وللمآذن شكواها في أمة طال من الرجال لحاها

د. نضير الخزرجي

 

لكل منّا ذكرياته، كثرت مشاهدها أو قلّت، بعضها يسقط من صفحة الذاكرة سقوط أوراق الشجر في فصل الخريف، وبعضها يحفر في صفيحة الذاكرة اخدوداً يطل عليه الإنسان بين الفترة والأخرى يتطلع إلى قاعه وحافّاته، ولعلّ واحدة من ذكريات الصبا، مواظبتي على سماع ما يصدح عن مأذنة الإمام الحسين(ع) في كربلاء المقدسة من أذان وقرآن وأدعية ومناجات وإعلان عن رحيل عالم أو وفاة وجيه، وبخاصة وإن منزل العائلة ومسقط رأسي لا يبعد عن المرقد الشريف سوى بضع مئات من الأمتار، وخير الأوقات ما كان فيه المنام على سطح الدار فيأتي الصوت متموجاً هادراً يقطع سكون الليل، ينفذ الى القلب والناس نيام، فصوت المرحوم الحاج جواد المؤذن، المتوفى عام 1970م، لا يُنسى، وهدير الاوتار الصوتية للحاج مصطفى الصراف، المولود في مدينة الحسين(ع) عام 1950م، ترك في الفؤاد آثاراً لا تُنسى الى اليوم، وعلى الرغم من ثقل السنين التي حملها ظهره في ديار الغربة والهجرة القسرية لربع قرن، فإن التوفيق الإلهي كان حليفه مع سقوط النظام البائد عام 2003م وراح صوته من جديد يصدح من مأذنتي الإمام الحسين(ع) وأخيه العباس(ع)، ورحنا معه نجدد الذكريات كلما نالنا التوفيق الإلهي بزيارة ملاعب صبانا.

لم يتعامل الحاج مصطفى الصراف مع موقعه الذي حباه الله عام 1970م تعاملا مجرداً من المسؤولية، فقد وظّفه بطريقة ذكية لمقارعة سياسة النظام البائد القائمة على كم الأفواه وسلب الأفراح والأرواح، فكان من دأبه وهو يرتل القرآن الكريم قبيل رفع الآذان وبخاصة في أيام المناسبات حيث تكتظ المدينة بالزائرين التركيز على تلاوة الآيات الكريمة التي يخاف منها أزلام السلطة، وفي إحدى المرات استمعت اليه وهو يتلو قوله تعالى: (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) سورة التوبة: 32، وكرر القراءة نحو أربع مرات مع تنوع في التجويد، ولمعرفتي الشخصية به بحكم الجيرة والعمل الإسلامي على صغر سنّي آنذاك، أحسست وأنا استمع له أنه سيتعرض للمسائلة من قبل السلطة، وهو ما حصل بالفعل، لكن عذره في التخلص من استجواب رجال السلطة أنه يجوّد الآية بقراءات متنوعة، وفي إحدى المرات وكان ذلك عام 1978م على ما أذكر أعلنت السلطة الحاكمة عن بداية عيد الفطر في اليوم التالي فيما كانت النجف الأشرف قد اعلنت عن تماميته لشهر رمضان المبارك، فأُجبر الحاج الصراف على إعلان العيد، ولكنه بدل أن يقرأ إعلان العيد تلا دعاء السحر إيذاناً بأن اليوم التالي هو يوم صوم، ومن الطبيعي في ظل نظام متسلط، أن الموقف الشجاع لمؤذن المرقد الحسيني ومواقفه السابقة كلفته السجن والمطاردة والإبعاد القسري عن العراق مع أهل بيته، بيد أن الأيام دول، فقد عاد المؤذن وعادت معه أجواء كربلاء مشحونة بصوته الشجي، وبجهوده المتواصلة في إقامة مجالس تعليم القرآن الكريم وتجويده.

تلك صورة نعيش ذكراها ونعايش حوادثها المتجددة، في المقابل ينقل شهاب الدين أبو الفتح الأبشيهي المتوفى عام 1448م، صاحب كتاب "المستطرف في كل فن مستظرف" 2/518، أن تاجراً ذات يوم دخل مدينة حمص في الشام وسمع المؤذن يرفع الأذان وهو يقول: (أشهد أن لا إله إلا ألله وأن أهل حمص يشهدون أنَّ محمداً رسول الله) فهاله الأمر، وفي قصة طويلة رأى فيها التاجر العجائب والفظائع ما تخرج معها الإنسان من عقله قبل دينه، ذهب إلى إمام المدينة يستفسر منه عما سمعه ورآه، فردّ عليه الإمام (!): (يا جاهل إن مؤذننا مرض فاستأجرنا يهودياً صيّتا يؤذن مكانه فهو يقول ما سمعت)!. وخرج التاجر من حمص وأقسم أن لا يعود إليها أبداً، وما أشبه اليوم بالبارحة حيث راح المتفيقهون يعملون ويفتون بما يهز كرسي الرحمان وعرشه.

