هل روحاني مناورة خامنئية؟

محمد قواص

 

يروي أحد الزملاء العاملين في إحدى وسائل الإعلام الأميركية أنه زار بيروت قبل سنوات، فاهتم أحد الدبلوماسيين الإيرانيين في لبنان بلقائه من خلال صديق مشترك. أصرّ الدبلوماسي على التلميح بأن الزميل يعملُ مع وكالة المخابرات الأميركية، رغم محاولات الزميل عبثا نفي ذلك. لكن الدبلوماسي لم يكن منزعجا من فكرة العمالة، وبدا أنه يفضلها للزميل عله بذلك يوصل الرسالة التي يريد للإدارة الأميركية. كانت رسالة الدبلوماسي مفاجئة ببساطتها: لا يهمنا البرنامج النووي، ما يهمنا هو الحفاظ على النظام السياسي مع ما يتطلبه ذلك من نفوذ في المنطقة.

في بساطة الكلمات اختصار للبّ المعضلة. تشعر طهران، ومنذ إرساء نظام الجمهورية الإسلامية، بأن الحكم فيها ظاهرة عرضية مؤقتة لم يقتنع العالم بديمومتها. وربما ذلك ما يفسّر هذا النزوع الدائم لدى طهران نحو صناعة المعارك حول إيران. في ذلك دفع لشرور وتحصين طويل الأجل لنظام يتعايش مع فكرة الحرب والمؤامرة والخطر الأزلي.

فلسفة البقاء، وليس العيش، تفرض نفسها على خطاب وسلوك الحاكمين في إيران. تنشرُ طهران خيوطها من اليمن إلى لبنان مرورا بالخليج والعراق وفلسطين ولبنان. تُنمي نفوذا صوب الشرق دعماً للشيعة في باكستان وأفغانستان، فيما سفنها ترسو في مرافئ السودان سعياً لتمدد أطراف تغذي المركز. لا تنسج خيوط إيران، أو بعضها، بساط استمرار واستقرار.

هي فقط ورش تبعث رسائل تروم حضور طهران في شارد المنطقة وواردها. بكلمة أخرى، تقول إيران للعالم: تعالوا نحلّ المشاكل التي نساهم في تخصيبها. على تلك القاعدة التي حكمت منطق الحكم الإيراني ينطلق الرئيس الشيخ الدكتور حسن روحاني في سعيه الحثيث.

قبل أيام نشرت صحيفة النيويوركر الأميركية تقريرا تتهم فيه إيران وسوريا بالوقوف وراء اغتيال رفيق الحريري. لكن التقرير يسهب في عرض وقائع التعاون التي سجلت بين واشنطن وطهران قادها بحرفية عالية قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري اللواء قاسم سليماني. جرى التعاون في ملفات أفغانستان والعراق والقاعدة. كان الهدف تقديم خدمات تتسق مع مصالح النظام الإيراني، لكنها تتطابق تماما مع أجندات الغرب في المنطقة. وما ساقته الصحيفة ليس جديدا، لكنه يعبّر عن قدرة إيران على المرونة وسلوك مخارج تتناقض مع الخطاب العلني صونا لبقاء النظام وصموده (فضيحة إيران غيت في الثمانينات تختصر ذلك).

عشية توجهه إلى نيويورك وفي اطلالة للرئيس الإيراني على العالم من خلال منبر الأمم المتحدة، كتب روحاني مقالا في الواشنطن بوست بعنوان «لماذا تسعى إيران إلى مشاركة بناءة؟».

في عنوان المقال ما يوحي أن طهران لم تكن قبل ذلك تسعى لتلك المشاركة، وأن لها أسبابها التي تجعل من تلك المشاركة حاجة إيرانية، لا مناورة بازار أخرى.

