الطفولة... حق يجب ان يستوفي شروطه

 

شبكة النبأ: الحفاظ على صحة وسلامة الطفل وتوفير الرعاية الازمة هي اليوم من اهم الضروريات التي يدعوا لها الكثير من العلماء والمنظمات العالمية في مختلف دول العالم في سبيل تحسين الحياة وتوفير الرعاية الصحية والتربوية الكاملة، من خلال الاعتماد على بعض الدراسات والابحاث العلمية الحديثة التي تهتم بتغذية وتربية الأطفال في مرحلة الطفولة المبكرة والتي تعتبر من اهم مراحل التكوين، وفي هذا الشأن فقد وصلت دراسة أسترالية حديثة إلى أن عادات الأكل عند الأطفال في سن ما قبل الدخول إلى المدرسة قد تحدد احتمالية إصابتهم بأمراض القلب والشرايين لاحقا في حياتهم. وأجرى الدراسة باحثون في مستشفى سان مايكل في تورونتو. ووجدوا أن سلوك الأكل غير الصحي عند الأطفال في سن الثالثة إلى الخامسة يجعلهم أكثر عرضة لارتفاع مستويات الكولسترول السيئ، مقارنة بالأطفال أصحاب عادات الأكل الأكثر صحة.

وأشار الباحث المسؤول عن الدراسة ناف بيرسود إلى أن ارتفاع الكولسترول يمكن أن يؤدي إلى أزمات قلبية وسكتات دماغية لاحقا، مؤكدا على ضرورة أن يعطي الأهل أطفالهم غذاء صحيا متنوعا ويسمحوا لهم باختيار موعد وكمية الأكل الذي يريدونه. كما أوصى الأهل أيضا بجعل وقت الطعام ممتعا للأطفال، لكن هذا لا يعني وضعهم أمام التلفاز أو شاشة الحاسوب أو الألعاب الإليكترونية. وشملت الدراسة 1100 طفل في مرحلة قبل الدخول إلى المدرسة، ونظرت في العلاقة بين عادات الأكل ومستويات الكوليسترول السيئ التي تشكل مؤشرا على خطر الإصابة لاحقا بأمراض القلب والشرايين. ووجد العلماء أن النظام الغذائي للطفل في سن الثالثة يمكن أن يحدد احتمالية إصابته بأمراض القلب والشرايين في مراحل لاحقة من عمره.

الى جانب ذلك بيّنت دراسة أميركية حديثة، وجود زيادة واضحة بالآلام المزمنة والمتكررة عند الأطفال والمراهقين في الولايات المتحدة خلال فترة 6 سنوات امتدت من 2004 إلى 2010. وجمع الباحثون المعلومات من 3752 طفلا تم قبولهم في مستشفيات الأطفال عبر الولايات المتحدة وذلك لتحديد ميزات الأطفال المقبولين في المستشفيات بسبب الآلام المزمنة. بالنتيجة كان معظم الأطفال الذين عانوا من آلام مزمنة ومتكررة من العرق الأبيض ومعدل قبول الإناث كان ضِعف الذكور، ومتوسط العمر 14 سنة.

أما بالنسبة لبقائهم في المستشفى فقد قضوا فيه مدة متوسطها أسبوع وشُخَّص لكل طفل مرض جديد واحد على الأقل في كل مرة تم قبوله بالمستشفى، وأجريت له 3 إجراءات تشخيصية وتم الشك بـ 10 أمراض لكل طفل. وفيما يخص الأسباب التي كانت وراء الآلام المتكررة، فقد خلصت الدراسة إلى أن الألم البطني كان سبب مراجعة المستشفى والبقاء فيه لدى ثلثي الأطفال وشُخصت الأمراض النفسية لدى أقل من نصفهم 44%. ولم يستطع الباحثون خلال فترة الدراسة من تحديد سبب مؤكد وراء زيادة عدد الأطفال الذين يعانون من الآلام المزمنة والمتكررة ولكنهم يتوقعون أن يكون لسوء المعاملة والأذى الجسدي أو النفسي أو الحرمان العاطفي التي مر بها الطفل في الطفولة تأثير على زيادة حدوثها.

