الأسوة الحسنة والمثل الاعلى

الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي

 

((لقد كان لكم في (رسول الله) أسوة حسنة؛ لمن كان: يرجو الله، واليوم الآخر، وذكر الله كثيراً)).

[(سورة الأحزاب: الآية 21).

 

- 1 -

إن الله – تعالى – اختار نبيه الكريم لمؤهلات كثيرة اجتمعت فيه، ثم جعله أسوة للمسلمين، فقال:

((لقد كان لكم في رسول الله أسوة))، فاقتدوا به، وحاولوا التحليق إلى مستواه، وإن لم تصلوا إلى مستواه بالفعل، فهو القمة التي لا تطال. ولكن في محاولة التحليق إلى مستواه، تصعيد لمستوياتكم إلى أقصى ما تزخر به إمكاناتكم، واستنفاد لطاقاتكم في طريق الكمال.

وإن كنتم في ريب من بعض صفاته أو كلها، وتشكونا في أنه بجميع صفاته أسوة،، أو أن في مجموعة صفاته صفات غير حميدة لا تنبغي محاولتها؟؛ اطمئنوا إلى أن كل صفاته فاضلة تجدر محاولتها.

فهو أسوة ((حسنة)) تشد المتمثلين بها إلى السماء. وتقربهم إلى الله والدار الآخرة. وهو مثل أعلى، لا تهضمه عقول الضعفاء من أصحاب الأغراض الرخيصة والأهداف الدانية. فمن ينكب على دنياه المحدودة، ويستغني بمصالحه الموقوتة؛ لا يفهم شخصية بعيدة المدى كشخصية الرسول. وإنما الرسول خير أسوة لمن يتجاوز الذات، وكل حدود الذات، وكل رغبات الذات. وإنما هو أسوة لمن تطمح به الآمال إلى ما وراء الأفق المحدود بالزمان والمكان، فهو أسوة لمن له أمل بالله وأمل باليوم الآخر.

إن الرسول مثل أعلى، وعلى الناس – جميعاً – أن يتأسوا به. ولكن إذا وضعنا في تقديرنا لزوم التقارب بين الأسوة والمتأسي حتى يتم الانسجام بينهما، فالرسول أعلى من أن يكون أسوة لمن يرجو الذات واليوم الحاضر، وإنما هو أسوة ((لمن كان يرجو الله واليوم والآخر))، ولا يحرم أحد من توجيهه كأسوة، ولكنه أسوة مباشرة لأصحاب المطامح البعيدة، وهم أسوات لأصحاب الرغبات القريبة.

وتخصيص أصحاب المطامح البعيدة، لأمرين:

1- إعطاؤهم الأفضلية، وتقديرهم، وتشيعهم على الانطلاق نحو الرسول أسرع... فأسرع... فالرسول أسوتهم المباشرة، وهم المخصصون بالتأسي به.

2- إشعار أصحاب الرغبات القريبة بأنهم مؤمنون من الدرجة الثانية، وتأنيبهم بتخلفهم، عسى أن ينبض فيهم الحنين إلى الارتفاع.

ومن بلاغة هذه الآية، أنها استخدمت التشجيع لأصحاب المطامح البعيدة، والتأنيب لأصحاب الرغبات القريبة. فكأنها تقول للصنف الأول: الرسول أسوتكم، فالتحقوا به. وتقول للصنف الثاني: الرسول أسمى من أن يكون أسوة لكم. ذلك: أن الرعيل الأول من الناس، أصحاب مشاعر مرهفة، يحركها التشجيع ويدوخها التأنيب. بينما الرعيل الثاني من الناس، أصحاب مشاعر بليدة، يخدرها التشجيع ويحركها التأنيب.

ولنأخذ مثلاً منا – نحن المؤمنين – في الأجيال المعاصرة: نغفو على الكلمات المعسولة، إن ربتت على أكتافنا. ولكن الكلمات القاسية، إن انقضَّت علينا، فستحرك فينا عرق الثأر لكرامتنا الموهومة؛ أن يعلن أنها موهومة.

فلقد قال القرآن:

((لقد كان لكم في رسول الله أسوة)).

ولكن الذهنية العامة، تحاول تخليص نفسها من هذه (الأسوة) التي أصبحت وكأنها كابوس لابد من التخلص منها بأي أسلوب.

فإذا قيل لمن يمثل الذهنية العامة: (الرسول أسوة لك، وقد فعل ما لم تفعل، ولم يفعل ما تفعل)، أجاب: (وأين أنا من الرسول؟! ذلك كان معصوماً من عند الله، وكان نبياً و (آدم) بين الماء والطين، وقد كان الله يرعاه وهو يتقلب بين الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة... وأنا أحد هؤلاء الناس، الذين هم أخصب مرعىً للشيطان، فهل تريدني أن أجاري الرسول؟).

