مواصفات الأمة الإسلامية

الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي

 

{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}

(سورة آل عمران: الآية 110)

 

ـ 1 ـ

{كنتم} ـ أيها المسلمون! ـ بمقتضى تصميمكم {خير أمة}.

و(كان) ـ في مثل هذا الاستعمال ـ لم ينسلخ عن الماضوية ولم ينف الفعلية، فليس معناه أنكم الآن لستم خير أمة، كما أنه لا يعطي الدلالة على أنكم الآن خير أمة. وإنما معناه أن التصميم الذي صممه الله لكم تصميم لخير أمة: فإن تقمصتم ذلك التصميم فأنتم خير أمة، وإذا ابتعدتم عنه ـ بعد غيركم عنه ـ كنتم إحدى الأمم، وإذا ابتعدتم عنه ـ أكثر من غيركم ـ كنتم شر أمة.

كما أنه قد يوضع أفضل تصميم لآلية طائرة، فيقال: (هذه.. أفضل طائرة) ـ بمقتضى تصميمها ـ. فإذا خرجت متطابقة لتصميمها كانت ـ بالفعل ـ أفضل طائرة، وإذا لم تحمل مميزات تصميمها كانت إحدى الطائرات، وإذا فقدت حتى الشرائط المتوفرة في سائر الطائرات كانت شر طائرة.

وبهذا المعنى قد يفسر (كان) في قوله تعالى:

{... وكان الإنسان عجولا}(16).

فمعناه أن الإنسان بمقتضى تصميمه البشري عجول: فإذا بقي إنسان في مستوى تصميمه البشري كان عجولاً، وإذا ارتفع على مستوى تصميمه البشري كان صبوراً، وإذا انحدر عن مستوى تصميمه البشري كان هلوعاً كالمنتحر.

فيا أيها المسلمون! لقد وضع الله لتنظيمكم الأممي أرقى تصميم في الحياة، فأنتم بمقتضاه لا خير أمة فحسب، وإنما {خير أمة أخرجت للناس}. لأن لكل شيء نمواً عادياً يسير به نحو كماله، وهذا العادي ناتج من الزخم الداخلي الذي جعله الله فيه، وذلك الزخم الداخلي يحدد كمية نموه وكيفية نموه، فمثلاً:

الزخم الداخلي للبعوض محدد ببلوغه حجماً معيناً هو حجم البعوض، وبعمر أقصاه أقل من أسبوع.

فيما الزخم الداخلي للبقرة محدود بحجم البقرة، وبعمر عشرات السنين.

والزخم الداخلي لنبتة القمح مقدر بساق قصير ضعيف لا يحمل إلا عدة سنابل، وعمر أقصاه ستة أشهر.

بينما الزخم الداخلي لبعض الأشجار كالأرز، والجنار... مقدر بساق وأغصان صلبة ضخمة، وعمر مئات أو ألوف السنين...

وهكذا... لكل شيء زخم معين يحدد كل أوضاعه، ويجعل تلك الأوضاع بالنسبة إليه عادية: فإذا عاش شيء بأقل من أوضاعه العادية، فلا بد أن طارئاً استنزف زخمه، كما لو زرعت شجرة كبيرة إلى جانب أخرى ضعيفة؛ فلأن الأولى تمتص الثانية.

وإذا عاش شيء بأكثر من أوضاعه العادية، فلا بد أن طارئاً أقدره على امتصاص زخم شيء آخر، كما يحدث ذلك ـ بشكل واضح ـ في التربة بالتلقيح والتسميد...

ومهما تظافرت الطوارئ السلبية أو الإيجابية، يبقى لكل شيء فلك معين من النقص والكمال لا يستطيع الخروج منه: فالبقرة لا تصبح بعوضة، ونبتة القمح لا تصبح أرزة... وإذا خرج شيءٌ عن مداه المعتاد ـ إيجابياً أو سلباً ـ فلا بد أن الإرادة الإلهية قد تدخلت في إخراجه من مدى فلكه ـ وهي المعجزة ـ.