دراسات اخرى

في السياق ذاته حذرت طبيبة الأطفال الألمانية هيلديغراد بريتسريمبل من شبكة "الصحة سبيلك للحياة" الآباء من تقديم عصائر الفواكه لطفلهم الرضيع خلال العام الأول من عمره اذ يتسبب ذلك في تعود الطفل على المذاق الحلو للعصير، ما يؤدي غالباً إلى تراجع معدل تناوله من وجباته الأساسية. كما يمكن أن تتسبب هذه العصائر باضرار في أسنان الطفل وإصابتها بالتسوس.

وأضافت البروفيسورة أنه صحيح أن عصائر الفواكه تحتوي على كميات كبيرة من الفيتامينات والمعادن المفيدة للطفل، إلا أنها تتسبب في إمداده بكميات من السكر والسعرات الحرارية. لذا أوصت أن من الأفضل أن يقتصروا على تقديم الماء الصافي لطفلهم خلال عامه الأول، مؤكدة على ذلك بقولها إن الماء يعد أفضل وسيلة لإطفاء عطش الطفل الرضيع.

وإذا اضطر الآباء لتقديم بعض العصائر لطفلهم من وقت لآخر، شددت بريتسريمبل على ضرورة ألا يتم الإكثار منها وأن يقدموا له نوعية العصائر المخففة المحتوية على كميات كبيرة من الماء وحصة صغيرة من العصير. وأردفت طبيبة الأطفال الألمانية أن من الأفضل أن يتم تقديم هذه العصائر للطفل في كوب من البلاستيك أو الزجاج، موضحةً أنه إذا تم تقديم هذه العصائر المحتوية على السكر في الأكواب ذات الماصة أو في زجاجة الرضاعة، يُمكن أن يتسبب ذلك حينئذٍ في إلحاق تلف شديد بأسنانه اذ تستلزم مثل هذه النوعية من الزجاجات أن يمص الطفل منها المشروبات ومن ثم يتم إغراق الأسنان بهذه العصائر المسكرة بصورة مستمرة.

من جانب اخر أكدت دراسة أميركية أن وقت الإخصاب من العوامل التي تؤثر على صحة الأجنة. وبرهن الباحثون خلال دراستهم التي نشرت في مجلة "بروسيدنجز" التابعة للأكاديمية الأميركية للعلوم على أن الأطفال الذين تحمل بهم أمهاتهم في شهر أيار (مايو) يولدون مبكرا على الأرجح. ورجح الباحثون أن يكون السبب وراء ذلك هو أن نهاية فترة الحمل في كانون الثاني (يناير) وشباط (فبراير) تشهد الكثير من عدوى الإنفلونزا وأن الإنفلونزا من شأنها أن تعجل بالإنجاب. وتوصل الباحثون إلى هذه النتيجة بعد تحليل بيانات أكثر من 4ر1 مليون طفل أميركي. وقال الباحثون إن البيانات التي توصلوا إليها أثناء الدراسة يمكن أن تساعد الهيئات المعنية بالصحة على سبيل المثال في تحديد وقت تطعيم الأمهات ضد الإنفلونزا.

في السياق ذاته قال باحثون أميركيون إنهم توصلوا إلى معلومات حول طريقة تعلم الأطفال للكلام من خلال تعليم طيور تغريدات جديدة. ونقلت صحيفة نيويورك تايمز عن الباحثين أن الصعوبة التي تواجهها الطيور في تعلم تغريدات جديدة تضم انتقالاً بسيطاً في النمط، تشير إلى أن تعلم الانتقال بين المقاطع الصوتية هو نقطة التحول بين مناغاة الأطفال والكلام المفهوم.

