الإنسان بين القيم والمصالح

الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي

 

((قل: (إن كان: آباؤكم، وأبناؤكم، وإخوانكم، وأزواجكم، وعشيرتكم، وأموال اقترفتموها، وتجارة تخشون كسادها، ومساكن ترضونها؛ أحب إليكم من: الله، ورسوله، وجهاد في سبيله؛ فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، والله لا يهدي القوم الفاسقين *)). [(سورة التوبة، الآية 24)].

لكل شيء ثمن بقدره: فلا تولد حبة قمح، إلا إذا ضحَّت الشمس والأرض والهواء والماء... بشيء معادل لحبة القمح، ولا تسقط قطرة من المطر على نبتة، إلا ويتحرك السحاب والهواء والبحر... بمقدار ما تتطلبه حركة قطرة، ولا يكسب الإنسان شبعاً أو رياً أو غيرهما...؛ إلا إذا كان قد بذل جهداً مساوياً لما اكتسب.

وهنالك من يريد الله والرسول والآخرة، ولكن من دون أن يدفع شيئاً، وهذا... ما لا يكون. فالكون – كله – منتظم بمقاييس، لا تخطأ حركة ذرة أو خلية: فمن أحبَّ شيئاً، وأراد تحقيقه، عليه أن يضحي بشيء قد أحبه من قبل. ومن أحب ولم يضحِّ له بحب سابق، فقد برهن على أن حبه الأول أقوى، وأنه لا يريد تحقيق حبه الثاني.

وبما أن عاطفة الإنسان تتحرك قبل عقله، فهو يحب – بعاطفته – كل ما ألف من آباء وأبناء وإخوان... ثم يحب – بعقله – الله ورسوله والآخرة. فإذا لم يضحِّ بحبه العاطفي، كان حبه العقلي ضعيفاً لم يبلغ قوة المحاولة. فهو لا يستثمر ذاته حتى يتوقع نتيجة، وإنما ينتظر ما تمليه إرادة غيبية. ومعلوم، ما تمليه الإرادة الغيبية، لمن يتمسك بحبه العاطفي على حساب حبه العقلي.

وهذا... منشأ الصراع بين التجرد في التقييم والهوس في التقييم، أو بين الواقع وبين – ما تعودنا أن نسميه بـ – المصلحة. فللواقع أحكامه، وللمصلحة أحكامها، وكثيراً ما تتناقضان. ولا يمكن أن يتجاوب الإنسان مع الواقع: إلا إذا ألغى مصلحته، فالمصلحة تعني صلاح الوضع القائم، وما دام الإنسان أسير مصلحته لا يستطيع التغيير، ولا يوجد الأفضل إلا بتغيير. بل ما دامت المصلحة توجِّه الإنسان، يكون الإنسان مجرد إرادة لتصوراته القديمة، فيوجه كل وضع شيء إلى طريق مشابه للذي كان عليه أو أسوأ، فيوجه أناس – ضد أنفسهم وغيرهم – لمصلحتهم، ويظلون يتخبطون ويئنون ما لم يتحرروا من المصلحة.

والإنسان يحتاج – في حياته – إلى الاستقرار على ركيزة ثابتة، تلملم تلفتاته وبعثراته، وترد شذوذه وانعطافه؛ حتى ينفض القلق من أعصابه وتصرفاته. ولا يمكن أن تكون المصلحة هذه الركيزة، لأن المصلحة – ذاتها – قلقة متقلبة، فهي تحتاج إلى ركيزة تثبتها. بينما القيم المنطلقة من الإيمان بالله، يمكن أن تكون هذه الركيزة، لأنها ثابتة مستقيمة.

ثم: أن المصلحة إذا كانت قيمة تربك الحياة، لأنها تغري بالتزاحم، فالصراع، فيحتد التوتر، وتنفصم العلاقات التي بدونها يصبح كل فرد غريباً تائهاً، لا يجد من يطمئن إليه ويشاطره مشاعره.

ونقطة أخرى: إذا لبَّت المصلحة رغبة الفرد، بطر بها، فتجاوز على الآخرين. وإذا تنكرت المصلحة له، استبد به الشعور بالتفاهة، فاسترخص الحياة، ووضع لها حداً بالانتحار، فخسر رأس ماله.

فيما القيم المنطلقة من الإيمان، تقوم الحياة، فتنسق الأفراد في تلاحم عضوي صادق، فيأخذ كل عنصر حياتي حدوده، وينتهي التناقض.

فإذا سيطرت القيم على المصلحة، كان الالتزام والاطمئنان، وإذا سيطرت المصلحة على القيم، كان الانحلال، وتقننت الجريمة. فلا بد أن تبقى المصلحة موجهة بتوجيه القيم، وأن تبقى القيم سيدة إرادة الإنسان.

والآية، تأخذ بالخطوط الرئيسة للمصلحة، وتعمل لتركيزها في مكانها المناسب. وتأخذ بالخط الرئيس للقيم – وهو الإيمان –، وتعمل لإعطائه مكانه المناسب.

ومن جهة ثانية: تعمل الآية لفرز الأفراد، على ضوء مواقفهم، فلا بد أن يعلن كل فرد موقفه: فأما أن يقف في صف الإيمان، وأما أن يقف في صف المصلحة، ولا يمكن أن يضطرب بين الصفين، إلا إذا شاء أن يخسر الجانبين.

