عن الدولة الحديثة

قاسم بن على الوزير

 

 يتعذر علينا اقتحام عتبات العصر إذا نحن لم نفهم حقيقة هذا العصر كما هي، لا كما نحب، أو ندعي - على الأصح – أننا نحاول أن نفهمها.

 وفي طليعة ما يعنينا الآن من هذا الأمر، هو موضوع " الدولة الحديثة " التي يكثر الكلام عنها هذه الأيام دون الوقوف – ولو قليلا – عند طبيعتها من الفهم ‘ وتتكرر المناداة بها دون التعرف – ولو إجمالا – على وظيفتها من أجل التطبيق العملي.

 ولست أهدف إلى تناول موضوع الدولة ذاتها في هذه السطور، لأن أي بحث جاد لذلك سيقودنا منهجيا إلى قضية معرفية أو فلسفية أكثر منها عملية. والجانب العملي هو ما نستهدفه هنا فالدولة الحديثة قد أصبحت من ناحية " غولا " يتهدد مصائر الإنسان ويزعج طمأنينته، وينتهك خصوصياته، ويتحكم في قدراته ومقدراته من حيث تغلغل أجهزتها في المجتمع وتعقد أساليب عملها وتنوعها، ومن حيث سيطرتها – بأشكال مختلفة غير محسوسة دائما – على حرية الإنسان الذي لا يشعر مباشرة باستلابها منه وانتهاكها لحقوقه وحرماته.

 ولكنها في وجهها الأخر أصبحت أداة لتنظيم شؤون المجتمع وتوفير الخدمات له وتنسيق جهوده حتى لا تتضارب فتذهب فاعليتها، كما أصبحت " القوة " المسئولة عن تطبق القانون، بما يتضمن ذلك من حق في احتكار " القوة " من أجل ذلك، بقوة القانون وباسمه.

 والدولة – على هذا – هي من حيث السيادة دولة القانون، وهي من حيث الوظيفة دولة الخدمات الاجتماعية.

 هذا – على وجه الدقة – هو ما يعنينا الآن. ونود هنا استجلاء معالمه من أجل أن تصبح شعاراتنا ذات مضمون، ويصبح هذا المضمون مالكا أو مرتبطا بوسائله التي يتحقق بها في الواقع.

 إن أول سمة يجب أن نتلمسها في الدولة هي الوجود العملي لسيادة القانون أولا. فإذا انعدمت هذه السيادة فإن الحديث عن الدولة الحديثة هو هراء لا طائل تحته، لأنه يكون حينئذ حديثا عن السلطة التي يمكن أن تكون سلطة عصابة أو سلطة فرد أو سلطة عائلة أو عشيرة. إنها هنا مجرد " تسلط " يقوم على أساس القدرة على القمع وحدها، خدمة للتسلط. من هنا تصبح " القوة " المجردة هي الشرط، وهي المعيار، وهي الحكم في آن واحد.

 ثم تأتي سمة أخرى هي طبيعة القانون نفسه. إذ لابد أن يكون هذا القانون:

- كافلا لكرامة الإنسان وحقوقه وحرياته.

- ومنظما لواجباته.

- ومحققا لمصالحه.

 وبمشاركة فعلية منه – على أي نحو – تتحقق به المعادلة البالغة الأهمية: إنه إذا كانت السيادة هي للقانون فإن مصدره هو الإنسان نفسه. ومن هنا يكتسب القانون قوتي المشروعية والإلزام.

 فإذا ما كان القانون غير ذلك، فإن الحديث – مرة أخرى – لن يكون عن الدولة الحديثة، ولكن عن السلطة والتسلط التي تستخدم وسائل الدولة الحديثة، دون التقيد بقوانينها الكابحة، وهي وسائل مرعبة سخرها لها التطور العلمي المذهل، فغدت بذلك أشد ضراوة من الوحوش الكواسر، وأكثر عتوا وعدوانية من كل أشكال السلطة والتسلط في ماضي الإنسان وتطوره على امتداد تاريخه السياسي والاجتماعي كله.

 ههنا، إذن، ملمحان أو معلمان يجب أن لا تغفل عنهما عين حين تبحث عن " الدولة الحديثة" في ركام الفوضى المدوية ؛ فوضى الخرائب ذات الضجيج العالي للمطاحن، المحروسة بالتهم الجاهزة من كل نوع، دينية أو وطنية، حسب المطلوب للمناسبة !.