وقالت ديانا ليبكيند، الباحثة في علم النفس بجامعة هانتر في مانهاتن: اكتشفنا مكوناً غير معروف سابقاً للنموّ الصوتي، وأضافت ظهر أن مناغاة الأطفال ليست لتعلم أصوات فقط بل لتعلم الانتقال بين الأصوات أيضاً. وأشارت ليبكيند إلى أن الدراسة قد تمكّن الاختصاصيين من فهم اضطرابات الكلام عند الأطفال بشكل أفضل.

على صعيد متصل طور أطباء بلجيكيون نسخة منخفضة التكاليف من تكنولوجيا أطفال الأنابيب لاستخدامها في الدول النامية حيث تكون النظم الغربية الأكثر تعقيدا أعلى من القدرات المالية لمعظم الأزواج. وقال الباحثون إن عمليتهم المبسطة تكلف نحو 200 يورو (260 دولارا) لكل دورة علاجية وانها حققت نتائج لا تختلف كثيرا عن تلك التي تحققها برامج التخصيب التقليدية.

وقالت الكه كليركس من معهد جينك لتكنولوجيا الخصوبة في اجتماع طبي إن السعر يمثل ما بين عشرة و15 في المئة فقط من التكاليف الراهنة لبرنامج التخصيب الغربي مشيرة إلى أن هذ البرنامج يمكن أن يكون متاحا ذات يوم على مستوى العالم. وولد نحو خمسة ملايين طفل على مستوى العالم عن طريق تكنولوجيا أطفال الأنابيب منذ بدء العمل بها عام 1978 ولكن استخدامها يظل قاصرا بدرجة كبيرة على الدول المتقدمة بسبب ارتفاع التكلفة.

العنف التربوي

من جانب اخر تبيّن الدراسات الجارية في مجال نمو الدماغ أن العنف التربوي يؤثر بقوة في عملية نمو الدماغ واستقراره، وقد يصل هذا التأثير إلى مستوى تدمير الدماغ وشلّ القدرة العقلية لدى الأطفال ضحايا العنف التربوي، وهذا يتوقف بالتالي على درجة العنف التي يتعرض لها الطفل. فالطفل يتميز بعجزه الفطري المطلق بعد ولادته مباشرة، ولا يمكنه الاستمرار في الوجود من غير العناية والرعاية اللتين يوفرهما له الكبار، كما أنه يحتاج إلى زمن طويل من التربية والتغذية والاهتمام ليتمكن في النهاية من الامتلاك التدريجي للقدرة على التكيف في أدنى مستوياته.

ومنذ اللحظات الأولى لوجوده يشارك الطفل في بناء صلاته مع الوسط الذي يعيش فيه بطرق مختلفة وديناميات متنوعة، إذ يبدأ مبكراً بتكوين علاقة وجدانية عميقة الأبعاد مع أمه، حيث يشكل بكاؤه وابتساماته وحركاته وردود أفعاله في علاقته مع الأم نوعاً من الاتصال الإنساني المبكر الذي يشكل نواة للتواصل اللاحق مع عالم الكبار الذين يحيطون به. وفي البداية يبدأ الطفل بتمييز الوجوه التي تحيط به ولاسيما وجه الأم وصورتها، وهذا التمييز يسمح له بالتعرف اللاحق على وجوه جميع أفراد الأسرة الذين يحيطون به.

وقد بينت الدراسات العلمية في هذا المجال أن عملية اتصال الطفل مع الأسرة تشكل عاملاً حيوياً وأساسياً في تكوينه الذهني، وأن دماغ الطفل يتشكل في دائرة الاتصال المتزامن للطفولة مع الكبار في وسطه العائلي. فالعصبونات الدماغية الكامنة في دماغ الطفل تأخذ استطالاتها وتنمو شبكاتها وتفاعلاتها الكهرومغناطيسية منذ الولادة، وتتعاظم إلى مليارات الشعيرات والعصبونات والدقائق، وهذا التسارع في النمو يؤدي إلى نمو مذهل في حجم دماغ الطفل الذي يتعاظم نموه في مرحلة الطفولة الأولى حيث يصل تضاعف هذا النمو إلى %50 من حجمه خلال الأشهر الستة الأولى ويصل إلى %95 من حجمه في السنة السادسة من عمر الطفل.