يتقدم روحاني إلى العالم متسلحاً ببرنامجه «الحكمة والأمل» الذي فاز على أساسه بالرئاسة في إيران. أخبر الرجل الإيرانيين قبل ثلاثة أشهر أنه ينوي الانفتاح على العالم وإخراج إيران من عزلة ساقها للبلد الثنائي خامنئي- نجاد. تسلّح روحاني بالمفتاح رمزاً لحملته، ففي الرمز صورة لغابة الأبواب التي تنتظر من يحرر أقفالها. بذلك البرنامج وذلك الرمز يُقبل الرئيس الإيراني الجديد على العالم من نيويورك. يكتشف روحاني في مقاله في الواشنطن بوست أن «العالم تغيّر.. وهو ساحة متعددة الأبعاد، وغالبا ما يحدث التعاون والتنافس فيها بشكل متزامن». هو ليس اكتشافا، بل استنتاج تجربة التصادم التي عاشتها إيران مع الغرب والتي أثمرت هدايا قدّمها هذا الغرب لإيران من خلال إسقاط نظامي أفغانستان والعراق الخصمين للحاكمين في طهران.

الوصفة جاهزة عند روحاني. يتحدث عن مشاكل العالم: «الإرهاب والتطرف والتدخل العسكري الخارجي وتجارة المخدرات والجرائم الإلكترونية والتعدي الثقافي». لم يتحدث الرجل عن الاستكبار والشيطان الأكبر وتحرير فلسطين ورمي اسرائيل في البحر. يخترع روحاني صيغة طوباوية يعرّفها بـ«المشاركة البناءة»، أي أن تحقق مصالح طرف تشترط الأخذ بالاعتبار مصالح الآخرين. في المقاربة شيء من الـ«روحانية» التي لا تفصح عن المصالح التي تراها إيران قابلة للهضم من الإيرانيين وبلدان الجوار والعالم.

فجأة تصبح إيران شريكا كاملا للولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب. يتوجه روحاني للأميركيين في مقاله مذكّرا بالإرهاب الذي حل بالعالم منذ الحادي عشر من سبتمبر، آخذا على الحكم في واشنطن ما خطه في كلمات: «تحقيق الأمن الذي يأتي على حساب عدم أمن الآخرين يقود إلى عواقب كارثية». ويمرر «شماتة» برشاقة لئيمة: «القاعدة والجماعات المتطرفة لا تزال تعيث فسادا»، ورد الفعل الأميركي عاث فسادا في المنطقة (وهو أمر لمّح إليه مجددا في كلمته في نيويورك).

ينذر روحاني العالم أن القوة لن تحلّ مشاكل الإرهاب والتطرف، ويتبرع بحلول «تسعى إلى حل هذه القضايا من خلال التعامل مع أسبابها الكامنة». وحين البحث عن الأسباب الكامنة، ستقف إيران تعرض وصفات الحل شريكاً في كل الطبخات على اللائحة. يخبر روحاني العالم أن لا حلّ لقضايا الشرق الأوسط دون تعاون مع إيران، ذلك البلد الذي يحق له التمتع ببرنامج نووي سلمي. فالأمر «يتعلق بهوية وكرامة الإيرانيين»، على حدّ قوله.

يتطوّع روحاني للمساعدة في حلّ ملفيّ البحرين وسوريا. في ذلك تأكيد لمدى النفوذ الذي تملكه طهران لدى المعارضة في البحرين ولدى النظام في سوريا. في الاقتراح طموح شرس للحصول على اعتراف دولي بمفصلية النفوذ الإيراني في تقرير شؤون المنطقة.

انتخب الإيرانيون رئيسا جديدا نادى بخطاب انفتاحي مرن وواعد. في إقبال الإيرانيين على اختيار الرجل إسقاط لخشبية يمثلها المرشد والمؤسسات التي تنهل من زاده، وتخلّص من سلوك لم يعد يشبه الإيرانيين في الراهن والمستقبل. لكن روحاني رجل من هذا النظام، مدافع عن صموده وتطوير سبل بقائه. بمعنى آخر يعود الرئيس الجديد ليطرح ما سربه الدبلوماسي الإيراني في استقباله لزميلنا: الحفاظ على النظام مع ما يتطلبه ذلك من نفوذ في المنطقة.