وهكذا... أقام الجيل المؤمن المعاصر، بينه وبين الرسول الأسوة، جداراً رهيباً، لا يردمه التشجيع، ولكن قد يردمه التأنيب إذا قيل له: (إن الرسول أعلى من أن يكون أسوة مباشرة لك). فيندفع نحو الأعلى، ليثبت أن الرسول أسوة مباشرة له.

- 2 -

1- الثقلان: كتاب الله، ورسول الله (ص). وبعد رسول الله (ص)، عترته الذين هم امتداداته عبر الأجيال.

2- قد يقال: كتاب الله، مجموعة من إرادات الله. والرسول وعترته، مجموعة من خلق الله المفرز من إرادة الله. فالكتاب صادر من الله مباشرة، وأما الخلق فهو صادر من الله بواسطة الإرادة. فالكتاب أقرب إلى الله من خلق الله، الذي أهمه الرسول وعترته.

إذن: فالكتاب هو الثقل الأكبر.

3- هذا... في مجال التقييم الواقعي. وأما في مجال التفاعل الواقعي: فلا شك أن فعل الكتاب أكبر من فعل الرسول وعترته، لأن الرسول – ذاته – من جملة من يتأثر بالكتاب.

4- أما في مجال المجتمع: ففعل الرسول أكبر من فعل الكتاب، لأن الرسول من الناس، فتأثرهم به أعمق من تأثرهم بالكتاب، الذي ليس من نوعهم، وإنما هو من نوع جانبهم المعنوي فقط، وليس من نوع جانبهم المادي والمعنوي – معاً – كما هو شأن الرسول.

ولذلك: احدث الرسول تلك الضجة التي لا زالت تتفاعل بقوة هائلة، بينما لم يحدث مثلها الكتاب.

صحيح: أن الكتاب كان أهم وسائل الرسول في إحداث تلك الضجة، ولكن: الكتاب لا زال موجوداً، ولا يحدث الضجة التي أحدثها الرسول في فترة ثلاثة وعشرين عاماً.

ومن ثم نجد التعبير عن الرسول بـ: (آية الله العظمى). فالكتاب آية عظيمة من آيات الله. ولكن الرسول – في مجال المجتمع – آية عظمى، كما أن كل واحد من أوصياء النبي وعترته المعصومين آية عظمى من بعده.

- 3 -

- هنالك: خطان متوازيان يقسمان العاملين في الحقول المادية، ويحتاج كل خط إلى التخصص حتى يصل إلى درجة الاستيعاب.

وهما، العلم والعمل: فالميكانيك في الآليات المتحركة غير قائدها، والمدرب غير الملاكم، والعروضي غير الشاعر، والنحوي غير البليغ، والرياضي غير رجل الأعمال...

أما في مجال الدين: فيلتقي العلم بالعمل التقاءً عضوياً صلباً، كالتقاء الموجب والسالب في جميع ذرات الكون، بحيث لو انفصم أي منها عن الآخر؛ تحول إلى عنصر هدام: فـ (الشيطان) هو المثل الأعلى للعالم بلا عمل، و (بلعم بن باعورا) هو المثل الأعلى للعامل بلا علم...

فخط الدين يعتمد على هذين التوأمين معاً، فالأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) هم الذين ضموا العلم الواسع إلى العمل الصادق، وأعظمهم النبي محمد (ص)، لأنه أوسعهم علماً وأصدقهم عملاً.

وكل من حاول تجربة الدين، عليه أن يعرف – سلفاً –: خطه، ومثله الأعلى. فخطه: الإسلام، بعنصريه العلم والعمل. ومثله الأعلى: الرسول الأكرم (ص)، بصفته (العالم العامل) في أعلى درجات الإمكان.

- والقيمومة على الحياة، تكون للفكر لا للفرد. لأن الفكر يتبلور بالنقاش، فيظهر: خلوصه من المؤثرات، أو انسياقه معها. فيما الفرد، معرض – حتى داخله – للانجراف. ورغم ذلك: أعلن الله نبيه مقياساً، مع الاعتراف بجانبه البشري. لأن النبي (ص) – بعد أن وضع الله عليه الصيانة – أصبح معبراً أميناً عنه، كما أن القرآن أصبح معبراً أميناً عنه بعد وضع الصيانة عليه:

((إنا نحن نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون))(1).

فالقرآن – وحده – نال الصيانة، فكان المقياس دون بقية الكتب. والنبي وأوصياؤه المعصومون (عليهم السلام) – وحدهم – نالوا الصيانة، فكانوا المقياس دون بقية الناس الذي حرموا من هذه الصيانة، حتى ولو كانوا من صحابته أو من تابعيهم بإحسان.

* من كتاب خواطري عن القرآن

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 12/تشرين الاول/2013 - 6/ذو الحجة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م