وكما لكل شيء، كذلك للبشر زخم معين في سيره التكاملي، فأقصى تقدم كل جيل: خطوة أو بعض خطوة. ومهما تناصرت المؤهلات العادية على دفع جيل معين إلى الأمام، فإنه لا يمكن أن يتقدم خطوتين. بل البشرية كلها، عبر كل أجيالها، لم تتقدم إلا ثلاث خطوات ـ حسب التفسير المادي الوهمي للحياة ـ: خطوة من الغاب إلى الزراعة والإقطاع، وخطوة من الزراعة والإقطاع إلى الصناعة والرأسمالية، وخطوة من الصناعة والرأسمالية إلى الاشتراكية والجماعية في الحكم.

فإذا وجد جيل واحد، قفز من فوق كل هذه الخطوات، ووصل إلى ما لعل البشر يصل إليه بعد قرون من هذا التاريخ، وهو الإسلام: فأكمل نظامه في أقل من عمر جيل، وأسس ـ في أقل من ربع قرن ـ أكبر دولة في التاريخ، بسطت ظلها على أوسع رقعة من الأرض حكمتها دولة واحدة حتى الآن، واستمرت ثلاثة عشر قرناً...؛ فإذا أوجد جيل قفز من البداوة البدائية إلى الدولة الإسلامية الكبرى، فلا بد أن الإرادة الإلهية تدخلت في إخراجه من مدى فلكه بصورة معجزية، وإلا فالزخم البشري لا يتيح لأي جيل أن يتقدم أكثر من خطوة.

فالأمة الإسلامية لم تخرج ـ بطاقاتها ـ من تحت ركام التخلف إلى النور، وإنما أخرجها الله.

والأمة الإسلامية ليست الأمة الوحيدة التي أخرجتها الإرادة الإلهية من ظلمة التخلف إلى النور، وإنما أخرج الله ـ قبلها ـ أمة (نوح) من ظلمة الانغلاق القاتل: فعلم كل فرد منها لغة اللغات، ووجهه إلى تشييد حضارة تركت آثارها للتاريخ. وأخرج الله ـ قبلها ـ أمة (إبراهيم) من ظلمة عبادة الأحجار، ووجهها إلى تفهم قيمة الإنسان، حتى استعلت على الأحجار المنحوتة. وأخرج الله ـ قبلها ـ أمة (موسى) من ظلمة عبادة البشر، والاستسلام لـ (الفراعنة)، ووجهها إلى الثورة على حاكم يتخذ السلطة وسيلة للتسخير والاستعباد. وأخرج الله ـ قبلها ـ أمة (عيسى) من ظلمة عبادة المال والنفس، ووجهها إلى تقدير كل شيء بقدره، ووضع كل شيء في موضعه. وأخرج الله أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) من كل هذه الظلمات ـ وغيرها ـ مجتمعة، ووجهها إلى نور التقدم اللائق، الذي تنهار أمامه الحواجز والعقبات، وتتضح أمامه آفاق تطل على آفاق، فكانت خير أمة {أخرجت} من الظلمات كلها.. إلى النور كله..

والله ـ تعالى ـ لم يخرج هذه الأمة من الظلمات إلى النور، لتنعم وحدها بالنور، وإنما أخرجها {للناس} كافة، حتى تقود البشرية ـ جمعاء ـ في كل مظهر من مظاهر التخلف والانغلاق إلى كل مدى من آماد التقدم والانطلاق. فهي الأمة القائدة التي لم يسمح الله لها بالأهداف الوطنية والقومية وإنما وضع أمامها الأهداف الأممية والعالمية: فكل البشر إخوان في الدين أو نظراء في الخلق، وعلى أية أرض عاش المسلم فهي وطنه.

فأنتم ـ أيها المسلمون! خير أمة أخرجت للناس، لأنكم الأمة القائدة: {تأمرون بالمعروف}، وهو كل خير وتقدم وانطلاق...

{وتنهون عن المنكر}، وهو كل شر وتخلف وانغلاق... فما دمتم تمارسون صلاحيتكم كأمة قائدة، فأنتم خير أمة أخرجت للناس. وإذا تخليتم عن ممارسة صلاحيتكم كأمة قائدة، لم تكونوا خير أمة أخرجت للناس.

