العاقبة للمتقين

الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي

 

((تلك الدار الآخرة، نجعلها للذين: لا يريدون علواً في الأرض، ولا فساداً. والعاقبة للمتقين)).

[(سورة القصص، الآية: 83)

 

هنالك ظنون: إن الله خالق القوة، والكون، والجنة، والنار... له كل شيء، وله القدرة على التصرف كما يريد. ولكنه – في الوقت ذاته – أناني، يحب الإطراء والمديح. وساذج، يمكن الهروب من ناره، ومغالبته على جنته، بكلمة استغفار بعد ألف عام من العصيان. كما يمكن إثارة غضبه، وحبط عمل ألف عام، بزلة بسيطة – تعالى الله عما يظنون –.

ويغذي هذه الظنون، ظاهر بعض الروايات القائلة بـ: (إن امرأة دخلت النار، في هرة ربطتها...)(3)، و: (إن عاهرة دخلت الجنة، لأنها سقت كلباً مشرفاً على الهلاك عطشاً)(4).

فيما الواقع: أن الله، خالق الفكر والذكاء، لا يمكن أن يؤخذ بالمكر والخداع. ولا يمكن أن تأخذه البساطة، إلى نسيان كل المعادلات التي ركز عليها الوجود، واعتبرها سنته، التي تحدث عنها فقال:

((... فلن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً))(5).

فمن الصعب الاطمئنان إلى صدق هذه الظنون، وإنما أظنها مفتعلة، اصطنعها الملحدون، وسمموا بها أوساط البسطاء، لتشويه عقائدهم. لأن أصحاب هذه الظنون – أنفسهم – إذا وقفوا أمام سياسي محنك، أو عالم مفكر، لا يفكرون في المغالطة والخداع، لأنهم يعتقدون أن لعبهم لا تنطلي عليه، ومجرد محاولتها يثير فيه سوء الظن، الذي يكشف جميع أوراقهم، فتعود بالكارثة عليهم، ويخسرون الموقف نهائياً. ولكنهم – بين يدي الله، الذي خلق كل المحنكين والمفكرين – يحاولون اللعب، ويجترئون على المجاهرة بعصيانه طيلة شبابهم، ظانين أنهم يتمكنون من استرضائه بكلمات – أو صلوات – في نهاية شيخوختهم. ومثل هذا الظن لا يكون واقعياً، وإنما مدسوساً على البسطاء الذين يفكرون بأدمغة غيرهم، وغطاء على الملحدين الذين يجاملون محيطهم المؤمن بأغطية إيمانية.

فالله الذي لا يخطئ شيئاً في التكريرات الكونية: فيختار الجزيئات الصالحة، من الطعام المختلط في المعدة، ويزود بها الجسم، ويدفع غيرها خارج الجسم. ويلتقط من الهواء، والماء، والشمس، والأرض... العناصر المنسجمة مع النبات، ويبعد غيرها عنه. ويستخرج الذرات العذبة من الماء الأجاج، ويرفعها مع الحرارة، ليعيدها – بعد حين – ماءً عذباً، يروي به المزارع، والإنسان، والحيوان... ويجري عمليات الاستخلاص الدقيقة، في كل شيء، دون أي خطأ؛ كيف يمكن أن يصطفي عناصر النار للجنة، ويحشر عناصر النور في جهنم؟! إن هذا... يشبه أن تتدلى الصخور البركانية من أغصان الورد وتقذف البراكين حزمات الرياحين.

فالجنة للعناصر المنسجمة معها، والسعير للعناصر المنسجمة معه.

