحدّ من النفوذ الإيراني. وأصبحت علامات التحذير أكثر وضوحاً مرة أخرى في خضمِّ حرب لبنان في العام 2006، عندما حذّرت هذه الشخصيات نفسها من أنه يجري انتزاع الملفات "القومية العربية" في العراق ولبنان وفلسطين من أيدي بلدان الخليج من جانب إيران وحزب الله. وظهر التعبير المفرط عن الضيق مرة أخرى في أعقاب صدور تقرير تقديرات الاستخبارات الوطنية الأميركية لعام 2007 الذي قلّل من أهمية التهديد النووي الإيراني، وخلال المحادثات الثلاثية الأميركية - الإيرانية - العراقية في بغداد في أيار/مايو 2007.

في كثير من النواحي، يذكّرنا العويل والامتعاض في الصحافة الخليجية مؤخراً من أن دعم السعودية للمتمرّدين السوريين جاء متأخراً جداً باعترافات سابقة بأن السعوديين أخفقوا في وضع خطة للحفاظ على مصالحهم في عراق ما بعد صدام حسين، وبالتالي فقد تنازلوا عن الميزة الاستراتيجية لصالح إيران. ومن بين الذين يدعون حالياً إلى معالجة تلك الأخطاء السابقة، كان خالد الدخيل الأكثر وضوحاً في المطالبة بسياسة خارجية سعودية أحادية أكثر قوة. وهو يعزو الانتكاسات الدبلوماسية التي منيت بها المملكة إلى اعتمادها المفرط والثابت على القوة الناعمة - الأدوات المالية والدبلوماسية - بدلاً من التركيز على بناء القدرة العسكرية الخاصة بها. ويقول الدخيل بصورة أكثر مباشرة إنه يتعيّن على المملكة العربية السعودية أن تكون لاعباً في ميزان القوى في المنطقة (أي أن تمتلك القوة العسكرية)، وليس أن تكون مجرّد طرف في لعبة توازن المصالح.

يطرح رئيس تحرير صحيفة الشرق الأوسط، الذي يُعتَقَد في الغالب أن وجهات نظره تشير إلى آراء الملك عبدالله، قضية مماثلة. فهو ينصح المملكة العربية السعودية ودول الخليج بضرورة أن تتصرَّف في المنطقة كما لو أن واشنطن غير موجودة. ففي هذه الحالة من المحتّم أن تتبع الولايات المتحدة والغرب القيادة السعودية، كما فعلوا في مصر وكما سيفعلون في سورية في نهاية المطاف. وبشأن إيران تحديداً، ثمّة دعوات مماثلة لمنطقة الخليج للاستفادة من قوتها الاقتصادية والسياسية المكتشفة حديثاً لإحباط إمكانية قيام تحالف غربي - إيراني محتمل أو صفقات سريّة يتم عقدها ضد دول الخليج.

هناك كاتب واحد على الأقل، جمال خاشقجي، يعارض هذه المدرسة الفكرية، ويقول إنه ينبغي التخلّي عن مجازاتها البالية. فالسعوديون بحاجة إلى التغلّب على خوفهم المفرط من تحالف سري يقوم بين الولايات المتحدة وإيران من شأنه الإضرار بمصالح دول الخليج. إذ إن منطقة الشرق الأوسط قادرة، على حدّ تعبيره، على احتواء جميع دول المنطقة بما فيها إيران وتركيا، كما أن عقد مصالحة مع إيران يصبُّ في مصلحة الجميع. وهو يزعم أيضاً أن فكرة وجود دور شرطي إقليمي في الخليج، سواء لعبت ذلك الدور إيران أو المملكة العربية السعودية، مبالغ فيها نظراً للوجود الدائم للقوات الأميركية والتعثّر الواضح في الاستدارة الأميركية إلى آسيا.

ربّما يكمن المسار الفعلي للدبلوماسية السعودية في مكان ما في منتصف النقيضين اللَّذين عبَّر عنهما هؤلاء الكتاب وذلك لأسباب عديدة. السبب الأول هو أن الطريق إلى تحقيق انفراج حقيقي في العلاقات الأميركية - الإيرانية، ناهيك عن تحقيق انفراج نووي أكثر تواضعاً، سيكون أطول وأكثر غموضاً مما يعتقد المتشائمون السعوديون والمتفائلون في اشنطن. وإذا ومتى حدث ذلك، فمن المرجّح أن يكون تأثيره على العلاقات بين الولايات المتحدة وبلدان الخليج والمنطقة عموماً أقلَّ إثارة لعدم الاستقرار والتغيير مما هو مفترض في العادة. وسوف تستمر المملكة العربية السعودية في تبنّي التعاون الدبلوماسي والدفاعي مع الولايات المتحدة في المستقبل المنظور. وسواءً شئنا أم أبينا، لا تزال واشنطن هي الخيار الوحيد الذي يجب تقبّله نظراً لحالة الفوضى السائدة في أوروبا وعدم رغبة الصين في تحمّل العبء الأمني في المنطقة.

بالإضافة إلى ذلك، قد تجد المملكة العربية السعودية أن ما تسمّى الجبهة السنّية التي تقودها ضد إيران أصبحت ضعيفة على نحو متزايد. والواقع أن التوافق بين دول الخليج حول إيران والانتفاضات العربية والنظام الإقليمي كان على الدوام أكثر مراوغة وتصدّعاً مما توحي المظاهر الخارجية. فقد كانت سياسات المنافسة واختصار الطريق هي القاعدة، سواء في شكل التنافس القطري - الإماراتي خلال الثورة في ليبيا، أو التنافس القطري - السعودي في سورية، أو امتناع الكويت عن المساهمة بصورة مُجدِية في قوات درع الجزيرة في الخليج التي تم نشرها في البحرين لقمع الانتفاضة هناك، أو خروج عمان عن القاعدة من خلال الحفاظ على علاقات جيدة مع إيران.