 إن سيادة القانون هي شرط وجود للدولة الحديثة. أما وظيفتها فهي اجتماعية بالدرجة الأولى. ومعنى ذلك: إن أهم واجباتها وأولى مسؤوليتها هي تقديم الخدمات، وتوفير الضمانات الاجتماعية لمواطنيها ؛ لأن مهمتها – كما أصبح متعارفا عليه – هو تحقيق " مجتمع الرفاه " وعلى أساس ذلك تقوم الحكومات وتسقط. وعلى أساس من ذلك تنجح الأحزاب في الانتخابات وتفشل. ومن أجل ذلك أصبحت السياسة في خدمة الاقتصاد، وبات مدى انعكاس الوضع الاقتصادي على المجتمع هو العامل الأساس في تحديد المصير السياسي للحكم والوجهة السياسية للدولة كذلك.

 ثم تأتي مهمتها أو رسالتها، وهي سياسية. وتتمثل في أمرين:

- الحفاظ على سيادة وسلامة أرضها وقرارها.

- دورها – أي رسالتها – في محيطها وفي عالمها، وذلك أمر منوط بأساسها الفلسفي والأخلاقي الذي تنطلق منه.

 على أن هذا المفهوم " للدولة الحديثة " ليس غريبا عنا نحن المسلمين، لا في جوهره، لا في أشكاله ولا في وسائله. وبالتالي، فإنّ رفض بعض "الجماعات الإسلامية" لمقولة "الدولة الحديثة" يحتاج إلى وقفة معه، وأنا أحب أن أتطرق إلى هذا، لأنه ليس خارجا عن الموضوع وإن لم يكن في صميم السياق:

 إن الإسلام هو أول من طرح هذا المفهوم للدولة في التاريخ. فلم يشهد التاريخ قبل الإسلام، نظاما يجعل في صلب دستوره الملزم " حق معلوم للسائل والمحروم ". ولم يشهد نظاما يحدد نسبة مئوية محددة من كل دخل هي الزكاة تعود على أوجه شتى من وجوه حاجات المجتمع، ويجعل ذلك ركنا من أركان العقيدة التي يقوم عليها النظام ويكتسب القانون بها، ليس سيادته فحسب بل وقداسته. ولم يشهد التاريخ أيضا نصا قانونيا ملزماً من ناحية عملية ومقدسا من ناحية نفسية، له تلك السيادة وهذه القداسة، يحدد وجهة السياسة المالية والاقتصادية بشكل صارم لـ " كي لا يكون دولة بين الأغنياء "، وذلك من أجل أن يدور في أوردة المجتمع دورة الدم في أوردة الجسم الحي تتغذى به، وتعيش عليه سائر الأعضاء.

 وأيضا.. وأيضا.. ! لكن ليس هذا هو موضوعنا الآن، إنما لا بد من الاشارة إلى أن الدولة في الإسلام تمتاز – إلى ذلك كله – بالتزامها الأخلاقي الصادر من قوة أعلى لا تملك تغييرها، ومن ثم تحول بينها وبين التحول إلى غول كما هي الدولة الحديثة في جانبها السلبي.

 لقد سبق لي أن أعددت ورقة بحث لواحد من الملتقيات التي دعيت للمشاركة فيها بورقة عن (الدولة في الإسلام) تطرقت فيها إلى هذا الموضوع. لقد قادني ذلك البحث إلى أن الدولة في الإسلام هي "دولة المجتمع" من الناحية السياسية، و"دولة الخدمات والضمانات" من " الناحية الاجتماعية"، وان مهمتها ومشروعيتها وحقوقها قائمة على ذلك الأساس، ومنوطة به. ومن ثم تسنى لي أن أطلق عليها "الدولة الاجتماعية". وقد برهنت في ذلك البحث، أو حاولت، أن الإسلام كان أول من وضع هذا المفهوم للدولة وطبّقه – لفترة – وأقامه على أرض الواقع قبل أن تحجبه هجمة الانحراف الصاعق الذي فاجأه في وقت مبكر قبل أن يشتد سوقه ويضرب بجذوره عميقا في المجتمع بالدرجة الكافية للتحصن من الانحراف وعنه. وبهذا فليس ثمة مكان لمفهوم "الدولة الدينية" في هذا الإطار. إنّ "دولة المجتمع" تقوم على مفاهيم الحرية والعدالة والمساواة للمجتمع كله، وهي الأسس التي يقوم عليها المجتمع المدني، ومن ثمّ "الدولة المدنية".

 ولكن لماذا أعيد ذلك ههنا؟

 ليس للتغني بأمجاد الماضي بكل تأكيد، ولا للتبجح بعظمته بكل يقين، كلا ! وليس هو للهروب من وجه هذا الحاضر الكالح إلى شمس ذلك الأمس المشرق البعيد، لياذاً بدفئه وإشراقه بأية حال.. وإنما هو لغاية عملية مهمة، تربط دائما بين البواعث، من حيث هي عملية نفسية معيقة أو دافعة، وبين الموروث، وضواغط المغلوط من المفاهيم، وكوابح الجهل التي تشل القدرة على التفاعل والتأثر بمعطيات الحركة التاريخية والتأثير فيها.

