جواسيس ومراسلون

ناعومي وولف

 

إن الإقرار بالذنب مؤخراً من قِبَل دونالد ساتلبين، فني القنابل السابق في مكتب التحقيقات الفيدرالي والمتهم بتسريب معلومات سرية بعد أن توصل إليه محققون حكوميون من خلال الحصول سراً على سجلات الهاتف لبعض المراسلين الصحفيين في أسوشيتيد برس، يمثل الفصل الأخير في الدراما الجارية حول سلوك المسؤولين الأمنيين في الولايات المتحدة.

قبل بضعة أيام، انتهى فصل آخر في أحد استوديوهات التلفزيون في مدينة نيويورك: حيث دارت مواجهة على خشبة المسرح بين بعض الجواسيس والمستفيدين من المعلومات المسربة. وكان حدثاً غير عادي دار أمام جمهور يتألف من 400 صحافي. وكنت حاضرة.

وكان المشهد عبارة عن تسجيل لبرنامج المقابلات الأميركي "تشارلي روز: الأسبوع". وقد دافع ستيوارت بيكر، المستشار العام السابق لوكالة الأمن القومي، عن الوكالة ضد الانتقادات الموجهة إليها منذ سرب عميل المخابرات السابق إدوارد سنودن الآلاف من الوثائق التي كشفت عن نطاق أنشطة المراقبة التي تقوم بها الوكالة للكاتب جلين جرينوالد في صحيفة الجارديان. وانضم إلى بيكر على المنصة اثنان من الصحافيين يتسمان بقدر كبير من الشجاعة، جانين جيبسون رئيسة تحرير الجارديان في الولايات المتحدة، وألان روسبريدجر رئيس تحرير الجارديان.

كانت نقاط الحوار التي أثارها بيكر ترمي في ما يبدو إلى ترسيخ "معيار جديد" يقضي بعدم جواز التشكيك في مشروعية السلوك الرسمي، وهو ما يشكل تهديداً للصحافيين الذين يفعلون ذلك. والواقع أنه أكَّد أكثر من مرة على أن التجسس الذي كشفت عنه الأسرار التي أذاعها سنودن كان "مشروعا".

وكان ذلك التأكيد مذهلا. والواقع أن رون وايدن ومارك يودال العضوين في مجلس الشيوخ الأميركي جازفا بالكثير، بما في ذلك احتمال اتهامهما بتسريب معلومات سرية، عندما حذرا من أن مراقبة وكالة الأمن القومي لرسائل البريد الإلكتروني الخاصة بالمواطنين الأميركيين كانت تتم بموجب تفسيرات سرية لـ"قانون سري" وعندما انتقدا وكالة الأمن القومي لانتهاك تدابير حماية الخصوصية التي أمرت بها المحاكم "عدة آلاف من المرات سنويا". والقانون السري المفسر سراً هو بكل تأكيد ليس قانوناً على الإطلاق، بل هو في واقع الأمر وصيف للاستبداد.

ولم يتوقف بيكر عند ذلك الحد. فقد أصر مراراً وتكراراً على أن برنامج "بريزم" (المنشور) التابع لوكالة الأمن القومي، الذي كشف عنه سنودن، كان يباشر عمله تحت إشراف الكونجرس، برغم أن أعضاء الكونجرس احتجوا بصخب في أعقاب الكشف عن الأسرار زاعمين أنهم لم يتم إطلاعهم قط على العملية السرية للتنقيب عن المعلومات التي أدارتها وكالة الأمن القومي. حتى أن أعضاء لجنة الرقابة الاستخباراتية في مجلس الشيوخ أصدروا تصريحات أكدوا فيها أنهم تعرضوا للتضليل بشأن برنامج "بريزم".

ورداً على سؤالي المباشر حول ما إذا كانت أنشطة المراقبة التي تمارسها وكالة الأمن القومي انتهكت التعديل الرابع لدستور الولايات المتحدة، والذي يحمي الأميركيين من "عمليات التفتيش والضبط المفرطة" من قِبَل المسؤولين الحكوميين، زعم بيكر أن المحكمة العليا أصدرت حكمها بشأن القضية لصالح الوكالة. كما زعم أن المحكمة في قضية كلابر ضد منظمة العفو الدولية في الولايات المتحدة قضت بتخلي الناس عن خصوصياتهم على الإنترنت. ولكن قضية كلابر كانت تدور حول انتهاكات الخصوصية المتعلقة بأشخاص خارج الولايات المتحدة.

وقد انعكست النقاط التي تحدث فيها بيكر مؤخراً في رسالة من وكالة الأمن القومي إلى أُسَر موظفيها، أعربت فيها الوكالة عن أسفها من أن التقارير الصحفية "المهوَّلة" صورت الوكالة بوصفها "عنصراً مارقا" بدلاً من اعتبارها "كنزاً وطنيا". وهي أيضاً تحتوي على أباطيل، وتشجع أفراد الأسر على تكرارها. على سبيل المثال، تعيد الرسالة طرح ما زعمته وكالة الأمن القومي من أن برامج المراقبة التي تديرها أحبطت "54 مؤامرة إرهابية" ــ وهو الزعم الذي كان موضع طعن متكرر من قِبَل وايدن ويودال، بين آخرين، باعتباره يفتقر إلى أي دليل.

