ما بعد الإنسان الاقتصادي العاقل

تانيا سنجر

 

تواجه البشرية في الوقت الحالي العديد من التحديات العالمية، بما في ذلك تغير المناخ، ونضوب الموارد، والأزمة المالية، والتعليم الناقص الضعيف، والفقر المنتشر، وانعدام الأمن الغذائي. ولكن على الرغم من العواقب المدمرة الناتجة عن الفشل في معالجة هذه القضايا فإننا لم نرتق إلى مستوى الحدث.

فالاقتصادات في كل مكان، سواء التي ضربتها الأزمة أو المزدهرة، تفشل في القضاء على الفقر أو تحسين مستوى تقديم الخدمات العامة مثل التعليم، وتعجز عن صيانة وتخصيص السلع والمنافع العامة الجماعية مثل الثروة السمكية والغابات المطيرة على نحو فعّال وعادل. ومن ناحية أخرى، أصبحت المجتمعات مفتتة على نحو متزايد، مع ارتفاع معدلات الإصابة بالأمراض المرتبطة بالوحدة والتوتر. ولم تعد هياكل الحكم القائمة كافية لتحسين الوضع.

ومن الواضح أننا في احتياج إلى نهج جديد. ولكن تطوير آليات فعّالة لمواجهة تحديات مشتركة أوسع نطاقاً لابد أن يبدأ بتحول جوهري في الطريقة التي نفهم بها الدوافع البشرية والإدراك.

كان مفهوم "الإنسان الاقتصادي"، الذي يؤكد أن البشر عناصر فاعلة متعقلة وأنهم يتخذون قراراتهم استناداً إلى مصلحة ذاتية ضيقة، مهيمناً على الفكر السياسي والاقتصادي منذ سبعينيات القرن العشرين. ولكن في حين قد يكون السعي إلى تحقيق المصلحة الذاتية مفيداً في سياقات معينة، فإنه ليس المحرك الوحيد أو حتى الأساسي للسلوك البشري ــ وهو لا يفضي إلى التغلب على القضايا العالمية الأكثر إلحاحاً اليوم.

والآن حان الوقت للاستعاضة عن إطار "الإنسان الاقتصادي" بنموذج جديد يعكس قدرة البشر على الإيثار والسلوك الداعم للمجتمع. ومن خلال تسليط الضوء على فرص التعاون بين البشر، فإن مثل هذا الإطار من شأنه أن يوفر أساساً مفيداً للأنظمة السياسية القادرة على تحقيق النجاح حيث فشلت الترتيبات القائمة.

وتحقيق هذا الفهم للطبيعة البشرية يتطلب نهجاً شاملاً متعدد الأوجه ويمتد إلى ما هو أبعد من العلوم الاجتماعية. في السنوات الأخيرة، أظهرت التطورات على تخوم البيولوجيا التطورية، وعلم النفس، وعلم الإنسان، جنباً إلى جنب مع نشوء مجالات جديدة مثل الاقتصاد العصبي، وعلم الأعصاب الاجتماعي والعاطفي، وعلم الأعصاب التأملي، أن البشر يمكن حثهم واستنهاضهم بدافع من الأفضليات الاجتماعية، مثل العدل والحرص على رفاهية الآخرين أو حقوقهم.

والواقع أن البشر تدفعهم غالباً الرغبة في مساعدة المحتاجين، وحتى الغرباء منهم، انطلاقاً من مشاعر التعاطف والتراحم. وتتعزز هذه الفكرة بفضل كمية هائلة من الأدلة التي يسوقها علم الأعصاب، والتي تتناقض مع التركيز على النزعة الفردية السائدة في المجتمعات الغربية، وهو ما يشير بدلاً من ذلك إلى أن الدماغ البشري مجهز لاستقبال الصدى العاطفي، حيث يعكس الناس بشكل طبيعي مشاعر بعضهم البعض وحالاتهم التحفيزية.