 إننا نستشرف أفاق المستقبل، ونحن لا نفعل ذلك دون مدد ضخم من موروث مشرق، يمدنا بالطاقة، وينور لنا الدرب، ويطلق النفوس من إسار عصور الانحطاط المريعة.

 فلسنا بحاجة إلى قطيعة مع الماضي كله – كما يدعي الحداثيون المزيفون – لكي ندخل العصر، وإنما نحن بحاجة إلى إعادة الصلة الحية بأفضل ما في ذلك الماضي الذي بزغت من حضارته أسس هذا العصر، ووضعنا في قلبه منذ خمسة عشر قرنا، الصلة التي تتجاوز بقوة ووعي وعزم عصور الانحطاط التي أورثتنا كل ما نحن فيه، وما برح موروثها يكبلنا بالقيود الثقال ويضعنا خارج المعادلة التاريخية التي تنتج الحضارة.

 وحين نعيد صلتنا بمفاهيمنا الحية، وبتراثنا الحق، فإننا لن نجد أنفسنا غرباء عن العصر، ولا واغلين عليه أو أيتاما على مائدة اللئام من سادته، لأننا سنجد أن أفضل ما في هذا العصر، وخير ما أتى به، إنما هي هبة قيم الإسلام الأصلية التي أنشأت حضارته الباذخة.. فعودتنا إلى تلك القيم هي إيذان بدخولنا – مرة أخرى – عالم الحضارة. أما القطيعة معها فهي قطيعة مع الأمس واليوم والغد جميعا. إن الذين ينادون بالقطيعة مع الأصول هم كالذين ينادون بالقطيعة مع الحداثة، وكلا الفريقين مقطوع الصلة بالأمرين معا، وليس له من فقه الحضارات نصيب.

 إن المستقبل المنشود ليس غريبا عنا، لأنه كان، منذ البدء، متوطنا فينا فنحن إذ نقتحم العصر بهذه العدة إنما نلج إلى عالم بيننا وبين أفضل ما فيه ألف وشيجة ووشيجة، وإنما يجب أن نبادر بقوة إلى "القطيعة" الواعية مع عصور الانحطاط التي قطعت الصلة بين المنبع والمصب، فأنحبس ذاك، وتأسن هذا. وحين نتجاوز هذه العصور ستعود المياه إلى مجاريها فيتجدد الآسن، ويحيا الموات، وتشرق الأرض بنور ربها.

وعودة إلى السياق:

 إن سيادة القانون إذن، هو عنوان الدولة الحديثة. ومفردات هذا القانون هو مضمونها. وهي مفردات تقاس بمدى صيانتها لحقوق الإنسان وتنظيمها لواجباته، وقيامها بما لا يستطيعه الإنسان بمفرده، ولا المؤسسة الخاصة بمفردها. وهذا هو ما يبرر وجودها اليوم.

 إن واجبات الدولة الحديثة هو تنسيق الجهود والموارد، وتذليل الصعاب، والقيام بما لا يقدر عليه الجهد الخاص مؤسسات وأفرادا من أجل تحقيق أقصى حد ممكن من الضمانات لمواطنيها. وعلى أساس هذه الواجبات تتحدد حقوقها، بما في ذلك حق تطبيق القانون. ولكن هذه الحقوق تسقط تماما حين لا تؤدي الدولة تلك الواجبات.

 على هذا، يحق لنا أن نتساءل عن الواجبات التي تؤديها الدول في بلداننا تجاه مواطنيها. إنها تأخذ كل حقوقها وتصادر كل حقوقهم. وإذ أنها لا تؤدي أي واجب من واجباتها فإن السؤال هو: بأي حق إذن تجبرنا هذه الدولة على أداء حقوق لها أصلا.. كالطاعة ودفع الضرائب مثلا.

 وبما أن الحقيقة هي هذه فإننا حيال " سلطة " لا " دولة ". ولن تكون لنا دولة حديثة إلا حين تكون السيادة للقانون أولا، ويكون القانون في خدمة المجتمع الذي يشارك أعضاؤه في صنعه وإصداره. ومن ثم يلتزم به، ويكون الإنسان في ظله متكافئ الحقوق والواجبات، متمتعا بمواطنية متساوية. ويكون واجب الدولة هو حراسة ذلك وتنفيذه. واحتكارها للقوة هو من أجل ذلك، ومن أجل ذلك وحده على كل حال.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 25/آب/2013 - 17/شوال/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م