فصفات البشر تتبع ممارساته: فما دام يمارس السماع بأذنه فهو سميع، وإلا فهو أصم. وما دام يمارس النطق بفمه فهو ناطق، وإلا فهو أخرس. وما دام يمارس البصر بعينه فهو بصير، وإلا فأعمى... والقائد: ما دام محتفظاً بمؤهلاته، وممارساً لصلاحياته؛ فهو قائد، وهو خير المجموعة التي يقودها. وإذا تخلى عن ممارسة صلاحياته، انقلب مقوداً. وإذا فقد مؤهلاته نتيجة لترك ممارستها، فقد يغدو شر المجموعة التي كان ـ يوما ما ـ خيرها.

والأمة الإسلامية، حيث تخلت عن ممارسة صلاحياتها القيادية، فقدت مميزاتها كأمة، حتى أصبحت كما تنبأ به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ): «... تتداعى عليكم الأمم كتداعي الأيدي على القصعة...»(17)، وكما أضاف: «... تأتيكم الفتن كقطع الليل المظلم...»(18)، وكما انتهى: «... غثاء كغثاء السيل...»(19)؛ فقد انقلبت شر أمة. فلا توجد ـ على خريطة عالم اليوم ـ أمة فقدت إرادتها وهويتها، وأصبح كل عضو منها يتملق أمة لترضى به ذيلاً لها؛ كالأمة الإسلامية. فهي ـ بالفعل ـ شر أمة، رغم أنها كانت ـ في طلائعها المتقدمة ـ خير أمة.

ولكن التاريخ لا ينفع إلا للشعر. أما في مجال الواقع، فالتاريخ المجيد يصبح لعنة على الحاضر المتوتر: فقد يعذر الذي لم يكن له مجد في أن يكون ذيلاً، ولا يعذر الذي تقطر من الأمجاد أن يغدو معه.

ولقد كان لها عذر لو أنها انهزمت أمام قوة عادية، أو ركعت في شدة. ولكن الذي يبعدها عن أي عذر، أنها انحلت بلا صراع، حتى لكأن الإرادة الإلهية التي رفعتها بشكل معجزي، هي التي خفضتها بشكل معجزي، وإلا فلماذا انهارت؟! وأمام من ركعت؟!

وأعجب ما في الأمر، أن الأمة الإسلامية تلاشت رغم توفر مؤهلاتها: فلا زالت استراتيجية بلادها وحيدة في العالم، ولا زالت كتلتها البشرية تضاهي أضخم كتلة بشرية، ولا زالت أرضها أخصب أرض، ولا زالت مواردها الطبيعية أغنى موارد طبيعية، ولا زال نظامها الذي تقدمت به، محفوظاً لم تعبث به الأيدي، كما عبثت ببقية النظم السماوية... فالتصميم الذي جعل منها خير أمة، قائم لم يوضع تصميم أفضل منه.

إنها لا زالت الأسد على الأرض، ولكنها الأسد النائم. وإذا نام الأسد، تراقصت فوقه الفئران. فإذا انتفض لليقظة، فالفئران تترامى عنه، متسارعة للاختفاء تحت الأرض. صحيح أن لهذه الفيران مخالب ذرية، ولكن إذا أخذنا نسبة المسلمين اليوم بكل القوى الكبرى مجتمعة، لم تكن أقل من نسبة المسلمين في ابتداء الإسلام بكل القوى الكبرى مجتمعة. وكما استعلوا عليها يوم ذاك، يمكنهم أن يستعلوا عليها اليوم. وكما أبدعوا ـ يوم ذاك ـ خططاً فاجئوا بها عالم الأمس، يمكنهم ـ اليوم ـ أن يبدعوا خططاً يفاجئون بها عالم اليوم.

فالمسلمون بحاجة إلى اليقظة فقط، ليعودوا خير أمة. ولكن الأمم ـ كالأفراد ـ كلما طال سهادها عمق رقادها، وكلما عمق رقادها طال سهادها. وقد بقي المسلمون يقظين طوال ثلاثة عشر قرناً، وها هو القرن الأول من رقادهم، والله يعلم متى ينتهي رقادهم.

