قيم التقدم: مراعاة الآخر

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: مراعاة الآخر تندرج تحت سمة أو صفة نكران الذات، أو الإيثار والتضحية من أجل الآخرين، ولا يمكن تحقيقها، ما لم يتحلَّ الانسان بقوة تحكم كافية برغباته وأهوائه، فضلا عن إمكانية ردع حالة الطمع والجشع، الموجودة في التركيبة النفسية لكل انسان، لكن هناك من يتحكم بحالة الطمع ويمكنه ترويضها والحد من مخاطرها، وهناك من تتحكم به حالة الطمع والجشع، فيفقد في هذه الحالة إنسانيته، ويتحول الى كائن تقوده رغباته وأهواؤه وغرائزه، بدلا من أن يقودها ويروضها ويتحكم بها.

لقد أثبتت تجارب الشعوب والأمم التي قطعت أشواطا مهمة في طريق التقدم، أن قيمة مراعاة الآخر، كان لها دورا كبيرا في إحداث نقلات سلوكية واضحة في حياة الافراد والجماعات، وشيئا فشيئا تحولت هذه القيمة من سلوك فردي نادر، الى سلوك جمعي يتداخل مع منظومة السلوك المجتمعي المعتاد، فصار الانسان الفرد في هذه المجتمعات يفكر في مصلحة غيره ونفسه بمقياس واحد، بل هناك من يقدم مصلحة الآخر على مصلحته حسب حالة الاضطرار والحاجة، وهو سلوك لا تصل إليه المجتمعات، إلا اذا بلغت من الرقي الانساني مرتبة عالية جدا.

يصف لي احد الاصدقاء العراقيين المغتربين في احدى دول ما وراء البحار، عن حالة عاشها بنفسه هو وعائلته، تثبت أن ذلك الشعب ملتزم التزاما قاطعا بقيمة مراعاة الآخر، يقول صديقي كنت قد نويت السفر، فوضعت عائلتي والحقائب في سيارتي، واتجهت الى مطار المدينة على امل ان اركن سيارتي في مرآب المطار، وبعد العودة الى المطار نفسه نستقل سيارتنا ونعود الى البيت، ولأنني لا اعرف طريق الوصول الى المطار، قادني اليه احد الاصدقاء، هو يمشي امامي بسيارته وانا أدرج وراؤه حتى نصل الى المطار، كان الطقس رديئا والامطار تزايدت، الامر الذي جعلني افقد سيارة صديقي، ولم استطع مواصلة السير الى المطار فركنت سيارتي جانبا، وبقيت محتارا لا اعرف ماذا افعل، في هذه الاثناء توقف رجل من شعب تلك الدولة التي اعيش فيها بسيارته، وسألني هل انت بحاجة الى مساعدة، فأخبرته انني اريد الوصول الى المطار ولا استطيع ذلك، فطلب مني ان اركن سيارتي جانبا وانتقل انا وعائلتي الى سيارته وهو يقوم بإيصالنا للمطار، وعندما رفضت ذلك خوفا على سيارتي، ركن الرجل سيارته جانبا وقاد سيارتي الى المطار، ثم عاد الى سيارته بعد كراء سيارة اجرة، وعندما ابديت رغبتي بدفع الاجرة الى السائق رفض ذلك بشكل قاطع و ودعنا عائدا الى سيارته!!.

إن هذا المثال حدث في دولة ليست مسلمة، والرجل الذي التزم بقيمة مراعاة الآخر ليس مسلما ايضا، ولكن الناس في هذا البلد يشعرون ببعضهم البعض، ويراعون شؤونهم واحتياجاتهم ويقفون الى جانب بعضهم، كسلوك يدخل في نشاطهم اليومي دونما إجبار، بل هو السلوك الذي تعلموا عليه واعتادوه في تفاصيل حياتهم اليومية، وهذا التمسك بقيمة مراعاة الآخرين لم يتحقق لهم في ليلة وضحاها، فقد تربوا على هذه القيمة صغارا، واصبحوا شعبا متعاونا مع بعضه، لدرجة أن حالة نكران الذات والتعامل الانساني تشكل نسبة عالية في سلوكهم ازاء بعضهم.

وهكذا نحتاج الى زرع هذه القيمة السلوكية الاخلاقية الانسانية العميقة، في سلوك اطفالنا، وفي سلوكنا نحن الكبار حتى يتعلم منا صغارنا، ولابد أن تدخل هذه القيمة في أدقّ تصرفاتنا، مهما كانت بسيطة، فعندما اريد أن اركن سيارتي جانبا، يجب ان اتنبّه هل أنني سأتسبب بمضايقة للاخرين، وهل سأربك السير وهل سأضايق المارة، هذا النوع من التفكير بالآخر ينم عن مراعاة الناس، وهكذا ينبغي أن يشمل هذا التفكير جميع تفاصيل الحياة، كي يتحول المجتمع كله، من مجتمع لا يعبأ أفراده ببعضهم، الى مجتمع يراعي فيه الناس حاجات واهتمامات بعضهم البعض، هذه القيمة الكبيرة من قيم التقدم ينبغي أن نعمل جميعا من اجل غرسها في نفوس اطفالنا حتى تكبر معهم وتساعدهم على اللحاق بالركب الانساني المتقدم.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 28/آب/2013 - 20/شوال/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م