حكم الجدارة الرؤوفة

دانيال أ. بيل، لي شينيانج

 

قبل أكثر من عقدين من الزمان، قَدَّم القادة السياسيون في سنغافورة فكرة "القيم الآسيوية" للتأكيد على أن مبادئ وممارسات الديمقراطية الليبرالية لم تكن تتلاءم مع المنطقة، وهو ما أشعل شرارة مناقشة مهمة ركزت على عالمية حقوق الإنسان. ولكن هذه المناقشات أهملت إلى حد كبير اقتراح مبدع آخر قدمه زعماء سنغافورة: حيث أعلنوا أن الأنظمة السياسية الحديثة لابد أن تعمل كحكومات جدارة واستحقاق.

إن حكومات الجدارة السياسية، حيث يتم اختيار القيادات على أساس مهاراتهم وفضائلهم، تشكل ضرورة أساسية لكل من النظرية والممارسات السياسية الصينية والغربية. وقد ناضل المفكرون السياسيون ــ من كونفوشيوس وأفلاطون إلى جيمس ماديسون وجون سيتورات مِل ــ من أجل تحديد أفضل الاستراتيجيات لاختيار القادة القادرين على إصدار أحكام ذكية ومستنيرة أخلاقياً على نطاق واسع من القضايا.

ولكن مثل هذه المناقشات توقفت إلى حد كبير في القرن العشرين، ويرجع هذا جزئياً إلى طعنها في عالمية الديمقراطية. فالديمقراطية تتطلب فقط أن يختار الناس قادتهم؛ ويرجع الأمر إلى الناخبين في الحكم على جدارة المرشحين. وفي حين تعمل الديمقراطيات الليبرالية على تمكين الخبراء، ولنقل في المناصب الإدارية والقضائية، فإنهم يظلون دوماً مسؤولين، ولو بشكل غير مباشر، أمام قادة منتخبين ديمقراطيا.

ولكن في سنغافورة، ظلت الجدارة السياسية تشكل قضية أساسية، مع استمرار قادة البلاد في الدعوة إلى إضفاء الطابع المؤسسي على الآليات المستخدمة لاختيار المرشحين الأفضل تأهيلاً للقيادة ــ حتى ولو كان هذا يعني فرض قيود على العملية الديمقراطية. وفي سعيهم إلى كسب التأييد فإنهم كثيراً ما يلوذون بتعاليم كونفوشيوس. وكما أوضح رئيس الوزراء لي هسين لونج، فإن أحد المثل الكونفوشيوسية العديدة التي تظل وثيقة الصلة بسنغافورة يتلخص في "مفهوم الحكم بالاستعانة برجال شرفاء يقومون بواجبهم في القيام بالعمل الصواب من أجل شعوبهم ويتمتعون بثقة واحترام الناس".

بعد حصولها على الاستقلال في عام 1965، اكتسب قادة سنغافورة ثقة مواطنيهم واحترامهم من خلال الإشراف على تحقيق نمو اقتصادي مذهل. ولكن على مدى السنوات القليلة الماضية، تضاءلت ثقة عامة الناس في قادتهم السياسيين بشكل كبير، الأمر الذي أرغم الحكومة على تبني موقف أكثر استيعاباً لمطالبهم.

وفي حين لا يزال قادة سنغافورة يؤكدون أن المسؤولين المنتقين على أساس الجدارة لابد أن يتبنوا وجهة نظر طويلة الأمد، بدلاً من تلبية ضرورات الدورات الانتخابية، وهم يدركون الحاجة إلى قدر أعظم من المساواة والمشاركة السياسية الأوسع. وتحقيقاً لهذه الغاية فقد عملوا على تخفيف القيود المفروضة على الخطاب السياسي وتوقفوا عن الانتقام بقسوة من معارضيهم.

فضلاً عن ذلك، ومن أجل تضييق فجوة التفاوت بين الناس في الدخول وتعزيز الحراك الاجتماعي، فقد لجأت حكومة سنغافورة إلى زيادة المعونات المقدمة للفئات المحرومة اجتماعياً واقتصادياً وأبناء الطبقة المتوسطة، بما في ذلك من خلال الاستثمار في التعليم وتوفير الرعاية الصحية بتكاليف أقل. وقد أطلقت سنغافورة على هذا النهج الجديد مسمى " الجدارة الرؤوفة".