هذا مؤذن وذاك مؤذن، لا يجتمعان على رصيف واحد مادامت السماوات والأرض، قفزا الى الذاكرة وأنا أتابع بالقراءة كتيب "شريعة الأذان" للمحقق الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق بن محمد الكرباسي الصادر حديثا (2013م) في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 56 صفحة مع مقدمة وسبع عشرة تعليقة على 103 مسائل خطها القاضي الفقيه آية الله الشيخ حسن رضا بن مزمل حسين الغديري.

وظيفة خطيرة

من معاني مفهوم "الأذان" النداء والإعلام والدعوة والإخبار، ومن هنا جاء في القرآن الحكيم: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) سورة الحج: 27، وقوله تعالى (وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) سورة التوبة: 3، ومنه قوله تعالى في قصة يوسف: (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) سورة يوسف: 70، ومنه قوله تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) سورة إبراهيم: 7، ومنه قوله تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) سورة الأعراف: 167، فكلمة الأذان ومشتقاتها وردت في مواقع مختلفة ودلالاتها تصب في مورد واحد يهدف الى شدّ الأنظار الى نقطة على غاية من الأهمية، فمرة دعوة الى الحج وأخرى إعلان البراءة من المشركين وثالثة اخبار جموع الناس عن سرقة شيء ثمين، ورابعة إعلام البشرية بأهمية الشكر في الحياة اليومية لزيادة الرزق وديمومته، وخامسة تحذير من سوء العاقبة، وهكذا تتعدد المقاصد، ولكنّ الكلمة في المحصلة النهائية رست على الدعوة إلى الصلوات اليومية المفروضة، فالأذان نداء الى الصلاة وإعلام الأمة بحلول وقتها، وما أعظمها وكما يقول رسول الإنسانية محمد بن عبد الله(ص): "الصلاة عمود الدين .. إنْ قُبلت قُبل ما سواها، وإنْ ردَّت رُدَّ ما سواها" بحار الأنوار: 10/394.

ولأنّ الأذان إعلام ونداء ودعوة وبيان، فإنه لابد لمن يرفعه أن يتحلى بمواصفات تميزه عن غيره، منها: الإسلام، والعقل، والرجولة لعموم المسلمين والمرأة لخصوص النساء، ويرى الفقيه الكرباسي استحباب العدالة ضمن شروط المؤذن كالعدالة التي تُشترط في إمامة الصلاة، ولأهمية الموقع فقد أوصى الرسول(ص): "ليؤذن لكم خياركم" منتهى المطلب للعلامة الحلي: 1/257، وكان المعصوم بنفسه يرفع الإقامة والأذان، فقد ورد في الأثر أنَّ الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع): (كان يقيم بعد أذان غيره ويؤذن ويقيم غيره). التهذيب: 2/281، ح1117، فلم يكن بلال الحبشي التي تولى رفع الأذان رجلاً عادياً، فهو من خيار الصحابة، ولم يكن الإمام الصادق(ع) عالماً من علماء المسلمين، فهو إمام معصوم مفترض الطاعة وهو رأس مذهب الإمامية عندما يجري تصنيف المذاهب الإسلامية، وهو السادس من أئمة أهل البيت(ع) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.