يكرر روحاني لازمة حق إيران في امتلاك برنامجها النووي السلمي. واللازمة مضجّرة طالما أن هذا العالم يعترف لإيران بهذا الحق (تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية).

لكن تلك اللازمة أضحت لزوم الشغل في الخطاب الداخلي في إيران، لا يقدم ولا يؤخر على مستوى التعاطي مع العالم. هل يعني ذلك أن روحاني مناورة خامنئية شكلية؟ لا قطعاً. شيء كبير تغيّر في إيران عبّرت عنه صناديق الاقتراع. واقتراع العامة قد لا يمثل انقلابا على النظام السياسي، طالما أن الرئيس المنتخب يعتبر صقرا من صقور النظام (تم دعمه من قبل خاتمي ورفسنجاني)، ولكن الاقتراع نفسه يمثّل حاجة النظام إلى الخروج من مأزقه. إيران ما زالت تبحث عن سرّ البقاء فما الذي تغيّر.

ربما يأمل الإيرانيون أن العالم هو الذي تغيّر. بإمكان روحاني (وإيران من ورائه) أن يلاحظ أن العالم تبدل. انتهى عصر بوش ومحافظيه الجدد، لم يعد الغرب يعدو نحو الخيارات القصوى لحسم تحدياته. يتأمل روحاني ذلك التردد الذي يستوطن سلوك العالم الغربي بقيادة الولايات المتحدة، ويتأمل في الوقت عينه تلك الصبيانية التي تتعامل بها روسيا مع التردد الغربي. لكن طهران تشعر أن خطاب الممانعة سقط عند حماس في فلسطين، ويتخبط عند حزب الله في لبنان، وينتهي عند النظام السوري في دمشق، ويترهّل عند نظام البشير في الخرطوم. وتدرك إيران أن معركة سوريا تشهد فصولها الأخيرة، وأن منظومة إيران الإقليمية كلها تتهاوى في كل يوم مع تهاوي لزومية بقاء الأسد في دمشق.

تواكب طهران بقلق عملية تفكيك أسلحة الدمار الشامل في سوريا، مع ما يمكن لتلك السابقة أن تؤسس لعملية تفكيك أي برنامج يؤدي إلى سلاح دمار شامل في إيران. في موسم التأمل تدفع إيران بارتباك بكل أوراقها دفعة واحدة وكأن موسم الحصاد قد دنا.

تدفع طهران بحزب الله إلى سوريا، بينما قادتها العسكريون يشرفون على حركة جيش النظام. تخترق خطب المرشد أجواء التفاؤل الروحانية بجرعات من وصفات التشدد العتيقة. يستمع القادة في طهران إلى رسائل الأميركيين يحملها سلطان عمان ويستقبلون باهتمام جيفري فيلتمان، واحد من صقور الإدارة الأميركية، بصفته الرسمية مساعدا للأمين العام للأمم المتحدة.

بدا الجانب الإيراني في نيويورك يستجدي القمة بين روحاني وأوباما. وكان غريباً أن تهرول طهران للقاء مع زعيم الدولة التي تفرض عليها العقوبات وتهددها بالخيارات العسكرية القصوى. رفضت طهران اللقاء العابر بين الزعيمين، ذلك أنها ما زالت تطمح للقاء يوحي بالمشاركة والاعتراف. أمر لم ينضج حتى الآن.

إيران تغيّرت. وهي مجبرة على التغيّر، ومضطرة أن تستمع إلى صوت العقل. العقوبات لئيمة تظهر نضوبها نافرة على الجسد الإيراني. فيما الجمهور الإيراني الذي صوّت لروحاني، يعيش انفصاما عن نظامه، ويحلم بعيش لا تدخله مفردات التشدد التي لم تعد تتسق مع مزاج العامة والنخب. هو زمن روحاني وعلينا المراقبة والتأمل.

* صحافي وكاتب سياسي لبناني

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 30/أيلول/2013 - 23/ذو القعدة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م