وتبين الدراسات الجارية في مجال علم بيولوجيا الأعصاب أن نمو العصبونات الدماغية الداخلية وتفاعلها النظمي في الدماغ يتعلق بوضعيات الاتصال التي يقيمها الطفل مع وسطه والمحيطين به، وهذا يعني أن التفاعل الاجتماعي التربوي للطفل، وتواصله مع أفراد أسرته ولاسيما مع أمه يشكل المنطلق الأساسي لتنمية دماغه وقدراته العقلية.

وتلك هي الحقيقة التي يصارحنا بها عالم الأعصاب الأمريكي بيزيل فان حيث يقول إن تطور الكائن الإنساني يكمن في تطور الجبهة الأمامية للدماغ كما يتوقف على نمو القشرة الدماغية لديه، وتأسيسا على هذه الحقيقة فإن أسلوب تعامل الآباء والأمهات في التربية يشكل أحد العوامل الأساسية في تطور دماغ الطفل ونموه. وفي دائرة هذا التواصل يمكن القول إن الآباء والأمهات عندما يغدقون محبتهم على الطفل، عندما يقرؤون له حكاياته المفضلة، ويأخذونه بين أيديهم ويلعبون معه، ويتواصلون معه بمختلف الصيغ والأشكال التواصلية الإنسانية الخلاقة فإنهم يساهمون في عملية تنمية دماغ الطفل وعقله بصورة إيجابية وصحيحة، وعلى خلاف ذلك إذا كانت هذه العلاقة تقوم على التخويف والقمع والإرهاب والإهمال وغير ذلك من أشكال الاتصال السلبية فإن عقل دماغ الطفل يتباطأ في عملية نموه، وبالتالي فإن نمو دماغه سيكون في الحدود الدنيا للنمو الحقيقي، قد يؤدي ذلك إلى عملية تدمير للإمكانات الذهنية والعقلية للطفل في المستقبل.

وهذا بدوره يؤدي أيضا إلى إضعاف قدرات مخ الطفل نفسه على بناء علاقات مع الوسط التربوي الذي يحتضنه ويحيط به، وهنا يفقد الدماغ قدرته المطلوبة في الحصول على المعلومات الخارجية المستجدة ومعالجتها، كما يفقد الطفل القدرة على الاستفادة من التجارب الحياتية التي تشكل مصدراً للتعلم والنمو العقلي والذهني.

ويرى كثير من الباحثين أن بعض الصدمات الخفيفة قد تكون قادرة على تعطيل النمو الذهني والدماغي عند الطفل. وفي هذا الأمر يعلن عالم الأعصاب أنطونيو داماسيو أن اضطرابات النظام الدماغي يمكنها أن تؤدي إلى عطالة وظيفية في طبيعة الدماغ ولاسيما في الدورة المجهرية للعصبونات الدقيقة. ويتابع داماسيو قوله: حتى أن بعض الاضطرابات الخفيفة في النظام العصبي للمخ قد تؤدي إلى اضطرابات كبيرة وخطرة في مستوى الحياة الذهنية عند الطفل.

وفي هذا الصدد يعلن جوزيف لودو وهو أحد علماء الأعصاب الدماغية إن أي تغيرات مهما تكن بسيطة في ترابطات الخلايا الدماغية، أو أي تغيرات طفيفة جدا في طبيعة التحولات الكهرومغناطيسية بين العصبونات الدماغية، قد تؤدي إلى اختلاف كبير في طبيعة سلوك الكائن الإنساني. وتبين الدراسات الجارية في هذا المضمار أن المراكز الدماغية الانفعالية والمناطق الدماغية الخاصة بالذاكرة، وهي مناطق في غاية الأهمية من حيث توجيه السلوك، تتميز بهشاشتها وقابلتيها الكبيرة للتصدع والضرر.

