في حضرة الإمام الرضا عليه السلام

أحمد رضي

 

هذه زيارتي الأولى لمدينة مشهد المقدسة بالجمهورية الإسلامية الإيرانية حيث يوجد ضريح الإمام علي بن موسى الرضا عليهما السلام سليل العترة النبوية الطاهرة. وهو إمام تعلم بمكانته وأعلميته وأخلاقه النبوية طائفة الشيعة أكثر من طائفة أهل السنة التي تجهل نسبه وسلالته التي تعود للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وللرسول ص.

بعد مشوار سفر طويل ومتعب عبر الباص والطائرة.. وصلنا ليلاً في وقتٍ متأخر، وأوصلنا السائق للفندق وقلوبنا معلقة بهوى الحب لزيارة إمامنا الرضا عليه السلام الذي قال فيه رسول الله ص: (ستدفن بضعة مني بخراسان ما زارها مؤمن إلا أوجب الله له الجنة وحرم جسده على النار)، وفي حديث آخر (ستدفن بضعة مني بخراسان، ما زارها مكروب إلا نفس الله كربته ولا مذنب إلا غفر الله ذنوبه). وقال فيه الإمام محمد الجواد عليه السلام: (ضمنت لمن زار قبر أبي الرضا عليه السلام بطوس عارفاً بحقه الجنة على الله تعالى).

تجتاحك الذكرى وأنت تزور إنسان قضى نحبه مقتولاً مسموماً في عهد الحاكم الظالم المأمون العباسي.. تتذكر ظلامته أمام عدوه، وتستحضر غربته في أرض نائية أجبر على الهجرة لها بدل البقاء بمدينة جده المصطفى ص.

تلوح قبة قبره الشريف لك في الليلة الظلماء، نور شعاعها البراق يخطف بصرك، وحنين الذكرى والولاء ينسيك تعب الرحلة الطويلة.. إنها معادلة الحب والعشق الأبدي وقلَّ من يعرفها، حين تعلقت قلوب الشيعة مع ذكريات الحزن والفرح لأئمتهم الاثنا عشر أحفاد رسول الله ص.

استقبلنا سنا برق ضريحه الخاطف للبصر بلمحة سريعة ونطقت ألسنة الولاء بالصلوات الإبراهيمية للنبي محمد ص.

وفي نهار اليوم التالي مشينا خطوات لمرقده الطاهر.. تدفعك جاذبية الحب بشغاف قلب طاهر وصادق في محبته، يرجو الفوز في الدنيا والآخرة بشفاعة المولى الكريم، ونستحضر دعاء الإمام الصادق عليه السلام في زمن الغيبة بقوله: اللهم عرفني حجتك، فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني... ولله الحمد أننا تربينا على ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وجاهد أبي وأمي أن نتربى بحصن الولاية والمحبة الطاهرة لآل البيت الأطهار.

اقتربنا من الحرم المبارك.. بدأ قلبي يخفق بشدة وحرارة جسمي تنبض بحياة تعيش على ألم البقاء وأمل الانتظار.. لحظة اللقاء من أصعب اللحظات لأنها بمثابة ولادة للروح الإنسانية حين تعيش شعوراً غريباً وعجيباً وكأنك ليس من جنس هذا العالم الأرضي.. تتعلق روحك بالمحل الأول لفطرتك فتكاد تكون قريباً أو قاب قوسين منه.. تدخل من أحد أبواب حرمه المبارك، تلاحظ الآلاف تحج لمقامه الشريف، صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءً من شتى الألوان والدول.. رغبوا بلقاء حبيب الله وضامن الجنان الغريب الوحيد.

تقف في حضرته.. تعجز الكلمات عن البوح، تدمع العين رغماً عنك دموع الشوق والحب، أبكي فرحاً وألماً.. فرحة اللقاء الأول بالمحبوب، وألم الشعور بغربة الحبيب.. تكاد تفقد كل شيء.. أهلك وأصدقاءك ووطنك إلا قلبك المتعلق بالله تعالى ووليه الأعظم.

