العفو يتقدم على العقاب

مئة كلمة وكلمة في قواعد الحياة

 

شبكة النبأ: توجد في كتاب نهج البلاغة لأمير المؤمنين، الامام علي بن ابي طالب عليه السلام، قواعد للفكر والسلوك، يمكنها، فيما لو التجأ إليها الفرد والمجتمع، أن تفتح مسارات صحيحة لهذا البناء، شريطة الالتزام بالتطبيق بعد الايمان بها، وهي من نوادر الحكم وجواهر الكلم، وكلنا نتفق على ان الانسان يحتاج الى قواعد صحيحة للبناء، لكي يبني حياته بالصورة الصحيحة، وطالما ان المجتمع يتكون من مجموع الافراد وتقاربهم مع بعض، فإن المجتمع برمته يحتاج الى تلك القواعد السليمة حتى يبني عليها حياته، وهذه القواعد موجودة في نهج البلاغة، إذ تهدف سلسة مقالات (مئة كلمة وكلمة)، أن تصل الى قواعد تساعد الانسان على البناء السليم، لاسيما اننا نعيش في عالم محتقن، تحكمه ضوابط ومصالح وأخلاقيات مادية بحتة.

عندما نقول أن العفو يتقدم على العقاب، فإننا لا نعني بذلك غض الطرف عمن يرتكب الجرائم والتجاوزات الكبيرة بحق الاخرين، ولكن هناك انواع كثيرة من الزلل يمكن معالجتها بالتسامح، والتغاضي عن الاخطاء، خاصة عندما يكون مرتكب تلك الاخطاء مستعدا للتصحيح والاعتذار، وعدم العودة الى ارتكاب التجاوزات والاخطاء والجرائم نفسها.

في مثل هذه الحالة يكون العفو بمثابة منح الفرصة لمن يرتكب الخطأ، حتى يعود الى وضعه السليم الاعتيادي في المجتمع، لكي يبقى عنصرا فاعلا وقويا ومنتجا على المستوى الفردي والمجتمعي ايضا، هنا يكون العفو طريقة لمعالجة الاخطاء التي قد يتعرض لها كل انسان، ولا يعني العفو هنا السماح بالانحراف والانجراف نحو مجتمع تسوده الفوضى والتجاوزات، أما على المستوى الفردي، فإن القوي اذا كان مبادرا الى العفو فهو الاقرب الى مرضاة الله تعالى، لذلك يقول الامام علي بن ابي طالب عليه السلام، في نهج البلاغة بهذا الخصوص: (أَوْلَى النَّاسِ بِالْعَفْوِ أَقْدَرُهُمْ عَلَى الْعُقُوبَةِ).

الله عفو غفور

لكي يكون الانسان اقرب الى العفو من سواه، كان النموذج الامثل هنا هو الله تعالى، كما ورد في الآية الكريمة التي تؤكد بأن الله الرحمة يقدم العفو على سواه، فقد ورد في الوكيبيديا أن الله تعالى قال في كتابه الكريم: (إن الله لعفو غفور)، وهو الذي لم يزل، ولا يزال بالعفو معروفاً، وبالغفران والصفح عن عباده موصوفاً وهو الذي يتجاوز عن الزلات بفضله وكرمه فلا يعاقب عليها ولا يعاتب صاحبها مبالغة في إكرامه له وعطفه عليه ولا يذكره بها حتى لا يحرجه ويخجله ويمحو آثارها محوا تاما وينسيه إياها وينسي كذلك الحفظة حتى لا يشهدون عليه وينسي جوارحه والأرض التي عصاه عليها وهذا هو العفو في أسمى صوره وأرقى معانيه. كل أحد مضطر إلى عفوه ومغفرته، كما هو مضطر إلى رحمته وكرمه، وقد وعد بالمغفرة والعفو، لمن أتى بأسبابها، ذكر القرآن : (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى).