وفي هذا الشأن يمكن الإشارة إلى ما يعلنه فان دير كولك حديثا إننا نخطئ كثيرا في تصورنا لمفهوم الصدمة، فنحن نجد صعوبة في تمثل واستيعاب بعض الأحداث الصعبة والمخيفة الاستثنائية في حياتنا ولكن يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن العدد الكبير من الأحداث المؤلمة العادية تلعب دوراً كبيراً وخطيراً في تشكيل شروط الحياة الإنسانية لدى الأطفال، وبالتالي فإنه عندما يجد الفرد نفسه تحت تأثير الشعور بالعجز وخيبة الأمل فإن ذلك يترك ندوباً مؤلمة تستمر مع دورة الزمن.

فكل هؤلاء الذين عاشوا في وسط تربوي لآباء متسلطين، وعاشوا في كنف علاقات تربوية عنيفة، أو هؤلاء الذين تعرضوا لصدمات انفعالية شديدة، كفقدان صديق بحادث يعرفون مرارة هذه الوضعيات ويدركون الآلام المحزنة التي خلفتها على امتداد الزمن. ولكن هؤلاء الأفراد قد لا يدركون التأثير والندوب التي تتركها هذه الأحداث فيما بعد الصدمة في تكوينهم الذهني والعضوي، فأبحاثنا ودراساتنا تبرهن اليوم على أن هذه الأحداث المؤلمة تترك بصمتها في مستوى الجسد والبنية الذهنية الدماغية عند الفرد.

ويمكننا أن نجد في المثل الشعبي حاميها حراميها صورة للتهكم من المفارقات المنطقية في وظائف الأشياء. فالأب والأم يشكلان من حيث الجوهر حماة الطفل ومصدر استقراره وأمنه وملاذه الوجودي، وعندما يتعرض الطفل للعدوان والاعتداء والتسلط من جهات خارجية فإن الأثر الممكن قد يكون ضئيلا جدا بالمقارنة مع التسلط الذي قد يتعرض له من قبل أبويه مصدر أمنه. فعندما يتعرض الطفل للعنف من قبل الأبوين أو أحدهما، فهذا يعني أن الطفل قد خسر آخر معاقله الوجودية، وهذا يعني أن آثار القمع والتسلط الداخلي الذي يصدر عن الأبوين قد يشكل مقتلا نفسيا للطفل، ويؤدي إلى تدميره أخلاقيا وذهنيا في مراحل لاحقة من حياته.

فالطفل بوصفه كياناً فطرياً، لا يوجد في استعداداته الفطرية والوجودية ما يجعله قادراً على تحمل الهجوم والاعتداء والتسلط من قبل أبويه، فهو ليس معداً ومهيئاً نفسياً أو فطرياً لقبول أو تحمل هذه الكارثة الوجودية. فالأب والأم يمثلان في حقيقة الأمر المصدر الأمني الوجودي للطفل وهما يشكلان الحصن الحصين الذي يوفر للطفل الأمن العاطفي والانفعالي ويمكنه بالإضافة إلى ذلك من امتلاك القدرة على مواجهة تحديات الحياة وصعوباتها.

فعندما يتعرض الطفل للاعتداء من قبل أي كان فإنه سرعان ما ينادي أبويه أو أحدهما طلبا للحماية والأمن، وعندما يكون كبيرا فإنه سرعان ما يجري بحثا عن أحد أبويه ليرتمي في أحضانه طلبا لأمنه الإنساني. ولكن الطفل عندما يتعرض لعقاب من قبل الأم أو الأب مهما كان هذا العقاب خفيفا فإنه سرعان ما يمتلكه شعور مؤلم بأنه قد أصبح وحيدا في مواجهة العالم وأنه يواجه خطرا وجوديا، وكأن كل قطعة من جسده تقول له إنه أصبح وحيدا طريدا وإنه لن يستطيع الاستمرار في هذا الكون خارج حصنه الأمني ومتراسه الوجودي. فالعلاقة العاطفية التي تربطه بأبويه تمثل عاملا حيويا ووجوديا في تكوينه وفي قدرته على الاستمرار. وبالتالي فإن تعرضه لعدوانية من يفترض بهم تقديم العون والحماية سيكون كارثة إنسانية ووجودية بالنسبة للطفل وغالبا ما يرتد الطفل في هذه الحالة إلى وضعية القلق النفسي والتوتر الوجودي، وهذا التوتر النفسي والقلق السيكولوجي يكون في الغالب ردة الفعل الطبيعية لسلوك الطفل إزاء غياب الأمن الداخلي.