ويبدو: أن الله ـ تعالى ـ لا زال يرحمهم ببركة بقية مؤمنة تستدر رحمة السماء، فيعوض الله على ما فيهم من نقص بما يفجر في بلادهم من خير، ولكنهم لا يلبثون هكذا.. طويلاً، ولسوف يثيرون غضب الله، وستدور بهم الطواحين، ويصبحون كما أخبر أمير المؤمنين (عليه السلام ):

«لتبلبلن بلبلة ولتغربلن غربلة، ولتساطن سوط القدر؛ حتى يعود أسفلكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلكم...»(20).

فهذا.. رقاد الغفلة عن ذكر الله، ولا تؤخذ الأمم إلا بغفلتها عن ذكر الله. وهذا.. رقاد عميق كرقاد الفيلة، لا يصحون منه إلا على جلبة المقامع فوق رؤوسهم، وهيجة الأزمات تعصرهم نكداً وتذروهم بدداً، حتى لا يجدوا ملجأ من الله إلا إليه، فيؤمنوا به إيمان قوم (يونس) لما أحاطت بهم خطيئاتهم، وسام البلاء رؤوسهم، فاتجهوا إلى الله اتجاه الفكر والضمير، فكشف عنهم بلاء الخزي.

فالله هو الحق المبين، وكل ابتعاد عن الله لا بد أن يؤدي إلى اصطدام بالواقع، وهو كفيل ـ بقوة رد الفعل ـ بالإعادة إلى الله.

وكل أمة منحها الله السيادة، لا بد أن تشعر بالاستغناء عن الله، فتبطر، وتقودها رقدة البطر إلى هاوية لا ينتشلها منها إلا شعورها بالحاجة إلى الله، فـ{... إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم...}(21).

وإذا استيقظت الأمة الإسلامية، فإن الله لن يخذلها، بل سيرسل إليها من يعيدها إلى مركزها الطبيعي كخير أمة أخرجت للناس.

وما لم تستيقظ، فالأحرى بها أن ترفع محسوبيتها على الإسلام، كي لا تسبب في حرمان الآخرين منه، وحرمانه من قدرات الآخرين.

وليكن عملنا ـ اليوم ـ عرضه كما هو كاملاً غير منقوص، لا عرضه من خلال واقعنا نحن.

فالإسلام هائل التقدمية والواقعية، بحيث لا يمكن أن يعرض ـ بصورته الصحيحة الكاملة ـ في معارض الفكر إلى جانب النظم الأخرى، إلا ويشد إليه الأذهان، فيعلو ولا يعلى عليه. أوليس في تنبؤات الرسول (ص): أن الإمام المهدي (ع) عندما يظهر ويعلن الإسلام، يسلم على يديه النصارى في العالم، وينقادون له بلا صراع؟!

فلو ترك الإسلام ـ كمبدأ أو كدين ـ يشق طريقه إلى الوجود، لوجد في العالم أنصاراً يتقدمون به في كل مكان. ولكنا فرضنا عليه قيمومتنا ـ ولم نكن في مستواه ـ، فأعطينا عنه صورة ناقصة ومشوهة، واعتبرنا أنفسنا مسلمين، فظن العالم أننا الصيغة العملية للإسلام، وحملوه كل أمراضنا، واعتقدوا أنهم إذا أسلموا أصيبوا بأمراض، فتحاموا عنه مبتعدين. وهكذا.. أصبح الإسلام محجوباً بالمسلمين، وكان الإسلام بألف خير لو لم يمثله المسلمون هذا التمثيل المشوه.

وكان لكثير من المسلمين ـ اليوم ـ شرف الإنصاف لو يملكون الجرأة على أن يعدلوا الإسلام، فيصارحوا العالم بـ: (أنهم ليسوا مسلمين عقيديين، وإنما هم مسلمون عاطفيون، جاءهم الإسلام بالوراثة، ولم يتخذوه بالفعل). حتى يرفع الحيف عن الإسلام ـ على الأقل ـ.