ومدرسة (أرسطو) تذهب إلى أن القائد الصالح، لا يصدر منه إلا الصالح، فلا يتصرف – في مجال النظام والشعب – إلا التصرف الصالح. ومتى التزم جانب الصلاح، يكون النظام والمجتمع صالحين، وهو يحميهما من الانحراف والانجراف. وهذه النظرية، بقيت – مع منافستها – في عالم النظريات والحوار البيزنطي: فالقائد الصالح، لا يعد منفذاً صالحاً ما دامت له مصالح ورغبات يجب تحقيقها، ولا يوجد نظام يحدده ويكشف ما له وما عليه، والأفراد والجماعات، لا يصلحون مشرعين – مهما حاولوا التحليق إلى المثاليات – ما داموا لا يستطيعون التحرر المطلق من مصالحهم ورغباتهم.

والحق – في هذا المجال – أنه: لا النظام الصالح وحده، ولا القائد الصالح وحده، يستطيع صياغة المجتمع الصالح. بل لا بد من تداعم النظام الصالح والقائد الصالح – معاً – في صياغة المجتمع الصالح. وهما لا يستطيعان ذلك، ما لم تحرسهما القوة المطلقة، التي لا تنتابها المصالح والرغبات.

أساس المجتمع الصالح

((هو الذي أرسل رسوله بـ: الهدى، ودين الحق. ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون *)).

[(سورة التوبة، الآية 33).

تختلف النظريات في تحديد أساس المجتمع الصالح: فمدرسة (أفلاطون) ركزت (المدينة الفاضلة) على أساس النظام الصالح، مدَّعية أن النظام الصالح يقود المجتمع وقادته إلى الصلاح، وأن الشعب – متى عرف النظام الصالح – يحرسه، ويراقب قادته، فيصون المجتمع من التأرجح والانهيار.

وهذه المدرسة فشلت، و(المدينة الفاضلة) بقيت حلماً إلى جانب النظرية التي انبثقت منها: فالنظام الصالح لو وجد، سرعان ما يشوهه القادة، بالملاحق التي يذيلون بها نصوص النظام. كما شوه الحكام الزمنيون وذيولهم، نصوص القرآن، بالتفسيرات المصلحية والأحاديث المختلقة.

ومن هنا... كانت الحاجة إلى التدخل الإلهي المباشر، في وضع النظام الصالح وحمايته، وتعيين القائد الصالح ورعايته.

وهكذا... كان التدخل الإلهي المباشر، بإرسال القائد، لا بتعيينه فقط. فالقائد الصالح يصمم عند الله، وعندما يكمل بناؤه يرسل لقيادة البشر. ويعبر عن ذلك، الرسول الأعظم بقوله: ((كنت نبياً وآدم بين الماء والطين))(23) ، كما تعبر عنه التعبيرات القرآنية: ((أرسل رسوله)). إذن: فالله ((هو الذي أرسل رسوله)).

وهكذا... كان التدخل الإلهي المباشر بإنزال النظام الصالح من عنده إلى البشر (بالهدى ودين الحق). ثم كان التدخل الإلهي المباشر، برعاية القائد الصالح. فالقائد البشري ـ مهما تسامى ـ يبقى قائداً بشرياً معرضاً للتأرجح، لولا الرعاية الإلهية:

((ولولا أن ثبتناك، لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً*))(24) . فكانت العصمة، شرطاً أساسياً من شروط القائد الأعلى.

وكان التدخل الإلهي المباشر، بحماية النظام الصالح. فالبشر – بتركيبته المعروفة – يحاول أن يعلو على كل شيء حتى لا يبقى عليه حاكم، فإذا ترك له النظام فإنه لا يترك النظام على وضع معين، فيكون النظام معرضاً للتجاوب مع كل تقلبات البشر:

((إنا – نحن – نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون *))(25). . فكانت الحماية الإلهية، شرطاً أساسياً من شروط النظام الصالح.

هكذا... أرسل الله الرسول شفعاً بالقرآن، ولم يكتف بأحدهما عن الآخر، ثم عصم الرسول وحفظ القرآن لتأسيس المجتمع الصالح.

ومن بعد الرسول، قام بدوره أهله الأطهار، وأعلن استمرار أهله بدوره قائلاً: (إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي). (26).

وهكذا... أرسل الله القائد والنظام معاً، حتى يتكامل الحاكم المؤلف من شقَّي: القائد والنظام، ليكون الإسلام أقوى وأمتن من كل النظريات والمبادئ الحاكمة في المجتمع:

((ليظهره على الدين كله))، سواء أ كان مما يسمى ديناً أو مما يسمى نظرية ومبدأ...

((ولو كره المشركون*)) الذين لا يريدون الإخلاص لله، وإنما يشركون معه غيره من مصالحهم ورغباتهم، فيريدون أن يعبدوا الله وأنفسهم، ويكرهون أن يروا أنفسهم تحت سلطة حاكم كامل من شقَّي القائد والنظام.

* من كتاب خواطري عن القرآن

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 16/أيلول/2013 - 9/ذو القعدة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م