فـ: ((تلك الدار الآخرة، نجعلها للذين)) خلصت نفوسهم، فما صدرت منها السيئات، ولا تفاعلت فيها النوايا السيئة. فـ: ((لا يريدون)) حتى ((علواً في الأرض))، مجرد العلو – الذي قد يكتسب بطرق مشروعة – لا يهاجسهم. لأن مجرد إرادة العلو، تعبير عن الأنانية التي تشوه النفوس، وتعيقها عن الارتفاع فوق الأرض، فيبقى صاحبها مشدوداً بالأرض. ومن تشده النوازع إلى الأرض، لا يكون خالصً للسماء:

((واتل عليهم: نبأ الذي آتيناه آياتنا، فانسلخ منها، فأتبعه الشيطان، فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها، ولكنه: أخلد إلى الأرض، واتبع هواه. فمثله كمثل الكلب: إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث. ذلك: مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا. فاقصص القصص لعلهم يتفكرون))(6).

فمن يخلد إلى الأرض لا يرفع عنها، وإنما يبقى من عناصرها.

((و)) لا يريدون ((فساداً))، مجرد إرادة الفساد لا تساورهم، حتى أحيان الغضب والفرح، وإنما يعيشون المقياس الأرفع من هواجس الأرض – في جميع الحالات –. فهؤلاء... هم عناصر الجنة، الذين جعل الله الآخرة لهم.

((و)) الحاصل: أن كل هذا الكلام من قبيل التفاصيل، وأما مجمل القول فهو: أن النتائج تتبع المقدمات، و ((العاقبة)) الحسنة ((للمتقين)) عن السيئات. وأما الذين تركبت مطامحهم وآمالهم من السلبيات، فتحركت نبضات أفكارهم وأعصابهم بالأمور السلبية؛ كيف يمكن أن يجدوا مجالهم في مصاف الإيجابيين، الذين تتابعت نبضاتهم وخطواتهم إلى الأمام؟! إلا إذا تساوى الهدَّام والبنَّاء، وإلا إذا التقى السائر إلى الوراء مع السائر إلى الأمام.

والمرأة التي دخلت النار في هرة، لم تدخل النار لمجرد هرة، وإنما كل حياتها سلبية، ولكن ظروفها ضغطت بها في الإيجابيات، حتى إذا وجدت حرية التعبير عن ذاتها، ألقت الحجاب عنها، فكان عملها الحر المعبر: حبس هرة، وتجويعها، وتعطيشها، حتى تأكل التراب، فتموت جوعاً وعطشاً.

والعاهرة التي سقت الكلب، لم تدخل الجنة في مجرد كلب، وإنما كانت كل حياتها إيجابية، ولكن ظروفها دفعت بها إلى السلبيات، حتى إذا وجدت حرية التعبير عن ذاتها، ألقت الحجاب المفروض عليها، فإذا بها تقص شعرها، لتمد الحبل إلى البئر، فتسقى كلباً عاطشاً.

فهذه النماذج، ليست الأسباب الوحيدة لتقرير مصائر الأفراد، وإنما هي مجرد تعبيرات، تكشف الذاتيات المتحركة في اتجاه السلب أو الإيجاب، فلا تؤخذ على أنها كل شيء في حركة المصير.

* من كتاب خواطري عن القرآن

....................................................

(1) سورة القصص: الآية 26.

(2) أكثر المفسرين أرجعوا ضمير الفاعل في: ((يشاء)) إلى الله، أي: أن الله يهدي من يشاء الله هدايته. ولكن مقتضى بعض الآيات، رجوع ضمير الفاعل في: ((يشاء))، إلى: ((من)). فقد قال تعالى: ((... أ نلزمكموها وأنتم لها كارهون؟!)) [سورة هود: الآية 28] فالله – تعالى – لا يلزم أحداً الهداية إذا رغب عنها، ولا يلزم أحداً الضلالة إذا رغب عنها، وإنما الله يهدي إلى النجدين، ويمد السالكين فيهما معاً مداً، كلاً في اتجاهه، لتتكافأ الفرص، فيتحمل كل تبعة اختياره. م.

(3) مسند أحمد بن حنبل – ج 2 – ص 507.

(4) انظر مسند أحمد بن حنبل – ج 2 – ص 507.

(5) سورة فاطر: الآية 43.

(6) سورة الأعراف: الآيتان 175 – 176.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 25/أيلول/2013 - 18/ذو القعدة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م