لم يترك هذا الغياب الواضح للإجماع في الخليج، جنباً إلى جنب مع زخم المحادثات الأميركية - الايرانية، للرياض سوى القليل من الخيارات. فإذا ما مضت قدماً في سياساتها، من المرجح أن تسير على خطى السياسة الأميركية، لكن مع تفضيلها للتحوّط بصورة أكبر. وقد تنتهج السعودية مبادرات متعدّدة ومتداخلة في السياسة العامة كشكل من أشكال التأمين، والتي قد يتصادم بعضها مع استراتيجيات وأهداف الولايات المتحدة. وبدا هذا الأمر واضحاً في الآونة الأخيرة في سورية من خلال رعاية الرياض لـ "جيش الإسلام"، والذي يهدف إلى إضعاف تنظيم القاعدة ولكنه يُضعِف أيضاً حلفاء واشنطن في القيادة العسكرية المشتركة للتمرّد في سورية والمتمثّلة في المجلس العسكري الأعلى.

والواقع أن المملكة العربية السعودية قد تكون مدفوعة إلى انتهاج مبادرتها الأحادية باتجاه إقامة علاقات أوسع مع إيران في أعقاب رغبة روحاني المعلنة في إقامة علاقات أفضل والتحرك نحو عقد حوار مع واشنطن. وعلى الرغم من الافتراض الشائع بوجود تنافس ثابت وأساسي قائم على الخلافات الطائفية والجيوسياسية، فقد أظهرت الرياض وطهران ميلاً إلى تهدئة التوتّرات الطائفية والتعاون في المجالات ذات الاهتمام المشترك. وبرز تنظيم الصراع بين الجانبين في المجالات التي أدركت الحكومتان أن استمرار المواجهة بشأنها يضرّ بالمصالح والاقتصادات الوطنية لكل منهما. وقد كان لبنان في أعقاب حرب العام 2006 واحدة من هذه الحالات، وهناك دلائل على أن الجانبين قد يصلا في نهاية المطاف إلى حالة انهاك مماثلة بشأن سورية. مع ذلك، وحتى في ظل النتائج الأكثر ملاءمة، لا تزال هناك حدود للمدى الذي يمكن أن يصل إليه الدفء في العلاقات بسبب السياسة السعودية المحلية، وقوة الحرس الثوري الايراني، وحالة التمزّق التي يعانيها النظام الإقليمي في الشرق الأوسط.

ردّة الفعل المحلية في الخليج

إذا كانت هناك هوَّة حقيقية قد بدأت بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة في ضوء التطورات الإقليمية، فربّما لاتكون على جبهة السياسة الخارجية على الإطلاق، وإنما في الخلافات حول كيفية ممارسة دول الخليج لشؤونها الداخلية ردّاً على الاضطرابات الإقليمية. والأمر الذي غالباً ما يتم تجاهله هو أن حكام الخليج يميلون إلى الخلط بين التهديدات الإيديولوجية الخارجية وبين المعارضة السياسية الداخلية. وبعبارة أخرى، كثيراً ما يُنظَر إلى الإصلاحيين والمعارضين في الخليج على أنهم عملاء (أو عملاء محتملون) للقوى الخارجية التي عقدت العزم على زعزعة استقرار دول الخليج.

تجلّت هذه الديناميكية في الآونة الأخيرة في اتفاق مجلس التعاون الخليجي على التنسيق الأمني الداخلي. إذ ستتبادل الدول الخليجية القوائم السوداء وتكثّف عمليات اعتقال النشطاء الإصلاحيين والمعارضين والوافدين الذين يُعتقَد أنهم مرتبطون بحزب الله أو إيران أو جماعة الإخوان المسلمين وتوحّد جهود الرقابة. وتحاول المملكة العربية السعودية والكويت أيضاً نزع الصفة السياسية عن رجال الدين من خلال إسكات وتكميم أفواه من يشيرون بصورة علنية إلى الأحداث في سورية ومصر. وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، تجلّت آثار ونتائج تلك السياسة، معظمها من مصر ولكن أيضاً من سورية، في عمليات اعتقال نشطاء من جماعة الإخوان. أما في البحرين فقد كانت ردّة الفعل الأمنية مدمّرة بشكل خاص. فقد منع نظام الملك حمد آل خليفة مؤخراً الجمعيات السياسية، وبشكل أكثر تحديداً جمعية الوفاق الشيعية، من الاجتماع مع الدبلوماسيين الأجانب أو المنظمات غير الحكومية. وقد تكرّرت في وسائل الإعلام الحكومية الاتهامات التي تقول إن الناشطين الشيعة في المملكة العربية السعودية والبحرين هم وكلاء لإيران.

وفي حين لايرجّح لهذه الاتجاهات المثيرة للقلق أن تهدّد بقاء الأنظمة الخليجية بصورة خطيرة، فإنها تخلق بيئة سياسية سامَّة. وفي خضمّ التطورات العنيفة بشأن إيران واستمرار المأزق في سورية، يتعيّن على صنّاع القرار الأميركيين ألا يغفلوا عن هذه الديناميكيات المحلية.

* فريدريك ويري كبير الباحثين في برنامج الشرق الأوسط

مركز كارنيغي للشرق الأوسط، الذي أسسته في العام 2006 مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي

http://carnegie-mec.org

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 24/تشرين الاول/2013 - 19/ذو الحجة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م