طهران– واشنطن... ربيع عابر أم آفاق للتحول

 

شبكة النبأ: ليست المرة الأولى التي تهب نسمات تفاؤل باردة على العلاقات المتوترة بين ايران والولايات المتحدة الامريكية. وكان الايرانيون هم المبادرون، نظراً لحاجتهم القصوى لخرق جدار العقوبات والضغوطات التي تفرضها واشنطن، مع تضامن بعض العواصم الغربية، ثم الظهور كدولة مؤثرة وقوية في المنطقة. وبما إن الايرانيين معروفون بصياغة الشعارات البراقة ذات الدلالات الكبيرة، ففي كل مرة، يتقدمون خطوة نحو الحوار مع امريكا تحت شعار يتجاوز البعد السياسي، ففي التجربة (الخاتمية)، رفع الرئيس الايراني الأسبق محمد خاتمي الذي تولّى الرئاسة خلفاً لهاشمي رفسنجاني 1996، شعار "حوار الحضارات"، ومن خلاله فتح أبواب الحوار مع الغرب، ليكون أحد هذه الابواب باتجاه واشنطن، لكن اسباب عديدة حالت دون وصوله الى مبتغاه، ابرزها جماعات الضغط المتطرفة في كلا البلدين، ممن رأوا في هذه المحاولة، خطوة غير ناضجة، وغير مفيدة لهم على المدى البعيد. وقد اتفق على هذا الرأي الجناح المعارض لسياسات خاتمي في ايران، والجناح المعارض لسياسات الرئيس الامريكي الأسبق (الديمقراطي) بيل كلنتون، ومن خلفه اللوبي الصهيوني في امريكا.

أما الشعار الجديد الذي حمله الرئيس الايراني الجديد، حسن روحاني، فقد أطلقه ليس من ايران، إنما من أحد ابرز الصحف الامريكية القريبة على مراكز القرار، وهي "واشطن بوست"، فتحت عنوان "لماذا تطمح إيران لمشاركة بناءة"، كتب الرئيس الإيراني حسن روحاني مقالاً في صحيفة واشنطن بوست الامريكية، قال فيه: "قبل ثلاثة أشهر، تفاءل الإيرانيون بالسياسة الجديدة التي اتبعتها، والتي تعتمد على الأمل والتعقّل، فأنا أطمح للوفاء بعهودي، ومن بينها السعي من أجل حوار بناء مع العالم".

هذا "الحوار البنّاء" وطبيعة الرسالة الايرانية الجديدة، دفع المراقبين والمهتمين بالعلاقات الايرانية – الامريكية، الى التساؤل عما اذا كانت هذه المحاولة، تمثل ربيعاً عابراً كالذي شهدته العلاقات بين البلدين في تسعينات القرن الماضي، أم إنها تنبئ عن وجود خطّة استراتيجية للتحول ذات أبعاد اقليمية و دولية..؟

الشواهد والقرائن على تكتيكية الخطوة الجديدة، أبرزها؛ تعرض الاقتصاد الايراني الى ضغوط شديدة انعكست بشكل مؤلم على الوضع الاجتماعي، فلم تدع الولايات المتحدة والغرب بشكل عام، حقلاً أو ميدناً اقتصادياً أو تجارياً، إلا وأحاطته بطوق الحاصر والحظر، في مقدمتها حقل النفط، حيث باتت ايران تبحث في العالم عمن يجرؤ على تجاهل القرار الغربي و يشتري بترولها وبضائعها. وحسب بعض المصادر فان صادرات ايران من النفط تراجعت خلال العام الماضي بنسبة (40) بالمئة، حيث لم تتمكن ايران خلال شهر آب الماضي، من تصدير أكثر (985) ألف برميل من النفط يومياً، فيما كانت تصدر قبل العقوبات الغربية، اكثر من مليوني برميل يومياً. كما تعتمد ايران على الصادرات غير النفطية، وهي مجموعة من السلع والمنتوجات الغذائية والصناعية والخدمات، وحسب بعض الاحصائيات الايرانية فان قيمة الصادرات غير النفطية بلغت العام الماضي حوالي (50) مليار دولار. الفترة الماضية من تصدير أكثر من مليون برميل من النفط خلال شهر واحد. وبما أن ايران تعد من الدول الشرق أوسطية الناشطة في مجال التجارة والاقتصاد على الصعيد العالمي، وتتعكز على هذا الحقل لإنعاش اقتصادها المصاب أساساً بمشاكل وأزمات مزمنة منذ عقود، فان العقوبات الاقتصادية، تركت أثراً سريعاً على سقف الاسعار في الداخل وقيمة العملة المحلية الايرانية، التي انحنت أمام الدولار الى مستوى متدنٍ لم تشهده من قبل، حيث شارف قيمة الورقة النقدية من فئة (100) دولار امريكي الى حوالي نصف مليون تومان. وبشكل عام، تركت العقوبات الاقتصادية أثرها على تفاصيل حياة المواطن الايراني، من السكن والمواد الغذائية والاساسية والطبية وغيرها.

