المثقف المتعصّب

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: المثقف عملة نادرة في المجتمع، نموذج ينظر إليه الآخرون باحترام، و تقدير، ويتم تقليده في الغالب، بالقول والفكر، وهناك أسباب كثيرة تقف وراء هذا الاعجاب بالمثقف، كونه يمثل الصورة الأكمل للآخرين، تلك الصورة التي تجعل من الانسان واعيا فاعلا متفاعلا حكيما متسامحا متوازنا، يحب الانسان لانسانيته فحسب، ويحترم الجميع بغض النظر عن طبيعة الانتماء.

هذا النوع من المثقفين، هو النموذج المثالي للمثقف، وقد تحدثنا في مقالات ثقافية سابقة عن أنواع المثقفين تبعا لأفكارهم وسلوكهم، وغالبا ما كان يشير عنوان المقال الى طبيعة المثقف، فهناك المثقف الانتهازي، والمتملق، والعدمي، والخامل، وهناك المثقف المبدئي، الريادي، الايثاري، وما شابه من صفات وتسميات، تُنسب للمثقف أو يُنسب لها، حسبما يقوم به من أنشطة وافكار، عبر كتاباته ومؤلفاته ومحاضراته المستمدة مما يؤمن به.

المثقف المتعصب يحضر في ساحة الفعل الثقافي والاجتماعي ايضا، وهو موجود في النسيج المجتمعي، يتداخل معه ويتحرك فيه، ويترك آثاره في الفعل الثقافي والمجتمعي ايضا، ما نعنيه هنا بالمثقف المتعصب يبدو واضحا، بيد أن الامر ليس بهذه السهولة التي يوحي بها المعنى الظاهري لمفردة التعصب، لأن التعصب نفسه يتفرع الى انواع، منها التعصب الثقافي الاعمى، والتعصب المركب وغيرها، إذ يرفض هؤلاء أية افكار لا تتفق مع افكارهم، ويذهب هؤلاء الى الايمان بفكرهم وحده لدرجة التزمت غير المبرر، وغالبا ما يرفض هؤلاء المثقفون غيرهم، ولا يعترفون بأفكار لا تلتقي بأفكارهم، وهم مستعدون دائما لالغاء الآخرين بصورة شبه تامة!.

مشكلة هؤلاء المثقفين المتعصبين، أنهم لا يؤمنون بحرية الفكر، وهم لا يرون في هذا العالم سوى أنفسهم وذواتهم وأفكارهم، لذلك غالبا ما ترافقهم اساليب الاقصاء والتهميش الذي يقومون به بصورة شبه آليّه، لكل من يتعارض معهم بالافكار والسلوك ايضا، وغالبا ما يشكل هؤلاء المثقفون المتعصبون عقبة كأداء بوجه التطور المجتمعي، بسبب حالة التعصب التي تعصف بعقولهم وافكارهم، فهؤلاء يشبهون تماما من ينظر الى الحياة بعين واحدة لا غير، ويتصرف وفقا لمصلحة ورؤية ذاتية ضيقة، لا تنسجم مع الانفتاح الذي يشكل سمة واضحة وقوية لعالم اليوم، إنهم باختصار لا يعترفون بغيرهم لسبب بسيط، أنهم يرون في فكرهم هو الوحيد الذي يجب ان يسود ويتقدم ويتصدر الافكار الاخرى، ولا يؤمن هؤلاء بشكل قطعي بأية فكرة اخرى، بسبب حالة التعصب القصوى التي يقعون تحت ضغطها وتأثيرها.

وبهذا يتضح أن المجتمع الذي ينحو الى المدنية، سيعاني كثيرا من المثقف المتعصب، لأنه يتسبب في إعاقة التلاقح الفكري بين مكونات النسيج المجتمعي، إذ هناك شعوب وامم تتكون من مئات الانتماءات، وتتداول مئات اللغات، ومع ذلك ذابت في بوتقة واحدة وانسجمت وتقدمت كما هو الحال في التجربة الهندية، أو الصينية، وعلى العكس منهما، هناك شعوب قليلة النفوس قياسا الى الهند والصين، ومع ذلك بسبب الثقافة المتعصبة والمثقفين المتعصبين، لا تتقدم هذه الشعوب ولا تنسجم في بوتقة واحدة، بسبب الفكر المتعصب واصحابه، وما ينشرونه من ثقافة متعصبة، لا تقبل الاخر بأي حال من الاحوال.

لذلك اذا اراد المجتمع، أي مجتمع كان، ان يغذّ السير نحو التمدن، عليه أن يعالج ظاهرة التعصب الثقافي، ويكبح جماح المثقف المتعصب، من خلال نشر الثقافة المتسامحة التي تقبل الجميع وتحترم افكار الجميع، وهذا الاحترام لافكار الاخر لا يلزم الأخذ بها او العمل وفقا لها، بمعنى أوضح يمكنك أن تحترم الفكر الآخر ولا تعمل به، وهذه القاعدة تنطبق على الجميع، فلا يجوز تطبيق القسرية الفكرية على الآخرين، بل هناك شرط واضح لتحقق التقدم المدني، يتمثل بالحد من التعصب الثقافي، واقناع المثقف المتعصب، بتغيير قناعاته القارّة، والتمرّن باستمرار على احترام الرأي الآخر.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 20/آب/2013 - 12/شوال/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م