وتشير البيانات التجريبية فضلاً عن ذلك إلى أن تفضيلات الناس قابلة للتغير، خلافاً للنظرية الاقتصادية السائدة. فالعوامل البيئية المتحولة تشكل عملية صنع القرار البشري من خلال تفعيل أنظمة تحفيزية ترتبط بالتهديد، والإنجاز، وحافز السلطة، فضلاً عن مراعاة الآخرين والانتماء الاجتماعي.

وقد بدأ فرع علم الأعصاب التأملي ينتج الأدلة على مرونة التفضيلات الداعمة للمجتمع والتحفيز. وتكشف دراسات قصيرة وطويلة الأجل في مجال دراسات التدريب الذهني (مثل ReSource project) عن قدرة برامج التدريب الذهني على تحفيز الملكات الإدراكية والعاطفية الاجتماعية مثل العناية والرحمة والتعاطف. وبشكل أكثر تحديدا، تؤدي برامج التدريب التي تهدف إلى تعزيز الدوافع الداعمة للمجتمع إلى زيادة النشاط في الشبكات العصبية المرتبطة بالمشاعر الإيجابية والانتماء، فضلاً عن انخفاض الاستجابات الهرمونية المرتبطة بالإجهاد وزيادة دلالات المناعة، عندما يتم تعريض المشاركين لضيق الآخرين.

بعبارة أخرى، فإن برامج التدريب الذهني هذه تجعل المشاركين أكثر كفاءة وأكثر تركيزا، في حين تعمل على تحسين قدرتهم على التعامل مع الإجهاد، كما تشجع في الوقت نفسه السلوك الداعم للمجتمع والمنظور الأوسع والأقل أنانية الذي يفسر الاعتماد المتبادل بين البشر. وقد بدأت مثل هذه النتائج في إلهام مجالات مثل الاقتصاد الجزئي التجريبي والاقتصاد العصبي، والتي بدأت بدورها في دمج تفضيلات داعمة للمجتمع في أطرها الخاصة بصنع القرار.

ولابد الآن من دمج هذه النتائج الواعدة في نماذج اقتصادية جديدة ومقترحات سياسية أكثر رسوخا. ولأن أدمغة البشر تكون في أقصى درجات المرونة خلال مرحلة الطفولة، فإن بدء التدريبات الذهنية في المدرسة من شأنه أن يساعد في خلق قاعدة صلبة لهذا النوع من الأخلاق العلمانية التي من شأنها أن تساهم في تطوير مجتمع أكثر إنسانية وتراحما. بيد أن التدريب الذهني ينطوي أيضاً على فوائد تعود على البالغين، ولهذا فإن الشركات والهيئات السياسية ومعاهد البحوث لابد أن تتعاون في إنشاء "قاعات ألعاب ذهنية".

ومن الممكن علاوة على ذلك توجيه الإصلاح المؤسسي نحو تكييف البيئات الاجتماعية بحيث تعمل على تعزيز التعاون بدلاً من المنافسة، وتنشيط وتفعيل دوافعنا للانخراط في السلوك المراعي للآخرين، بدلاً من السعي إلى الإنجاز والسلطة والمكانة فقط. ففي الأمد البعيد، تؤدي ملاحقة هذه الأهداف الأخيرة فقط إلى اختلال التوازن ونضوب الموارد ليس فقط على المستوى الفردي، بل وأيضاً على المستوى العالمي.

إن البشر قادرون على إظهار مشاعر أعظم كثيراً من الأنانية والمادية. فنحن في واقع الأمر قادرون على بناء أنظمة سياسية واقتصادات ومجتمعات مستدامة وعادلة ومراعية للآخرين. وبدلاً من الاستمرار في الاستسلام لدوافع السلوك البشري الأكثر تدميراً فيتعين على زعماء العالم أن يعملوا على تطوير الأنظمة التي تشجع الأفراد على تلبية إمكاناتهم الاجتماعية العاطفية والإدراكية بالكامل ــ وبالتالي خلق عالم نود جميعنا لو نعيش فيه.

* مديرة قسم علم الأعصاب الاجتماعية، معهد ماكس بلانك للإدراك البشري وعلوم الدماغ

http://www.project-syndicate.org/

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 18/أيلول/2013 - 11/ذو القعدة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م