كل ذلك يعد من تركة الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، الذي أدخل ايران بسياساته الانفعالية وتهديداته، نفقاً مظلماً مع العالم الخارجي، الامر الذي تبدو فيه الحاجة ماسّة الى درجة كبيرة لتخفيف وطأة العقوبات، وإيجاد متنفس للشعب الايراني وتفادي تضخم شحنات الغضب والتذمر بسبب سوء الاوضاع المعيشية. وهذا تحديداً كان ابرز ملامح المرحلة (الخاتمية)، حيث استفادت ايران من الانفتاح على الغرب من تطوير مجمل قطاعاتها الصناعية والانتاجية، في مقدمتها النفط والغاز والبتروكيمياويات والزراعة، بالاستفادة من التجارب والخبرات الاوربية واليابانية والكورية وحتى الامريكية، ويؤكد المراقبون أن تلك الفترة مثلت الفرصة الذهبية للمشروع النووي الايراني، حيث تقدم الايرانيون خطوات بعيدة في إنشاء وحدات التخصيب، وبناء منشآت سرية تحت الأرض في مناطق عديدة من ايران، وعندما انقضت أيام خاتمي، جاء نجاد، ليؤدي الدور المرسوم له، وبيده أدوات و أوراق التهديد الجاهزة، يلوح بها بوجه الغرب، وبوجه اسرائيل في وقت واحد.. ولذا فان بعض المراقبين يرون في المشهد الاخير من العلاقات الايرانية – الامريكية، تفاؤلاً مشوباً بالحذر، وأن الايرانيين ربما يخفون لعبة أخرى تحت الطاولة ويعيدون مشهد التهديد والوعيد والتنافس المحموم على النفوذ في المنطقة مع الغرب وامريكا.

لكن الوجه الآخر للعملة، ربما يكشف عن وجود خطة استراتيجية، أو تطلّع بعيد المدى لعلاقات مستقرة – الى حدٍ ما- يضمن المصالح القومية للجانبين. وقد التقط المراقبون إشارات من هذا النوع عندما أرسل الرئيس الامريكي باراك أوباما، برسالة تهنئة الى حسن روحاني بمناسبة فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو ما أكده الاخير بإيجابية خلال حوار له مع مراسلة محطة (ان بي سي)، الامريكية. علاوة على ذلك فان هنالك مؤشرين هامين على وجود هذا المدى البعيد في المشهد الراهن؛ أحدهما داخلياً والآخر دولياً:

المؤشر الأول:

تقديم ايران صورة جديدة عن الوجه القيادي المخوّل بتنظيم العلاقات مع العالم الخارجي، وفي مقدمتها الملف النووي، ويشير المراقبون بغير قليل من الاهتمام الى التحول النوعي في موقف مرشد الثورة الاسلامية السيد علي خامنئي، من الملف النووي، حيث أطلق الضوء الأخضر لانتقال هذا الملف من مجلس الأمن القومي الايراني، الى وزارة الخارجية، وهذا يعني بالدرجة الاولى، تحجيم دور "حرس الثورة" في هذا الملف، وبشكل عام، في السياسات الخارجية الايرانية، حيث يعد هؤلاء انفسهم حماة الدولة والامن القومي الايراني دون منافس، بل ويشككون دائماً في قدرة أي شخص أو جهة أخرى بأداء هذا الدور. ففي بيان لهذه المؤسسة العسكرية، حذرت الرئيس الايراني من "مخاطر الاتصال بالمسؤولين الامريكيين"، وجاء في البيان: "ان التجربة التاريخية تجعل من الضروري لجهازنا الدبلوماسي ان يراقب بحذر تصرفات مسؤولي البيت الابيض الامريكي لضمان احترام حقوق امتنا المشروعة من جانب اولئك الذين يريدون التواصل معنا". لكن البيان استدرك بالقول: " ان الحرس الثوري سيدعم كل المبادرات التي تصب في مصالح ايران القومية والاستراتيجيات التي يضعها المرشد الاعلى علي خامنئي".