كما شهدت خشبة المسرحة لحظات أخرى غير عادية. فقد رفع روسبريدجر قرصاً صلباً لكمبيوتر يحمل وثائق سربها سنودن. وقد أحدث موظفون في الجارديان ثقباً عبر ذلك القرص الصلب بدلاً من تسليمه إلى الحكومة البريطانية. وهو يحمل ذلك القرص معه في كل مكان كما يزعم.

وكان الأمر الأكثر ترويعاً رغم ذلك هو ما تم في النهاية من حوار. فبعد فشله الواضح في إقناع جمهوره، قدم بيكر رداً مذهلاً على سؤال مراسل صحيفة هافينجتون بوست حول مراسل فوكس نيوز جيمس روزين، الذي قامت وزارة العدل الأميركية بتفتيش بريده الإلكتروني وسجلات هاتفه بعد التقرير الذي نشره عن مواد سرية تتعلق بكوريا الشمالية. فقد سأله المراسل: "هل سنشهد المزيد من هذه التحقيقات؟"

فأجاب بيكر بأن نشر معلومات مسربة كما فعلت صحيفة الجارديان أمر يختلف تماماً عن أمر أشد خطورة ويتمثل في الانخراط في "مؤامرة إجرامية" من خلال "التماس" معلومات سرية مسربة. ثم قال إن صحيفة الجارديان "رسمت خطاً أحمر" في ما يتعلق بهذا الصدد ــ وأن الجارديان ذاتها عَبَرت ذلك الخط الأحمر في تقريرها حول التسريب المادي من قِبَل سنودن؛ واستخدم مصطلحات مثل "مؤامرة إجرامية" و"المتآمرين" عدة مرات عند تلك النقطة من الحوار.

وارتفعت الهمهمات بين الجمهور، وصيحات مثل "أنت هددتهم!" ثم ساد الصمت على المسرح، ربما بفعل الصدمة. ثم طلب روسبريدجر من بيكر، بقدر كبير من حضور الذهن وأكثر من مرة، أن يكرر ما قاله للتو. وفعل بيكر ذلك. كما طلب روسبريدجر من بيكر عدة مرات أن يوافق على أن صحيفة الجارديان لم تنخرط في "مؤامرة إجرامية" من خلال "التماس" معلومات سرية مسربة. ومن الواضح أن روسبريدجر كان يسعى إلى ترسيخ سجل يستطيع به أن يدافع عن الجارديان ضد ما أدرك على الفور أنه من المحتمل أن يُعَد تهمة جنائية ــ وهي الفكرة التي بدا الأمر وكأن بيكر يروج لها.

ولكن ماذا يعني تعبير "التماس" هنا؟ هل يعني الرد على مكالمة هاتفية من أحد المصادر؟ وهل يعني الالتقاء بأحد المحررين لمناقشة مصدر يقدم معلومات سرية؟ هل يعني إعداد حساب بريد إلكتروني مشفر لذلك المصدر، كما فعل جرينوالد بطلب من سنودن؟ كنا نطلق على كل ذلك في الماضي مسمى "مراسلة صحفية".

الواقع أن التهديد الذي أطلقه بيكر بإقامة دعوى قضائية في غرفة مليئة بالمراسلين الصحافيين بدا وكأن المقصود منه خنق التقارير الصحفية الخاصة بالأمن القومي. بل إن بيكر أشار إلى تهديد مماثل مطبوع، زاعماً أن الجارديان، عندما اختارت تدمير بعض مواد تابعة لسنودن في حضور ضباط من الاستخبارات البريطانية، بدلاً من تسليمه إليهم، فإنها اختارت في نفس الوقت "التضحية بمصادر استخبارات المملكة المتحدة وأساليبها". واقتربت لغته من التحذير من أن مراسلي الجارديان المعنيين قد توجه إليهم تهمة "مساعدة العدو"، والتي تشكل أحد عناصر قانون التجسس الأميركي.

وسرعان ما أدرك الصحافيون الحاضرون ذلك التهديد. والواقع أن بيكر لم يسع إلى إرهاب الجارديان فسحب؛ بل إنه كان حريصاً على بث رسالة إلى كل مراسل في أميركا: إما أن تعمل لصالح وكالة الأمن القومي أو تخرج من المشهد تماما.

* من قياديات ما يسمى بـ"الموجة الثالثة" ومؤلفة كتاب "نهاية أميركا: رسالة تحذير إلى شاب وطني"، وكتاب "أعطني حريتي: دليل الثوريين الأميركيين"

http://www.project-syndicate.org/

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 2/تشرين الاول/2013 - 25/ذو القعدة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م