 

ـ 2 ـ

1ـ مواهب الله للأفراد أكثر مما يستخدمونها، بل أكثر مما يستطيعون استخدامها. فلكل مخزون احتياطي، هائل من المواهب المتنوعة، التي يختار ـ عادة ـ واحدة منها، ويعرضها، للبلورة والتنمية، حتى يبلغ فيها درجة التخصص، ثم يعيش منها... ويهمل بقية المواهب، ليعيدها خامات إلى التراب. ويؤكد توفر المواهب الخامة في الإنسان بنوعيات كثيرة، وكميات هائلة:ـ

أـ إن كل فرد عندما يدخل أي مجال تمليه عليه ظروفه، يجد الخامة المناسبة في وجوده: فلو دخل في المجال السياسي، أو الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو العسكري، أو العلمي، أو الأدبي، أو الفني... بمختلف فروع هذه المجالات؛ ينجح في ذلك ولو دخل في مجال ثم تركه إلى غيره، ينجح أيضاً. وهذا.. يكشف عن توفر كل الخامات في وجوده. إلا أن ثقل جسمه في الحركة العضلية والفكرية؛ تخلفه عن استخدام كل مواهبه، وتضطره إلى الاكتفاء باستخدام واحدة منها، أو اثنتين في أحسن الحالات. بينما المناجم غير البشرية، ليست غنية إلا بنوع واحد: فمنجم الحديد غني بالحديد دون الذهب، ومنجم الذهب غني بالذهب دون الفضة... فكل منجم غني بمعدن واحد، والإنسان غني بكل المعادن.

ب ـ إن كل فرد عندما يختار إحدى مواهبه لاستخدامها يجدها وفيرة بمقدار ما يحتاج إليها: فلا يدخل المجال السياسي أو الاقتصادي أو غيرهما... إلا ويجد أن في استطاعته أن يستزيد.. ويستزيد.. وأن يعلو.. ويعلو.. كثيراً ولا يصل إلى وقت يشكو فيه من نضوب الخامة المناسبة في وجوده. فيما المناجم غير البشرية، ليست غنية إلا بكمية محدودة من المعدن، ويأتي على كل منجم زمان يشكو فيه نضوب معدنه. فخامات الإنسان قابلة للامتداد بلا حدود قريبة، أو هي ـ على الأقل ـ أكثر من قدرته على الاستهلاك كماً، كما هي أكثر من قدرته على الاستهلاك نوعاً.

وربما تساعد على إهمال المواهب (عقدة الصغار) التي يتلقاها كل فرد من أوليائه في دور الصبا، ثم لا يبارح سرطانها رغم تفتق الحياة في جسمه وروحه وفكره... فيبقى صغير المطامح مهما كبر، وتبقى مواهبه أوسع من طموحه مهما توسع.

2ـ إن كل فرد يجد ـ في ذاته ـ مادة التوسع والامتداد أكثر مما يشاء، فكل فرد هو الذي يحدد محيط شعاعهم في المكان والزمان: فكم من فرد يبتلع شعاعه، حتى لا يكون له شعاع بمقدار أبعاد جسمه، فيعيش بلا وجود، ولا يعمر لحظة من الزمان، لأنه يعيش تحت تأثير غيره. وفي المقابل: يكون فرد يعيش الملايين من البشر، ويعمر آلاف السنين، لأنه يحتضن الملايين آلاف السنين.

3ـ إن العظماء لا يختلفون عن غيرهم في كمية المواهب أو نوعيتها، وإنما يختلفون في هندسة أعمالهم: فالعظيم هو الذي يهندس قبل أن يضع اللبنة، وغيره يرمي اللبنة ثم ينتظر وقعها. والفاشلون ليسوا هم الذين لم يجدوا المواد الكافية لبناء أنفسهم، وإنما هم الذين فرطوا فيها فلم يجدوا أنفسهم.

4ـ إن المجتمع يمنح كل فرد مدى محدوداً يحدد مداه الاجتماعي وفترة نشاطه من العمر، ويبدأ بعمل يكون قدر مداه ونشاطه، حتى ينجز في حياته عملاً يساوي عمر إنسان. وأما إذا أخطأ هذا الحساب، فبدأ بعمل أكبر من مداه ونشاطه، أو أصغر منهما، أو زرع نشاطه في أراضي الآخرين؛ فقد انتهى كما بدأ، وربما أسوأ مما بدأ.