والعفوُّ هو الذي له العفو الشامل الذي وسع ما يصدر من عباده من الذنوب، ولاسيما إذا أتوا بما يسبب العفو عنهم من الاستغفار، والتوبة، والإيمان، والأعمال الصالحة فهو الله يقبل التوبة، عن عباده ويعفو عن السيئات، وهو عفو يحب العفو ويحب من عباده أن يسعوا في تحصيل الأسباب التي ينالون بها عفوه: من السعي في مرضاته، والإحسان إلى خلقه، ومن كمال عفوه أنه مهما أسرف العبد على نفسه ثم تاب إليه ورجع غفر له جميع جرمه صغيره وكبيره، وأنه جعل الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها قال الله: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ان الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم).

من هنا غالبا ما يفتح العفو طريقا جديدا الى الافراد الذين تجاوزوا على الاخرين بطريقة أو اخرى، وهذا يمنحهم الفرصة للعودة الى المجتمع بطريقة سليمة، وهذا السلوك السليم هو الذي يساعد على بناء المجتمع المنتج المستقر وليس العكس، كما تؤكد التجارب التي مر بها المسلمون وسواهم من المجتمعات التي اصبحت اليوم في المقدمة من حيث الانتاج والتطور والاستقرار، بسبب التزامها بمنهج التسامح والعفو عند المقدرة.

القوي الأقرب للعفو

عندما يكون الانسان ضعيفا ويعفو، فهو قد يكون مضطرا لذلك، كونه لا يملك قوة العقاب، لهذا لا يكون الضعيف صاحب فضل مثل القوي القادر على العقاب ويعفو عمن يتجاوزون على حقه او يجرمون بحقه، لأي سبب من الاسباب، لهذا يرتبط العفو وفضله، بالقوي الذي يقدّم العفو على معاقبة من يخطئ فيه، ويتجاوز على حقوقه، لهذا أكد الامام علي بن ابي طالب سيد البلغاء عليه السلام، على الميزة الكبيرة التي يتحلى بها القوي عندما يكون اقرب للعفو من سواه، كما قرأنا في القول ذائع الصيت (أَوْلَى النَّاسِ بِالْعَفْوِ أَقْدَرُهُمْ عَلَى الْعُقُوبَةِ).

إن التمعن في هذه الكلمات القليلة التي تختزن معان كبيرة، تجعلنا جميعا اقوياء او ضعفاء، لا نفكر بالعقاب قبل العفو، نظرا للمزايا الكبيرة والعظيمة التي ستتبع العفو اذا قدمناه على المعاقبة، ذلك أن الانسان المخطئ عندما يشعر بضعفه الكبير وحالة الذل والخوف التي تحيط به، وفجأة يجد ان فرص الحياة السليمة قائمة لديه من خلال العفو الذي يهبه إياه صاحب الحق، انما تعد هذه الخطوة بمثابة، اعادة الروح الى جسد قارب الموت، هذا التشبيه لا ينطوي على مغالاة، خاصة مع المعاصي الكبيرة التي يقع بعض الناس في فخها، ويرتكبها في حالة طيش او غضب او حماقة، حيث يصعب عليه التحكم بأعصابه وسلوكه، فيرتكب الخطأ او التجاوز او الجريمة بحق الآخر، فيغدو عند ذاك كالطائر العليل الذي يطير بجناح مكسور، لا هو قادر على مواصلة الحياة، ولا هو منفصل عنها، لهذا عندما يمنح القوي العفو لمثل هؤلاء، انما هي اعادة لهم للحياة السليمة.

لذلك يدفعنا نص الامام عليه السلام، الى تقديم العفو عند القوة على سواه، في التعامل مع من يتجاوز او يخطئ او حتى يجرم بحقنا، مع الاخذ بنظر الاعتبار عدم التكرار، والتوبة عن اقتراف التجاوز، والامثال للعرف ومنظومة القيم التي يسير في هديها المجتمع.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 26/أيلول/2013 - 19/ذو القعدة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م