هذا الموقف الذي فاحت منه رائحة التهديد من مغبة الذهاب بعيداً في المحادثات مع الغرب واميركا، واحتمال تكرار تجربة الصراع بين هذه المؤسسة وبين حكومة خاتمي في تسعينات القرن الماضي، اقتضى من خامنئي الرد سريعاً وتقويم هذه الرؤية، أو ربما لتطييب خاطر قادة هذه المؤسسة الذين يعدون بالنسبة له بمنزلة الابناء المدللين، ففي خطاب له مع عدد كبير من المسؤولين والقادة في الحرس الثوري، تحدث خامنئي لأول مرة عن "المرونة البطولية" التي قال انها ربما تكون ضرورية في بعض الاوقات.

ويجب أن نتذكر دائماً، أن خامنئي الذي يرعى المؤسسة العسكرية والمخابراتية، علاوة على اشرافه على السياسة الخارجية والاعلام ومرافق اخرى في الدولة، يراقب مستوى التحمّل والتجلّد الذي بلغه الشعب الايراني جراء العقوبات القاسية، فقد تحدث أحد المهندسين الايرانيين عن عجزه من توفير فرصة عمل مع شركة تركية في العراق، لخشية الشركة التركية من العواقب  السياسية والقضائية من لدن الامريكيين، الامر الذي استدعاهم للاعتذار عن قبوله، رغم توفر كل الشروط والمواصفات لديه. وهذا مثال بسيط من آلاف الامثلة على الضائقة التي يعيشها الشعب الايراني بسبب سياسات عرض العضلات والتوتر وإثبات الوجود بالقوة أمام دول المنطقة والعالم.

المؤشر الثاني:

الوضع الاقليمي الذي يعجّ بالتحولات والأزمات.. فمنذ اندلاع الثورات في البلاد العربية، والغرب يبحث عن الجهة التي تمثل وجه الاستقرار في المنطقة، ففي السابق كانت السعودية، هي المرشحة لهذا الدور، إلا ان انزلاقها في مستنقع الارهاب في العراق وفيما بعد في سوريا، شوه الوجه المحسّن سابقاً للسعودية، وأظهر نقاط ضعفها وتناقضاتها. وربما يكون السبب الأساس في ذلك الايديولوجية العقيمة التي عوّلت عليها السعودية، وهي "السلفية" لتكون رأس الحربة في صراعها على النفوذ مع ايران في العراق وسوريا وايضاً لبنان، فلم تكن النتيجة سوى مشاهد القتل الجماعي وحرق الاسرى أحياءً وفظائع اخرى عديدة، حاولت وسائل الاعلام الممولة سعودياً وخليجياً من أن تبعدها عن العواصم الخليجية وعن المسؤولين الحقيقيين.

بينما حرص الايرانيون بشكل واضح على أن لا تتلوث أيديهم بدماء أحد، - ولو ما موجود أمام الستار- وما تدخلاتهم في سوريا والعراق، سوى لتقديم الدعم السياسي والاقتصادي، وقد أثمرت هذه الجهود عن تثبيت دعائم وجودهم في هذين البلدين، وهذا ما يجعل ايران المرشحة الاقوى في المنطقة لأن يعتمد عليها الغرب في التعامل سياسياً واقتصادياً. والأهم من هذا، عدم وجود الطموح التوسعي – القومي المثير للتساؤلات والشكوك، كما هو الحال عليه بالنسبة لتركيا، واهتمامها بالجانب الاقتصادي بدرجة كبيرة، وهذا أوضحه الرئيس الايراني الجديد في عندما طالب الغرب بالاعتراف بحق ايران في امتلاك التكنولوجيا النووية، وفي حال تحقق هذه المطلب فان الغرب "سيجد الشعب الايراني شعباً عاقلاً ومسالماً و ودياً.. نحن مستعدون للتعاون، ونستطيع سوية ان نحل كل مشاكل المنطقة وحتى المعضلات الدولية". وهذا ما يدركه الغربيون، وتحديداً الامريكيين، ومنذ زمن بعيد، لكن المنغصات القادمة من تركيا والسعودية وقطر وجهات اقليمية ودولية اخرى، هي التي عرقلت التوصل الى فهم مشترك بين ايران وامريكا.

لذا فان المراقبين لهذه العلاقات، يراهنون على نجاحها في حال نجح الطرفان في تحجيم دور الاطراف الداخلية والخارجية المعوّقة لهذه العلاقات، فاذا كان الحرس الثوري يشكل حجر عثرة أمام روحاني في تقدمه خطوات بعيدة لبناء العلاقات مع واشنطن، فان اللوبي الصهيوني في المقابل يعد حجر العثرة الاكبر أمام أوباما في التقدم باتجاه طهران.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 23/أيلول/2013 - 16/ذو القعدة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م