5ـ إن الهندسة الصحيحة هي التي تحمل توقيع السماء فالصحيح هو (المعروف) في لغة الأنبياء، والخطأ هو (المنكر) في لغتهم. فما أرقته العقول الكونية فهو (الصحيح)، وما شجبته العقول الكونية فهو (الخطأ).

والأمم ـ كالأفراد ـ: فالأمة التي تتبنى (المعروف) و(ترفض المنكر)، ثم تحتضن سائر الأمم، فتدعوها إلى تبني (المعروف) و(رفض المنكر)، فهي الأمة القائدة، التي تبني البشرية، ويكون لها شعاع يسع البشرية. والأمة التي تنتظر من يبنيها، وينفض عنها غبار القدم؛ فهي الأمة التي ابتلعت شعاعها، فتعيش بلا وجود ولا عمر:

{... ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور}(22).

6ـ إن الفرد الذي يعي فلسفة الإنسان، ويتفهم العوالم التي يمرره الله بها؛ يستطيع أن يعيش خارج حدود جسمه وحاجاته، فيستطيع أن يستوعب الآخرين. ومن يجد في واقعه هذا الامتداد، وسيتنفده، فيرتفع فوق ذاته، ويرعى الآخرين؛ تكون قماشته قيادية، فيصبح فوقهم، فيكون رئيسهم الطبيعي، رغب أم زهد، وقبلوا أم رفضوا.

7ـ إن الأمة الإسلامية التي نواتها إنسان الشرق الأوسط، أمة متفوقة. لأن إنسان الشرق الأوسط إنسان متفوق على غيره ـ بمقدار ما أرض الشرق الأوسط بمناخها وملابساتها أغنى من غيرها ـ. ويكشف هذا التفوق: أن في الشرق الأوسط يوجد الرجل الواحد ينهض وحده بالعبء الكثير، أو يقتل الخلق الكثير، أو يطعم الجمع الغفير... وإنسان الشرق الأوسط هو صاحب الأنانية، والأوحدية، والفردية، والتحدي... في أعماله العضلية، والفكرية، والسياسية... وفي أي مجال يدخله. وهذه المواصفات والمحاولات ـ وإن كانت في جانبها السلبي سيئة، لأنها تعطل الآخرين، وتجعلهم أدوات وإمعات ـ إلا أنها، في جانبها الإيجابي، تدل على أن إنسان الشرق الأوسط طموح روحياً، وقادر جسدياً، فهو يحاول التفوق، ويستطيع التفوق.

وبالفعل، عمل إنسان الشرق الأوسط ـ كأفراد ـ ما عجز عنه الآخرون. وبالفعل اختار الله الكثير من أنبيائه، والكبار من أنبيائه؛ من إنسان الشرق الأوسط. فالأمة الإسلامية، كمجموعة بشرية، هي ـ بالفعل ـ خير أمة أخرجت للناس، لأنها غنية بمؤهلات متفوقة ـ ولأسباب طبيعية ـ. ففي أي وقت تحسن استخدام مؤهلاتها، تعود ـ عملياً ـ خير أمة أخرجت.

وإنسان الشرق الأوسط يبقى نواة الأمة الإسلامية، رغم انحرافه وانجرافه حالياً ـ نتيجة لسلسلة النكسات والارتباكات التي تعتري الأمم عادة في تواريخها ـ، لأنه يجد في واقعه رواسب تاريخية لا يستطيع الانسلاخ عنها. وهذه الرواسب كفيلة بإعادته إلى مكانه الطبيعي، عندما يتخلص من عقد هزائمه، ويعود إليه الاتزان والاطمئنان.