لقد فشل الخطاب في سنغافورة بشأن الجدارة في اكتساب قدر كبير من الاهتمام في الخارج، ويرجع هذا إلى حد كبير إلى عدم تقديمه بوصفه فكرة مثالية عالمية. فبدلاً من هذا، أكَّد قادة سنغافورة بشكل مستمر على أن الحاجة إلى ضمان تولي أكثر الناس قدرة المسؤولية تصبح ملحة بشكل خاص في دولة مدينة ضئيلة قليلة السكان ومحدودة الموارد وسط جيرة عدائية محتملة.

ورغم هذا فإن تصرفاتهم تشير إلى اعتقادهم بأن نموذج سنغافورة في الجدارة السياسية لابد أن يؤثر على بلدان أخرى، وخاصة تلك التي تتمتع بتراث كونفوشيوس. وبهذا المعنى، فإن علاقة سنغافورة القوية بالصين قد تفيد كثيراً في النهوض بقضية الجدارة السياسية.

فمنذ تسعينيات القرن الماضي، كان الآلاف من المسؤولين الصينيين يسافرون إلى سنغافورة للتعلم من تجربتها. ورغم أن نظام سنغافورة السياسي لا يمكن نقله بسهولة إلى دولة ضخمة مثل الصين، فإنه يشكل النموذج الذي ساعد في تشكيل تحرك الصين مؤخراً نحو نظام الجدارة. والواقع أن الصين بالاقتداء بمثال سنغافورة نجحت في بناء نظام متطور وشامل لاختيار وترقية القادة السياسيين استغرق عقوداً من التدريب والاختبارات المكثفة للمسؤولين في مختلف مراحل حياتهم المهنية.

وقد أشرف هؤلاء القادة الذين تم اختيارهم على أساس الجدارة على الطفرة الاقتصادية التي نجحت في انتشال عدة مئات من الملايين من براثن الفقر. ولكن في الوقت نفسه تفاقمت مشاكل أخرى مثل الفساد، وعدم المساواة بين الناس، والتدهور البيئي، والفساد الرسمي، وقمع المعارضة السياسية والتعبير الديني.

ومن أجل عكس هذه الاتجاهات، فيتعين على الصين أن تعمل على تنفيذ إصلاحات ديمقراطية تهدف إلى كبح جماح استغلال السلطة. وهي تحتاج أيضاً إلى تطوير نظام الجدارة لديها: فلابد من اختيار وترقية المسؤولين الحكوميين على أساس القدرة والأخلاق، وليس الولاء السياسي، أو الثروة، أو الخلفية الأسرية. ولابد أيضاً من مكافأة المسؤولين عن إسهاماتهم ليس فقط في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، بل وأيضاً في تضييق فجوة التفاوت الاجتماعي والاقتصادي بين الناس وتشجيع شكل أكثر رعاية من أشكال الحكم. وهنا أيضاً يستطيع مثال حكم الجدارة الرءوفة في سنغافورة أن يقدم دروساً مفيدة.

في ظل التغير السريع لموازين القوى العالمية، لم يعد من الممكن الحكم على الصين بالاستعانة بمعايير الديمقراطية الليبرالية الغربية فقط. ويكاد يكون من المؤكد أن الجدارة، التي تشكل ضرورة أساسية في التقاليد السياسية الصينية، سوف تخدم كنقطة مرجعية يمكن من خلالها تقييم عملية التنمية في البلاد.

في أوائل تسعينيات القرن العشرين، ما كان أحد ليتوقع أن يصبح اقتصاد الصين ثاني أضخم اقتصاد على مستوى العالم في غضون عشرين عاما. وربما في غضون عقدين آخرين من الزمان قد نناقش كيف قدَّم نظام الجدارة على الطريقة الصينية البديل الذي تحدى الديمقراطية على النمط الغربي.

* دانيال أ. بيل، أستاذ زائر في جامعة سنغافورة الوطنية، وأستاذ في الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة جياوتونغ، شنغهاي

لي شينيانج، أستاذ مشارك في جامعة نانيانج التكنولوجية في سنغافورة

http://www.project-syndicate.org/

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 12/تشرين الاول/2013 - 6/ذو الحجة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م