ففي المستوى البيولوجي العصبي، أي في الحالة التي يتعرض فيها الطفل لعدوانية الأبوين، فإن الطفل يعاني فرط إفرازات هرمونية مضطربة تؤثر مباشرة في النسق الوظيفي لعمل المخ ونموه، وتضع الجسد بكامله في حال استنفار كامل لمواجهة الخطر الوجودي. ولأن الجسد أو العضوية بكاملها في حالة خطر فإن ردود الفعل تكون في الدفاع أو في الهرب وذلك من أجل تحقيق التوازن والعودة إلى مستويات الاستقرار الطبيعي للنفس والجسد.

ولكن في الحالة التي لا يستطيع فيها الطفل دفاعا أو هروبا من تحدي العدوان الداخلي (تسلط الأبوين) فإن التكوين السيكولوجي الفطري يضعه في حالة التوتر والاكتئاب وبالتالي فإن هرمونات الاكتئاب والصدمة تتحول إلى قوة تفتك بالجسد فتهجم على النظام العصبي لديه وتلحق به أشد الضرر. ويضاف إلى ذلك أن النظام المناعي يفقد تواصله الفعال مع الدماغ وذلك تحت تأثير قانون الاقتصاد في الطاقة وهو بذلك يجعل الجسد إزاء مخاطر المرض والانهيار.

فالطفل عندما يضرب من قبل أبويه، يشعر بالعجز، ويرغب في الهرب إلى أي مكان آخر غير المنزل الذي يحتضنه، فهو لا يستطيع الدفاغ عن نفسه لضعفه وعجزه. وعندما يعتاد الأبوان على ضرب الطفل ولطمه فإن هذه العقوبات تكون في الوقت الذي ينمو فيه دماغه ويتشكل. ولذلك، غالبا ما يعاني الطفل الطريد والمعاقب من قبل أبويه من المرض المستمر في مرحلة الطفولة، وهذا يؤدي أيضا إلى التأثير سلبا وبكل المقاييس على وضعية الجملة العصبية الدماغية في الطفل، لأن ردود فعل الطفل تكون نفسية وعصبية وهرمونية، ومع ديمومة هذه الاستجابات النفسية الحزينة فإن الدماغ ومع الاستمرارية في مواصلة العنف يصاب بضرر كبير يؤدي إلى ضعف شديد في القدرات الذهنية والعقلية عند الطفل في المستقبل.

وهنا يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار ضعف التكوين العصبي في مرحلة الطفولة وهشاشته وعرضته للتدمير تحت تأثير العنف الذي يصدر عن العمق الأمني للطفل ممثلا بوالديه. وهنا أيضا يجب علينا أن ندرك مدى الخطر الذي يتعرض له الطفل عندما يتعرض للشدة والعنف والتسلط من قبل والديه أو الآخرين، وأن نحذر من ممارسة هذا العنف.

وهنا أيضا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار بأن أي شكل من أشكال العقاب الفيزيائي والنفسي مهما تبلغ درجته أو بساطته والتي يعتقد بأنها أمور عادية وبسيطة لا أثر لها ولا خوف منها يمارس دوراً كبيراً في إضعاف البنية الذهنية والعقلية عند الطفل. وهذا العنف الذي تتم ممارسته في تربية الطفل يدخل في دائرة علاقات التواصل التي تؤدي دورها في تربية الطفل على نحو سلبي ومأساوي حيث تلعب هذه العلاقات دوراً أكبر مما نتصور نحن المربين في التأثير على عقل الطفل وحياته.