بكيت بحسرة وحزن وألم مكبوت طويلاً في قلبي.. كم تمنيت أن أزور سيدي وإمامي الرضا عليه السلام وأخته السيدة فاطمة المعصومة والمدفونة بقم المقدسة مأوى العلم والعلماء وغيرهم، ولله الحمد تحققت أمنيتي أخيراً بعد طول انتظار.. وهو سبب سعادتي وفرحتي.

أما سبب حزني وألمي.. فهو رغبتي القديمة بزيارة الإمام الرضا عليه السلام عندما كان أبي الراحل يعاني آلام المرض الذي أنهى حياته بعد معاناة طويلة.. كم تمنيت حينها الوصول لإمامي وسيدي ومناجاة الله تحت قبته الشريفة بجنب جسده الطاهر لشفاء والدي العليل.. ولكن حال الظالمون بيني وبين أمنيتي بسبب قلة حيلتي ومنعي القسري من السفر واعتقالي قبل ذلك ظلماً عقاباً لنصرة شعبي المظلوم بلساني وقلمي.. وحينها سقط والدي طريح الفراش بعد يومين من اعتقالي ومع صور التعذيب وذكريات قديمة جعلته يسقط ألماً وحزناً.. وكان سقوطه أمل ومرضه رسالة وبلاءه رحمة له ولله الحمد في الشدة والرخاء.

ولكني لم أعدم الوسيلة بطلب الرحمة والمغفرة له وأن يجعل الله قبره روضة من رياض الجنة ويخفف عليه الحساب ويحفظه برحمته الواسعة ويغفر له، وصليت عن والدي المرحوم صلاة الزيارة بالنيابة.. دعوت لوالدي المرحوم وأمي الحبيبة وأهلي وأصدقائي وجميع أحبتي ومن سألني الدعاء والزيارة.. دعوت بالفرج لوطني المحتل ولإخواني المعتقلين ظلماً في السجون بأن يفرج الله عنهم وينصرنا على الظالمين.

تقف أمام الضريح الطاهر للإمام الرضا عليه السلام.. تستحضر التاريخ الطويل من حكم سلالات الظالمين وتتساءل أين هم؟ ولماذا نساهم الناس وطواهم الزمن رغم كثرة أموالهم وجنودهم؟ ولماذا لم يستمر حكمهم القائم على قهر إرادة الشعوب وطمس صوت الحقيقة وإخفاء معالم الرسالة المحمدية التي حافظ عليها أهل البيت عليهم السلام بأرواحهم ودماءهم فكانوا مدرسة علم وأخلاق ومنهج حياة.. فالسلام عليكم يا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة.

في حضرة الإمام الرضا عليه السلام.. ندعو له بالقول المشهور: (السلام عليك يا إمام الهدى والعروة الوثقى... أشهد أنك لم تؤثر عمى على هدى ولم تمل من حق إلى باطل وأنك نصحت لله ولرسوله وأديت الأمانة، فجزاك الله عن الإسلام وأهله خير الجزاء... أتيتك زائراً عارفاً بحقك موالياً لأوليائك معادياً لأعدائك).

أنت أمام حبيبك تراه يسكن قلبك وعقلك، فهو شعور جميل فريد من نوعه حين تتصل روحك به فتكلمه وتسلم عليه وتطلب من الله تعالى بحقه الشفاعة وتلبية طلبك.. الحبيب ليس مجرد جسد محبوس في قفص مزين، وليس مهماً وصولك لضريحه ولمس أعتابه رغم الزحام الشديد فهو يسكنك بلطف روحه الشفافة ويغمرك بشعور العاشق المتيم بسيده ومولاه بعد طول انتظار.

أمام حبيبك تستحضر وحدته القاتلة وغربته المؤلمة كما تتذكر غربة الرسول ص حين جفاه قومه، وغربة أمير المؤمنين علي عليه السلام حين يخرج في الليل لوحده يناجي ربه، وغربة إمام العصر والزمان أبا صالح المهدي وهو ينتظر الأمر الإلهي بالظهور، وغربة العبد الصالح حين سافر لعوالم الملكوت.