ولعل القرآن استخدم كلمة (كنتم) دون كلمة (أنتم)، للدلالة على أنكم بشرياً ـ في التقييم حسب المؤهلات ـ خير أمة أخرجت للناس، وعملياً ـ في التقييم حسب الأعمال ـ عندما تحسنون التصرف بمؤهلاتكم. فلكم القماشة القيادية المفضلة، التي هي أفضل القماشات البشرية التي تولت القيادية العالمية. فأنتم {كنتم} ـ كبشر ـ {خير أمة أخرجت} قائدة {للناس}، ويبقى عليكم العمل. وتبقى سائر الأمم التي تصدت للقيادة العالمية، دون مستواكم ـ بشرياً للملابسات المختلفة ـ وإن تفوقت عليكم ـ عملياً.

 

ـ 3 ـ

1ـ الأمر، هو (الصوت الأقوى)، وليس مجرد (صوت الأقوى): فقد يكون الفرد أقوى ـ بمقياس: المال، أو السلاح، أو المنصب، أو الشهرة... ـ ويكون صوته الأضعف، وربما يكون الفرد أضعف ـ بذلك المقياس ـ ويكون صوته الأقوى.

ذلك: أن الفرد قد يمتلك الإيمان الأقوى(23) بقضاياه، ويجد في ذاته الإرادة الأقوى لتحريك تلك القضايا، فينزل إلى المعركة ـ أية معركة خاضها ـ بكل ثقله، فينتظر. وقد لا يمتلك الإيمان الأقوى، ولا الإرادة الأقوى، فلا يحشد للمعركة كل ثقله، فينهزم رغم ما تكون لديه من طاقات لأن قرار مصير المعارك ليس بذات الشخص المعترك، وإنما بحجم القوة المعتركة، وبنوعية استعمالها: فالذي يجد حنجرة الأسد، قد يخرس أمام صيحة من لا يجد تلك الحنجرة، لأنه لم يصحب حنجرته فقط، وإنما جند كل دمه، وعضلاته، وأعصابه، وحنجرته... فصاح بها كلها. والذي يمتلك مئة ألف، ولكنه بتاجر به، وبشخصيته، وبفكره، وبكل وقته... قد ينتصر على من يملك مليون ولكنه لا يتاجر إلا بجزء منه.

ومن هنا.. يبدو أن العظماء ـ غير المعصومين طبعاً ـ لم يكونوا أعلى مواهب من غيرهم، وإنما كانوا أقوى إيماناً بقضاياهم، وأجرأ إرادة على تنفيذها. أولم يقيم الإمام علي (ع)، وضعه في الوسط الذي عاصره ـ يوم الإنذار وعمره الشريف آنذاك عشر سنين ـ بقوله: «كنت أحمشهم ساقاً، وأضعفهم صوتاً، وأقصرهم قامة...»(24)، وعاش أميراً حيث لم يرد ولم يريدوا أن يكون أميراً؟! ولعل إلى هذا العامل، أشار الله تعالى بقوله:

{... كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن الله...}(25).

والله ـ تعالى ـ لم يردنا أن نكون أمراء حتى نأمر بالمعروف أو ننهى عن المنكر، ولا أراد ذلك من أمرائنا فحسب، وإنما أراد منا أن نزج بكل طاقاتنا في معارك الحق، لنتأمر حتى على أمرائنا، فيكون الدين ـ كله ـ لله على الجميع، لا أن يكون سلاحاً يضاف إلى أسلحة القوي على الضعيف.

2ـ (المعروف) كل ما عرف، أي: كل ما استحب. و(المنكر) كل ما لم يعرف، أي: كل ما استكره. و(المعروف والمنكر) تعبيران واسعان، يشملان أكثر الأشياء والأعمال والأقوال... فأكثر ما في الحياة، إذا عرض على مقياس الضمير الحرّ السليم، إما يصنفه (معروفاً) أو (منكراً) سواء: في المجال العبادي، أو في المجال العقيدي، أو في المجال الاقتصادي، أو في المجال الاجتماعي، أو في المجال العسكري، أو في المجال الخلقي، أو في سائر مجالات الحياة، أو في مجال تقييم ما في الحياة من أشياء أو مواد... فليس (المعروف والمنكر) محصورين في المجال العبادي، كما قد يوحي بذلك ترديدهما كثيراً في هذا المجال وحده.