وغالبا ما نعتقد بأن صفعة خفيفة للطفل، أو متواضعة على قفاه، أو شدة إذن عابرة، تمكننا من توجيه سلوك الطفل وتربيته بصورة صحيحة. ولكن في حقيقة الأمر فإن الأثر الذي تتركه هذه الصفعات الخفيفة والضربات البريئة قد تكون مؤثرة ومدمرة. ولأننا نشكل النموذج التربوي لأطفالنا فإن الصفع والضرب والاعتداء الذي نقوم به يحمل رسائل مهمة ودلالات خطرة في تربية الطفل تتمثل في تكثيف وغرس البعد غير الأخلاقي في سلوك الطفل نفسه. فالعنف يعلّم الأطفال ما لا نتمناه لهم ويأخذهم إلى ممارسة غير تربوية وغير أخلاقية في المستقبل.

إنه يعلمهم: عندما لا توافق شخصا ما في رأي أو موقف فإن لك الحق في أن تصفعه حتى لو كنت تحبه،

عندما تصبح كبيراً وقوياً لك الحق في أن تضرب الصغار والضعفاء وتصفعهم، عندما يضربك شخص آخر ويصفعك ويهددك يجب أن تخضع له، العنف شر ولكنه في الوقت نفسه أمر جيد لأن من مصلحة الطفل أن نضربه. ومثل هذه المعايير السلوكية يمكنها أن تشوه البوصلة الداخلية للطفل وتجعله غير قادر على التمييز بين الحق والخطأ، بين الخير والشر.

كما أنها تفقده القدرة على مواجهة تأثير العنف الثقافي المتمثل في الدعاية والإشاعة والإعلان، كما تفقده القدرة على مقاومة الإغراءات التعصبية المضللة التي تتعلق بالإرهاب والعنف في المستقبل. وهكذا فإن ممارسة العنف ضد الآخر أمر يبدو طبيعيا ومشروعاً إن لم يكن مطلوبا وواجبا. وهذه الأمور كلها يكون الفرد قد تلقاها وتشبع بها في مرحلة الطفولة حيث كان الدماغ آخذا بالنمو والتشكل، وهذا العنف يمكن أن يصل إلى أبعد مما نتصور وذلك حين يصل تأثير العنف الطفولي إلى درجة يتم فيها تدمير أحاسيس الطفل ومشاعره التي تتعلق بالرحمة والشفقة والحس الإنساني.

ويتأصل في الإنسان قانون فطري قوامه التعاطف مع الآخر ومحبته، وهذه القانونية الفطرية تسمح لنا بأن نتواصل مع الآخر ونفهمه ونقدره. وتلك هي القاعدة الانفعالية والعاطفية لمبدأ الغيرية. وهناك منظومة من الإشارات والتجارب التي تدل على حضور هذه القاعدة الأخلاقية، حيث بينت بعض التجارب أن القرود برهنت أنها قد تحرم نفسها من الطعام إذا اقتضى الأمر في سبيل مساعدة بعض أبناء جنسها. وهذه القاعدة الفطرية قاعدة أخلاقية ذهبية ومفادها: أحبب لغيرك ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تُظلم، فهذه القاعدة كامنة في فطرتنا وموجودة في أعماقنا إذا لم تدمرها التربية نفسها، وهذا يعني أن تربية التسلط تدمر فطرتنا وتشوه قوانينها الداخلية الرائعة.

فالطفل الذي يعاني من قهر والديه وتسلطهما يتعين عليه أن يتبلد كليا ويفقد مشاعره الإنسانية كي يستطيع الاستمرار في الحياة والوجود، وهذا يعني أنه يدمر في ذاته مختلف أحاسيسه الإنسانية الطبيعية، ولاسيما محبة الآخر والشعور بآلامه والتعاطف مع قضاياه. وهنا وعندما يتم تدمير هذه الحاسة الإنسانية والحس الأخلاقي فإن كل أخلاق العالم والدين لا تجدي نفعا ولا تقدم ولا تؤخر في إحياء هذه الأحاسيس الإنسانية المدمرة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 28/آب/2013 - 20/شوال/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م