وبالرغم من أهمية الأذان بيد أن المواقف اختلفت من أمة إلى أخرى ومن بلد لآخر، فالبعض استسهله إلى درجة أن تقام الصلاة والجماعة في بعض مساجد المسلمين دون أن يرفع في مربعهم الأذان، والبعض منع من رفع الأذان في المآذن نزولاً عند رغبة النائمين(!)، وبعض الحكومات الغربية التي يتواجد فيها مسلمون تتوجس من الإسلام خيفة فتحظر على المسلمين رفع الأذان، وبعض الدول عزف أهلها عن الأذان فتوسلوا بالوافدين كما في السعودية حتى اضطرت وزراة أوقافها في العام 2012م إلى إصدار تعليمات تؤكد من جديد على أهمية أن يكون إمام الصلاة والمؤذن من أصل سعودي وعدم ترك المهمة للوافد إلا عند الضرورة، وبعض الجهات عملت خلاف التيار العام وراحت تتودد للمسلمين عبر الأذان كما فعلت القناة الإنكليزية الرابعة ولأول مرة في تاريخ الإعلام البريطاني عندما رفعت خلال شهر رمضان للعام 1434هـ (2013م) الأذان فجر كل يوم، ومن المفارقات الظريفة وبمناسبة ورود ذكر شهر رمضان في سياق الحديث عن الأذان، فإن المسلمين في مدينة عكّا عزَّ عندهم منادي السحور الذي هو الآخر نوع من أنواع الأذان والدعوة الى الاستيقاظ من أجل يوم رمضاني جديد، فراح الفلسطيني المسيحي ميشيل فرج أيوب البالغ من العمر 37 عاماً من قرية المكر في عكا ومنذ عام 2006م يدور مع طبلته في الأسواق والأزقة ينادي المسلمين إلى السحور (محمد سواعد، مراسل موقع بانيت وصحيفة بانوراما الفلسطينية، 29/9/2008م).

مغالطات تاريخية

ولما كان "الأذان" له هذه الأهمية والمدخلية للصلاة التي هي عمود الدين وبها يُعرف الملتزم من غيره وبها يضمن المرء مستقبله في جنة الخلود أو خلود الجحيم، فإنَّ الفقيه الكرباسي يرفض الرواية القائلة بأن الأذان ورد من رؤية لأحد الصحابة رآها في عالم المنام، إذ: (أي هراء هذا؟ أيمكن أن تقوم شريعة بهذه العظمة من رؤيا بعض الناس) وأين ذهب الوحي؟ وهل ظل طريقه؟ وهل غامت الرؤية عنده في يوم ممطر، فينزل على عبد الله بن زيد ويتخلف عن محمد بن عبد الله(ص)؟ ومن هنا فقد روي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع) أنه لعن قوماً زعموا أن النبي(ص) أخذ الأذان من رؤيا صحابي، وقال: (ينزل الوحي على نبيكم، فيزعمون أنه أخذ الأذان من عبد الله بن زيد) بحار الأنوار: 81/122

واختلف المسلمون في الشهادة الثالثة (أشهد أن علياً ولي الله) كما اختلفوا في (حي على خير العمل)، واختلفوا في (الصلاة خير من النوم)، ومن رأي الفقيه الكرباسي أن الشهادة بالإمامة بعد الشهادة بالتوحيد والنبوة: (جزء من الأذان والإقامة لا تختلف عن سائر فصول الأذان) ويعلق الفقيه الغديري بهذا الخصوص بالقول: (إتيان الشهادة الثالثة يستحسن وفيه رجحان لكونه من مظاهر الإيمان ومن الشعائر المفروض تعظيمها ويثبت استحبابه من العمومات دون الأدلة الخاصة، ويعضده قاعدة التسامح في أدلة السُّنن لو قلنا بشمولها لما نحن فيه والحق عدم المانع لشمولها للمورد بل وتثبت الجزئية من العمومات)، كما توزعت المذاهب الإسلامية بين القول بحي على خير العمل من عدمه، ومرجع المنع في ذلك سنّة الخليفة عمر بن الخطاب وعذره في ذلك في ردّه على من اعترض عليه: (إذا سمع عوام الناس إنَّ الصلاة خير العمل تهاونوا بالجهاد وتخلّفوا عنه) دعائم الإسلام: 1/144، وأضاف الى أذان الإعلام لصلاة الصبح (الصلاة خير من النوم) الفتوحات المكية: 1/400.

ولا غبار أن الأذان يفتح من القلب مغاليق أقفاله ويشرع من النفس مصاريع أبوابها ولاسيما إن كان رافعه ذا صوت حسن وطور جميل دون ترجيع، وهو نور لمن ألقى السمع وهو شهيد، ومن وصايا المصطفى محمد(ص) للمرتضى علي(ع) بعد ذكر فلسفة الأذان وأجزائه: (يا علي: الأذان نور فَمَنْ أجاب نجا ومَنْ عجز خسف وكنت له خصماً بين يدي الله، ومن كنت له خصماً فما أسوأ حاله) مستدرك الوسائل/ 4/55-56، فمن عدِم نور الأذان كان خصم النبي(ص) يوم لا ينفع مال ولا بنون، فكيف به إذا عدِم نور الصلاة؟ ولا يعدم المعني كنهَ الجواب (بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ. وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) سورة القيامة: 14، 15.

* الرأي الآخر للدراسات- لندن

http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/nazeeralkhazraji.htm

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 2/تشرين الاول/2013 - 25/ذو القعدة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م