3ـ إن الوجدان الإنساني واحد ثابت، لا يتغير من جيل إلى جيل ولا يتبدل من مجتمع إلى مجتمع، سميته (الضمير) أم سميته (العقل). فهو وديعة الله في البشر، والقيم عليه في سلوكه، وإشراقة النور على دربه.

ففي كثير من الحديث: «إن لله على الناس حجتان: عقل ظاهر هو الرسول، ورسول باطن هو العقل»(26)، «أول ما خلق الله العقل، فقال له:... بك أثيب، وبك أعاقب»(27)... فـ(المعروف) في محكمة الضمير واحد، في كل الأجيال والمجتمعات، لا يتغير من ضمير إلى ضمير. و(المنكر) في محكمة الضمير واحد، في كل الأجيال والمجتمعات، لا يتبدل من ضمير إلى ضمير. وإن كان الضمير قد يسحق تحت وطأة المصلحة، كما قد يقتل الرسول. أو يشوش عليه بضجة الدعاية المنحرفة فيخفت صوته، كما قد يكبت صوت الرسول.

فيكون الشيء الواحد معروفاً في هذا الجيل، ومعروفاً في ذلك الجيل؛ بمقدار تحكم المصالح والدعايات. ولكن هذه الظاهرة لا تكشف تناقض الضمائر، من جيل إلى جيل أومن مجتمع إلى مجتمع، وإنما تدل على أنه ليس أقوى سلاح حتى تنهار أمامه مختلف أنواع الأسلحة. فهو صوت الضمير الذي قد يسحق، وقد يخفت، ولكن لا ينجو من محيط المؤثرات إلا ويعود إلى إجماع الضمائر، فيصدر أحكامه الواقعية المطمئنة بعدالتها.

4ـ الجسم الحي السليم، وهو الجسم الذي يتمتع بمناعة: فيزيل زوائده، ويبلسم جروحه، ويعقم العناصر الغريبة عنه... بسرعة تتناسب مع مقادر حيويته وسلامته.

والجسم غير الحي أو غير السليم، هو الذي لا يتمتع بمناعة: فيرزح تحت زوائده، ويرحب بجروحه، وبالعناصر الغريبة عنه... بعفوية تتناسب مع مقدار ما يعاني من نقص في حباته أو سلامته، والجسم الحي السليم، ليس أكثر من مجموعة مترابطة من الوحدات الحية السليمة. والجسم غير الحي أو غير السليم، ليس أكثر من مجموعة مترابطة من الوحدات غير الحية أو غير السليمة.

فالمجتمع ـ بدوره ـ جسم: قد يكون غنياً بالحياة والسلامة، وقد يكون فقيراً إلى الحياة أو السلامة.

والمقياس هو: مناعته، ومدى مناعته، أو عدم مناعته. وقد صمم الله المجتمع الإسلامي حياً سليماً، فكان من الطبيعي أن يكون منيعاً يحافظ على عوامل صحيته، ويتحفظ على عوامل مرضه.

وأما المجتمع الذي يفقد الإصلاح الذاتي، فينتظر النجدة من غيره، فهو المجتمع غير الحي أو غير السليم، الذي قد تأتيه النجدة وقد لا تأتيه.

 

ـ 4 ـ

(المعروف) كل ما عرفه العقل والقلب والضمير، حتى امتد على مدى الإنسان السليم. و(المنكر) كل ما أنكره العقل والقلب والضمير، حتى أنكر على مدى الإنسان السليم. و(المعروف والمنكر) ليسا محتكرين على مجال العبادات، وإنما هما شائعان في مجالات: العقيدة، والاجتماع، والأخلاق، والسياسة، والاقتصاد، وكل مجالات الكون والحياة والإنسان... بحيث لا يسع مجال العبادات فيها إلا محيطاً محدوداً جداً.

وإذا كان (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) من مظاهر الأمة الخيرة المفضلة، فليسا محدودين بحدود الفقه، وإنما هما من مظاهر هذه الأمة في المجالات الأخر قبل مجال الفقه.

* من كتاب خواطري عن القرآن

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 4/أيلول/2013 - 27/شوال/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م