أمام الحبيب تتذكر إخوانك المعتقلين في سجون الظالمين فتدعو لهم بالفرج العاجل.. وتتذكر أولئك الشباب الذين حملوا أرواحهم على أكفهم دفاعاً عن الدين والوطن فتطلب من الله أن يحفظهم من كل سوء ومكروه.. هؤلاء الفتية الذين لم توقفهم حسابات السياسة وعصبية الأحزاب عن مواصلة طريقهم المملوء بالشوك والألم.. وقل من يفهمهم ويدرك سرهم.

وعند أعتاب الحبيب تستحضر بالدعاء أحبة مغيبين في أصقاع العالم ينتظرون بشوق لحظة الظهور المقدس لإمام العصر والزمان الذي سيظهر ليملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً وفساداً.. وتتذكر أناس يأنسون بالذكر والدعاء والصلاة، يألفون الوحدة رغم اقترابهم من الناس، ويميلون للغربة رغم الألم فهي ملاذهم في عصر الفتن.. تتذكر الأحياء والأموات فتدعو لهم بالرحمة والمغفرة.. تتذكر كل ضعيف ومحتاج أو مديون أو مريض يسأل العلي القدير إجابة الدعاء وتلبية طلبه.. تتذكر كل مظلوم لتدعو بفكاك رقبته والانتصار بالعمل على الظالمين.

تتذكر نفسك أنك لا شيء قبال حضرة المولى، فتدعو الله الرحيم بعد أن صيّرك عبداً أن تثبت على طريقه المستقيم وتحارب نفسك الأمارة بالسوء وتصلح أخلاقك وتحسن معاملة زوجك وأولادك وأهلك.. وأن تصون حرمات الله وتزور مساجده وتقرأ كتابه وتتعهد بنصرة أوليائه ومحاربة أعداءه.

الامتحان صعب والحساب عسير والرحلة قصيرة.. أن تجعل روحك وجسدك ولسانك وقلمك.. بل كل وجودك وكيانك يفنى في حب سيده ومولاه، ويتعهده بالطاعة والولاء بحكم القلب، وأن تنصر عباده المظلومين والمحتاجين حسب الاستطاعة والتكليف.

فعلاً الإيمان منهج حياة يرشدك لطريق الحب الطاهر، ومعرفتك لإمامك وزيارته ومعرفة واجبك اليوم هو بمثابة ولادة جديدة للروح الإنسانية في لحظة تجلي ونقاء.. إنها لحظة حب فطري للخلود وعشق دائم للحياة رغم الألم... ويبقى هناك أمل كبير مع إيمانك بالله ومعرفة أوليائه والسير على نهجهم وأخلاقهم.. بأن تكتشف ذاتك وتتعرف على جوهر إنسانيتك.. من أين، وفي أين، وإلى أين؟

أو إذا أردت التعرف على حقيقة وجودك ودورك المطلوب.. ابحث عن أولياء الله وأصفياءه وأحباءه.. ابحث عمن يعرف الله ويذكره ويتنزه عن الخطأ والهوى.. ابحث عن بيوت الله ومساكن ذكره التي نزلت فيها آياته وأوامره.. فمن والاهم فقد والى الله ومن عاداهم فقد عادى الله، ومن عرفهم فقد عرف الله، ومن جهلهم فقد جهل الله.. فهم سفينة النجاة.

وتلك بداية طريق طويل مع زاد قليل.. حافظ على قلبك بالحب الطاهر والإيمان بالله تعالى وتعرف على أهل البيت الأطهار، وازرع إرادة الأمل في طريقك وكن شيئا ًخلقه الله تعالى ليكون.. واصبر فإن نور الفجر لاح بالأفق القريب. وتلك لحظة لقاء الحبيب مع محبوبه، وما أدراك بلوعة فراق الحبيب وألم الصبر في غربة الأوطان وتجرع لوعة الحنين لهجرة الأحباب.. فذاك حديث آخر.

السلام عليك يا سيدي ومولاي.. السلام عليك يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حياً، والحمد لله أولاً وآخراً ونسأله تعالى أن يجمعنا معكم في دار الآخرة، ويوفقنا لأداء الحق وواجب الشكر لدوام ألطافه الخفية وعجائب القدر برعاية المولى الكريم.

* كاتب صحفي، البحرين

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 29/آب/2013 - 21/شوال/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م